عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

منجي العيساوي - تونس

المحمية


كان مارّا من أحد أسواق المدينة العتيقة تدفعه جموع المارّة يمنة ويسرة، وكان العرق النّاز يثير لديه رغبة التقيؤ لولا فسحة الطّيب التي تنبعث من مجامير الباعة. رماه التدافع أمام دكّان أحدهم. رآه يقنع جمعا من السّياح بشراء بضاعته. دفعه الفضول والطمع في أن يراود أحد الشقراوات، فقد تشفق عليه أو تحبّه فتأخذه معها إلى بلادها، إلى الالتصاق بهم أكثر .ولكن ما استرعى انتباهه هو تدافعهم إلى العقارب المحنّطة بين دفّتي أغلفة الشرائط الموسيقيّة وإقبالهم على شرائها إقبالا فاق توقّع حتى صاحب المحلّ.

عندما غادر السياح المحلّ وأخرجه سيل المارّة من النهج الضيّق إلى ساحة ميناء فرنسا. جلس بمقهى دينار يستعيد صورة السيّاح في تلهّفهم على شراء العقارب. لم ينس الزاهي أصله الريفيّ. عادت إلى ذاكرته فترة الصبي وكيف كان وأقرانه يجمعون السّوام لبيعها يوم السوق الأسبوعية بلا ثمن. وحزر أنّها كانت تستقرّ بهته الدكاكين لتباع لهؤلاء السياح. تذكّر أنّ في قريته لا يكاد يخلو حجر واحد من عقرب تحته. ألا يمكن أن تتحوّل هته السّامة إلى مصدر للثروة؟

تصفّح الزاهي جريدته التي ابتلت عرقا وساح حبرها الأسود بين أصابعه. فتح صفحة الإعلانات. كان يقرأها بتفاصيلها كأنّه يبحث عن شيء محدّد. كانت تلك عادة اكتسبها من مصاحبة بعض السّماسرة من أصدقائه الذين أقسم له أحدهم أنّ سبب ثروته إعلان في جريدة لا قيمة لها. فلما لا يكون اليوم يوم حظّه؟ إنّه صاحب فكرة والمال تجمعه الأفكار الجديدة.

أشعل سيجارة يدخّنها. أطفأ عقبها بالمطفأة الصدئة. لم يعثر الزاهي بعد على الوسيلة التي يبيع بها فكرته. هل يعلن عنها بالجريدة. هل يبحث له عن شريك، أم يفاتح أحد أصدقائه من أصحاب المشاريع؟ ولكنه خاف من أن تسرق منه الفكرة ولا يجنى إلا الحسرة.

بعد التفحص والتمعن أيقن الزاهي أنّ اللذّة لا يظفر بها إلا الجسور، فقرّر أن يعتمد على نفسه، وألا يتّخذ لنفسه شريكا. أحصى الرجل أمواله وباع عقارا يمتلكه فأمكن له بذلك جمع المال الذي سينجز به مشروعه.

تصفّح خريطة المسالك السياحية للبلاد. لم يعثر على قريته بين المسالك. لما لا يكون إذا صاحب المبادرة ويلحقها بها، فالزمن زمن الانفتاح والمبادرات الحرّة والبيع، بيع كلّ شيء، فالبيع شعار المرحلة؟

استعاد الرّجل صورة السيّاح وهم يتلهّفون على التقاط العقارب المحنّطة. تخيّل الزاهي كيف سيكون حالهم عندما يرون العقارب عن كثب في مكانها الطبيعي. رأى توافد السياح من كل الجنسيات تتدفّق على ساحة ميناء فرنسا وعلى الدكاكين المقفلة ومعصرة الزيت القديمة فتسرع أمامهم صبيّة تقلّب لهم الحجر وتريهم العقارب على حقيقتها، ثم يشقّون طريقهم بين صفوف التين الشوكي التي تعاند في طولها أشجار الزيتون.

