إبراهيم يوسف - لبنان
الـخـطـيـئــة
لعلَّه العام 1953 حينما نجحت في امتحان الشهادة الابتدائية (certificat)، وانتقلت بعدها لمتابعة الدراسة، من إحدى قرى الرِّيف ألبقاعي ألأوسط، إلى زحلة أكبر وأهم مدن المحافظة، مصيف واسع الشهرة يكتنفه واد ساحر، هو وادي العرائش. والتسمية تتماهى مع جودة الكروم في هذا الوادي ويقلُّ نظيرها في مكان آخر.
من قلب الوادي يتدفق نهر البردوني صافيا باردا ورشيقا ينحدر نزولا ليكوِّن رافدا من روافد الليطاني الذي يضيع ماؤه في البحر. هذا المنتجع السياحي الشهير، يؤمه في العادة الميسورون من أبناء المدينة والجوار، وحشد من السياح، عربا وأجانب، خاصة أيام العطل والأعياد، كما يؤمه الفقراء بكل أطيافهم يتنزَّهون مجانا على طريق الوادي يأكلون "السمسميَّة والبوظة" دون أن ترهقهم التكاليف، ولعلَّ وادي العرائش في زحلة يفوق وادي "قاديشا" " الوادي المقدَّس" في شمال لبنان مناخا وسحرا.
وما دام الحديث عن زحلة، فليس من اللياقة في شيء أن نغفل جمال صباياها ونفورهن، وكأني بالحصري القيرواني، هذا الشاعر الذي يستوطن في "قلبه نور الله"، كأَّني به يعنيهن حين يقول:
كلف بغزال ذي هيَف == خوفُ الواشين يشرِّده
صاح والخمر جنى فمه == سكرانُ اللحظِ معربدُه
كلا لا ذنب لمن قتلت == عيناه ولم تقتل يده
نصبت عيناي له شركا == في النَّومِ فعزَّ تصيُّدُه
أيضا ليس من اللياقة في شيء ألاَّ نعرج ليلا نزور مرصد "كسارة" نراقب منه الدُّب الأكبر والدُّب الأصغر، ونغازل نجمة في الشمال، وبعدها ندخل أقبية الخوابي والخمر المعتَّق، نسكر ونقضي ما بقي من الليل في احتفال يقيمه "باخوس" إله الخلاعة والخمر. هذه الخمرة الزحليَّة تفوق الخمور الفرنسيَّة في جودتها، ويعاملها أصحابها من مريدي أبي نواس باحترام بالغ.
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها = = لو مسَّها حجر مسَّته سراَّءُ
قامت بإبريقها والليل معتكر = = فلاح من وجهها في البيت لألاءُ
انتقلت من بلدتي في الرِّيف، إلى زحلة المدينة التي لا تبعد عنها أكثر من ثلاثين كيلو مترا، لأُواصل تعليمي في إحدى ثانوياتها الرسمية، وكانت المدرسة تفصلها مسافة قصيرة عن الغرفة التي استأجرها لي أهلي، في منزل حديث البناء لعائلة زحلية ميسورة الحال، هي عائلة عبد الأحد، في حي من أحياء حوش الزراعـنة، بما يساوي خمس ليرات لبنانية في الشهر. وكانت العائلة تتألف من سيِّدة في العقد الخامس، بيضاء البشرة، ممتلئة الوجه، حسنة القسمات، مقلَّة في الكلام، تطلُّ الطيبة من عينيها، ويرتسم الرضى على محيَّاها، أمَّا الابنة التي لا يغيب عن البال بأنَّها ابنتها، للشبه الواضح بين المرأتين، فقد تعلَّمت في مدرسة القديس يوسف ونالت الشهادة المتوسطة، ثمَّ تزوجت من شاب وسيم، يعمل موظفا في مصلحة السكة الحديد، وسكنت مع الأُم.