التين. سيكون للتين كسلطان للغلّة دوره في جلب السياح لمنافعه الغذائية. سيفرد لجنة خاصة للدعاية والترويج. سيكون التين الشوكى العلامة المميّزة في المطاعم. علامة مسجّلة لعهد جديد في التغذية الصحية الخالية من المواد الكيميائية. سيقدّم في أطباق متنوّعة تسحر الناظرين.

اقترب النادل من الطاولة فمسحها. نظر إليه الزاهي قائلا:

هل تحب أكل "الهندي"؟

ضحك النادل: "ياحسرة. آش كون ينجّم يخلط عليه. توّة راهو يتباع أغلى من الموز. وين عايش خويا."

أدرك الزاهي أنّ أفكاره تساوى ذهبا فعلا وأنّ "الهندي" الذي لا قيمة له سيكون مصدرا لثروته.

أبطأ النادل بالوقوف متماديا في الحديث أراد الزاهي أن يصرفه عنه فمشروعه لا يحتمل الخير، فطلب منه أن يناوله قهوة أخرى مع قارورة ماء.

خمّن الزاهى لو أنّ سيّاحا سحرهم منظر القرية وأرادوا المبيت. جال ببصره رأى المساكن مهترئة متناثرة. لم يعثر بينها على مأوى واحد يليق بهم. أمعن النظر وتفرّس، فقابلته بيوت القشّ المبنية بقصب السنابل. ولج واحدة منها فصدّته رائحة الأكل ودخان الموقد ورائحة الرّماد المتناثرة.

خرج مسرعا وقد عثر على مبتغاه. لما لا تكون هته الأكواخ هي الحلّ. سيبنى سلسلة أكواخ جديدة برائحة القصب الندّيّة الذي لم يلوّثه الدّخان العفن، تكون سلسلة مباني في شكل دائرة مغلقة تتوسطها مجموعة أخرى أصغر مساحة. يخصص جزء منها لبيوت الاستحمام، وجزء آخر للطبخ، مجهّزة بمجامير طينية بأشكال جديدة وبألوان زاهية، على شكل تحف فنيّة تستعمل للطبخ وللإنارة إن لزم الأمر مع المصابيح البترولية التي ستحيل العتمة في قريته إلى نور وهّاج يجلب الرّخاء له ولها، ويقي الأهالي مشاق التّرددّ على أعتاب المسئولين مطالبين بإيصال النور الكهربائي.

ستنسي مجاميره وفوانيس البترول والسيّاح الأهالي المطالبة بالكهرباء. وما جدواه إن كان سيشوّه صورة القرية التي يريدها مثالا للسياحة البيئية وأمثولة يكون له السّبق في إنجازها واستثمارها، فهؤلاء السّياح يبحثون عن الأماكن الخام التي لم تطأها أقدام العولمة.

أراد الزاهي أن يشرب. دخل كوخا. جال ببصره أركانه. لم يجد للماء أثرا. من أين يتدبّر الماء؟ سيسقيهم من العين الجارية العين التي شرب منها أسلافهم زمن الحرب العالميّة الثانية. ولكن الزمن تغيّر وهم ليسوا جنودا مكرهين على شرب أي ماء. ثم وان علموا أنّها عين سائبة ترتوي منها الدّواب وأهل القرية والسّوام على حدّ السّواء فسيشهرون عليه سيف حقوق الإنسان الذي لن يستطيع أعادته إلى غمده، وبذلك لن يكتب لمشروعه أن يرى النّور أصلا، ولن تستغلّ سلسلة أكواخ القصب، ولن يسوّق التين الشوكي، ولن يكون رائدا للسياحة البيئية ولن..، ولن...، ولن تمتلئ جيوبه.