كنت أحمل للعائلة لدى عودتي من زياراتي إلى الريف ما تنتجه الأرياف من الخضار والبيض والخبز "المرقوق" وبعض مشتقات الحليب. توثَّقت علاقتي بهم بعد انقضاء أشهر قليلة على إقامتي بينهم، حتى أنَّ السيدة الأُم تنازلت عن استيفاء حقها في الإيجار للمودة التي نشأت بيني وبينهم، كالمودَّة التي تقوم عادة بين أهل الأرياف أنفسهم. قلَّما أعدوا طعاما دون أن أنال حصَّتي منه، وقلَّما تأخَّرت في العودة إلى المنزل دون مساءلة، حتى نتائج الامتحانات كانت بعض مسؤولياتها. ونشأت بيني وبين فتاة تقطن ذات الحي، علاقة حب تركت آثارا عميقة في القلب، وانتهت إلى الفشل للأسباب إيَّاها التي تحكمها الطوائف والأعراف، وأيضا لأنني لم أكن بعد قد أسَّست مستقبلا مضمونا يؤهلني أن أحزم أمري وأتَّخذ قراري لأُكوِّن أسرة، هذا الفشل كان صليبا حملناه معا لوقت طويل.
هكذا نمت بذور علاقتي بهؤلاء الأحبة، وتحوَّلت إلى مودة لم ينل منها الزمن، ولا بدَّلتها الحروب الأهلية المتكررة، وأكثر ما آلمني حين انتقلت السيدة الأُم إلى رحمة ربِّها بعد سنوات، أنني لم أتمكن من المشاركة في تشييع جنازتها لأسباب أمنية، في أعقاب ما عرف يومذاك بثورة 1958. لكنني بكيتها بصمت وصدق.
وإبَّان الحرب الأهلية الأخيرة، في السبعينات كانت العائلة تتسقط أخباري باهتمام بالغ. هذه العائلة لم أزرها منذ سنوات طويلة لا لتقصير في الوفاء، والله يشهد، وإنما بسبب الغربة وقساوة الدنيا.
والأُم التي توفاها الله ما زلت أذكرها بكثير من المودَّة والحنين، وفي أوقاتي الصعبة أفزع إليها في منامي أُفتش عن منزلها ولا أجده. أدخل حارات ضيِّقة، خالية من الناس، لا تتَّسع إلاَّ لجسد واحد، تخنقني وتكاد تكتم أنفاسي، تجري فيها مياه آسنة، ولا تفضي بي إلى مكان يقودني في النهاية إلى منفذ للخلاص. الأبواب موصدة في وجهي، أقول في نفسي لعلَّها وراء الباب التالي، وأقضي الليل أجوب الحارات، أدقُّ على الأبواب فلا تفتح، وإذا فُتِح لي أحدها فإنما لأجد إنسانا لا أعرفه ولا يعرفني، وحينما أواجه الخيبة مرَّة تلو مرَّة أفيق متعرِّقا تعبا.
ربما آن لسر دفنته في نفسي في غابر الأيام، أن أبوح به على الملأ، دون أن تشغلني بعض التفاصيل المحرجة. ولدت سعادتي هناك، في تلك المدينة، وفيها دُفنت ولي في قلبها ثارات، فشل الزمان أن يخمد نارها. أتعبني هذا الصليب، وعزائي أحيانا مع ناجي في هذه الأبيات:
وإذا ما التام جرح، جدَّ بالتذكار جرح
فتعلَّم كيف تنسى، وتعلَّم كيف تمحو
هذه القصيدة، سمفونية الشعر العربي الحديث، هي بعض عزائي في محني.
وبعدما تجاوزت خريف العمر، فأشدُّ ما يشجيني، ويثير في نفسي فيضا من الوداعة والحنين، قصيدة "ورقو الأصفر"، يحملها لي صوت السيِّدة فيروز كلاما يضني، مباشرة من قلب جوزيف حرب، سيِّد الأُغنية الوجدانية التي تلامس القلب والروح.
ورقو الأصفر
شهر أيلول
تحت الشبابيك
ذكَّرني، ورقو ذهب
مشغول
ذكَّرني فيك
وكذلك قصيدة مرسي جميل عزيز، "سوف أحيا"، التي تغنيها أيضا فيروز شريكة الأخوين اللذين أسـسا معها إمبراطورية واسعة هي خير دليل على عبقريتهم.
لمَ لا أحيا وظل الورد يحيا في الشفاه؟
ونشيد البلبل الشادي حياة لهواهْ
لمَ لا أحيا وفي قلبي وفي عيني الحياة؟
سوف أحيا، سوف أحيا
...