هل أهدم المنتجع الذي بنيت؟ أشعل فيه النّار؟ أو أتركه لأهل القرية بلا ثمن فيصبح مرقدا لخرفانهم؟ لا، لا يمكن لمشروعي أن يتوقّف من أجل الماء. آه لو كان بإمكاني أن أمنع وصولهم إلى مصدر العين لحلّ الإشكال؟ لا، لا يمكن أن أغامر فهؤلاء السيّاح رغم ما يبدونه من بلاهة فهم فضوليون لا تقنعهم الأجوبة الجاهزة.

وقف النّادل أمامه يطلب الحساب فقد انقضت حصّته في العمل. قذف صبيّ كان يتّخذ من ساحة ميناء فرنسا ملعبا بكرته. نطّت فوق الطاولة. سقطت قارورة الماء المعدنية فتهشّم البلّور على الأسفلت. خرج صاحب المقهى يستحلى الأمر. نشب بين النادل الواقف أمامه وبين والد الصبي خصومة. التصق الصبيّ بخصر والده مرتعبا.

وقف الزاهي واتّجه إلى النادل مهدّئا من حنقه على الرّجل، وناوله ثمن القارورة التي يطالب بها وهو يقسم أنّ ثمنها أغلى من ثمن الماء. تذكّر الزاهي منتجعه. أعطى قطعة نقود إلى الصبيّ المفزوع قائلا:

"لا تجزع بابني. كسّر كلّ القوارير إن أردت. لقد أطفأت نارا كانت ستلتهم سلسلة فنادقي. شقاء عمري وأحلامي."

جلس الزاهي بمقعده مطلقا ضحكة أدارت لها رؤوس الحاضرين. لم يكترث لهم وعاد مسرعا إلى مشروعه قبل أن تلتهمه نار حيرته. عاد محمّلا بقوارير الماء البلاستيكية يرصّفها وسط سلال الحلفاء المعلّقة في كل ركن من أركان كلّ كوخ.

عندما انشغل الزاهي بالصّبيّ والنّادل، وفي خضمّ ترصيفه للقوارير، اقتحم الأهالي سلسلة فنادقه فضولا واستجلاء لما طرأ على قريتهم من تغيير. والواقع أنّ موقفهم لم يكن عدائياّ بقدر ما كان حبّ استطلاع. ولمّا علموا بهويّة صاحب المشروع وأيقنوا أنّه "الزاهي ولد فرهود سارح جيرار المعمّر" ازداد توجّسهم، وزال استغرابهم. ولكنّهم تمسّكوا بتلابيبه واستأنسوا به، فقد يخرجهم من عزلتهم ويرفع عنهم ما علق بهم من حرمان. ألم يكن أوّل من أدخل "البارابول" (*) إلى القرية ولم يمنعه على أحد؟

ولكنّ الزاهي توجّس الرّيبة في اقتحامهم لمنتجعه بلا استئذان. فهؤلاء القرويّون أهله وهو يعرفهم أكثر من غيره، فلا تغرنّكم طيبتهم التي تصل إلى حدّ السّذاجة. لا يمكن لأحد أن يدوس عليهم بطرف، فهم لا زالوا يتقاتلون من أجل حفنة تراب.

يعرف الزاهي أنّه لو لم يكن هو صاحب المشروع ولولا ما هم فيه من خصاصة قسمت ظهورهم لما سمحوا لأحد بإنجازه بينهم. قال الزاهي: عليّ أن أروّضهم قبل أن تتجدّد لهم مخالب وأنياب. عليّ كبح جماحهم وتدبّر أمرهم قبل أن ينفلتوا من عقالهم فلا أستطيع لهم ردّا.

عندما رأى منظر النسوة والرّجال يتبخترون في أزيائهم التقليدية خفّ غضبه، وراودته فكرة خرافيّة: إذا كنت سأجلب السيّاح لمشاهدة العقارب والأفاعي فلما لا يشاهدون هؤلاء الناس الذين هصرتهم سلسلة الجبال وسط السّهل الضيّق من الكرة الأرضية.

أقسم الزاهي أن لا مثيل لهذا المشهد في العالم، فهذا المشهد الفريد سيكون دافعا لنجاح قطبه السياحي النّموذجيّ، رغم تهورّهم عند اقتحامهم للمنتجع أثناء انشغاله بالصبيّ والنّادل. وعدّ ذلك إهمالا وتسيّبا من العسس.

أشعل الرّجل سيجارة وطلب قهوة أخرى وأخذ يعدد أرباحه. ولمّا فرغ من تدخين السيجارة، حرص على أن يطفئها بعقب حذائه فالنار عدو لسلسلة مبانيه.

أسرع الزاهي بافتتاح المشروع وحضر المسئولون والأهالي مباركين ومهنّئين. وقد حرص الزاهي على انتقاء أشدّ الفتيان بأسا وأحسن الفتيات جمالا ليكونوا حرسا وخدما لمشروعه، فألبس الحرس بدلا خاصّة تضفي عليهم الصرامة والحزم، والفتيات أبقاهم على لباسهم التقليدي.

رأى الزاهي جموع السياح تتجوّل فرادى وجماعات يقودهم بنفسه أو من انتدبهم للغرض لاكتشاف تراث قريته، يتطلّعون إلى الوجوه التي تحمّلت عبء السّنين. كان السّياح يلجون بيوت الأهالي، يتطلّعون إلى نمط حياتهم. وكان بعضهم يستقبلهم بحفاوة وكرم، ولكنّ البعض الآخر تبرّم لسلوكهم باقتحامهم خلوتهم وهتك خصوصياتهم، فأزعجهم وجودهم، فبادروا بمغادرة منتجع الزاهي واتّخذوا لأنفسهم مكانا قصيّا.

عندما علم الزاهي بتواتر موجة المغادرين خاف من أن تصير قريته قرية أشباح.

هبّت نسمة هواء خفيفة على ساحة ميناء فرنسا. تطايرت له صفحات الجريدة المفتوحة فوق الطاولة فأعاد غلقها بحزم. أحسّ الرّجل بقشعريرة. عاد مسرعا إلى منتجعه محمّلا بأطنان من الأسلاك الشائكة في انتظار أن يبنى صورا إسمنتيا. استدعى على عجل كل معاونيه في ذلك المساء، وأحاط القرية بسياج من كل الجهات، وأقام برج مراقبة وبابا كبيرا وضع عليه عسسا لا يبارحونه.

عندما استفسر الأهالي أعلمهم الزاهي بأن لديه أخبارا مؤكدة بمحاولة بعض الحسّاد من القرى المجاورة تخريب إنجازه، وبأنّه لم يفعل ما فعل رغم ما تحمّله من مصاريف إضافية إلا حماية لهم. وأعلمهم بأنّ الخروج والدّخول إلى المنتجع لن يكون إلا بتصريح منه شخصيّا، حماية لهم وللقرية.

لمّا فرغ الزاهي من إسداء آخر تعليماته ورأى علامات الرضى على الوجوه المعفّرة ترابا بفعل هبوب رياح المساء المغبّرة انشرحت أساريره.

وقف بالباب يتطلّع إلى قافلة سيّاح تتّجه نحوه. ولمّا اقتربت نط صبيّ من الباب باتّجاهها محاولا إرشادها إلى المدخل الجديد، فقفز الزاهي خلفه محاولا صدّه والإمساك به. جرى في بطحاء ساحة ميناء فرنسا ملوّحا بيده شاتما لاعنا.

خرج النادل يطلب ثمن المشروب فرأى جريدة الزاهي تتقاذفها نسمات الهواء وهو يجرى مطاردا صبيّا ينطّ وراء كرته.

= = =

(*) البارابول: طبق لالتقاء البث التلفزيوني عبر الأقمار الصناعية.

D 1 نيسان (أبريل) 2009     A منجي العيساوي     C 0 تعليقات