إن أردتَ السرَّ فاسأل عنه أزهار الخميلة
عمرها يوم وتحيا اليومَ حتى منتهاه
في ذلك الزَّمن الغابر عرفت سعيد عقل دون أن يعرفني، عرفته من خلال أستاذي في الثانوية الرسميَّة إبراهيم التَّرشيشي، أحد مريديه في ذلك الوقت، الَّذي تأثَّر فيه وأثَّر فينا، وعرفته في زيارات قليلة كان يقوم بها للعائلة التي كنت أسكن عندها، بصفته أستاذ السيدة ابنة صاحبة البيت، حينما كانت لا تزال على مقاعد الدراسة، وعمره آنذاك يزيد عن أربعين عاما، وأولى قصائده كانت بالعامية اللبنانية "مشوار"، ردَّدها مريدوه، وغنَّتها لاحقا السيدة فيروز، وحفظتها منذ ذلك الوقت، أنا العاشق الملهوف.
مين قال حاكيتو، وحاكاني، عا درب مدرستي؟
كانت عم تشتي، ولولا وقفت، رنخت فستاني
وشو هم؟ كنا صغار،
ومشوار، رافقتو أنا مشوار
(. . .)
وقالوا غمرني مرتين وشد
شوف الكذب لوين
مرة منيح، اتنين؟ ولا ردتو ايدي، ولا هو ارتد
شو بيفضحوا أسرار
ومشوار شفتو،
وما رجع مشوار
(. . .)
امبارح بنومي بصرت
إني عا زنده صرت
والأرض مفروشة لنا ياسمين
إن صح الحلم، شو صار؟
ومشوار جينا عالدِّني
مشوار
شاعر الرمزية والتجديد سعيد عقل، ولد العام 1910 وعاصر الوجود العثماني في لبنان، كما عاصر الانتداب الفرنسي وصولا إلى الوقت الحاضر، وهذا يعني أنَّه بلغ من العمر قرنا من الزمان؛ ولعلَّ أحد أهم أعماله الشعرية "قدموس" وفيها يتحدَّث عن كبير آلهة اليونان الذي تقمَّص ثورا " كما في الأُسطورة الفينيقية " وخطف "أوروب" شقيقة قدموس الأمير الفينيقي الصيدوني، الذي رفض ما حدث لأخته، فجهَّز حملة بحرية إلى بلاد الإغريق لاستعادة "أوروب" "من أُطلق اسمُها على القارة الأوروبية. وخلا ل حملته تلك أسَّس المدن وأقام الحضارات.
ليس أرزا، ولا جبـالا، ومـاء وطني الحبُّ، ليس في الحبِّ حِقدُ
وهوَ نور فـلا يضـلُّ: فكـدّ ويد تبـدعُ الجـمالَ، وعـقلُ
لا تقُلْ: "أمَّتِي" وتسطو بدنيـا نحنُ جـار للعـالمـين وأهـلُ
بنى سعيد عقل خياراته السياسية والثقافيّةَ، على لبنان الفينيقي لا على لبنان العربي، وعلى هذا حاول استبدال الحرف العربي، بالحرف اللاتيني، مستعملا اللبنانية المحكية، بأحرف لاتينية، كما حدث ذات يوم في تركيا الأوروبية، المسلمة العلمانية، وغير العربية. وله في ذلك "يارا"، محاولة كانت جديَّة "لزحلنة" لبنان "ولبننة" العالم كما قال، ولا أدري ما يكون شأن المدن اللبنانية الأخرى، وعلى من يعمم هويَّتها؟ محاولة شعريَّة فاشلة في مقاييس كلِّ المهتمِّين العرب كيفما كانت ميولهم، وفاشلة في مقاييس اللبنانيين بعيدا عن مريدي سعيد عقل أنفسهم.
والمأساة في إبداع سعيد عقل أنَّه انحاز إلى لغة رفضها الآخرون، ربَّما تلك كانت ردَّة فعل على القومية العربية، التي استحكمت وسادت في وجدان العروبيين، زمن عبد الناصر.
وهناك أيضا في مصر، من دعا إلى التمسك بالفرعونية، كما لو أنَّ مصر ابنة للعروبة بالتبني، وليست الابنة الشرعيَّة لكل العرب، كما الحال في لبنان مع مريدي سعيد عقل وبعض الموتورين في وطنيَّتهم؛ حتى أتى اتفاق الطائف، ليضع حدا نهائيا للجدل حول هويَّة لبنان، فلم يعد لبنان كما كان يقال، ذا وجه عربي، ولم تعد قوة لبنان في ضعفه، وفشل هذا التنظير، وصارت قوة لبنان في سواعد أبنائه واتحادهم.
من الإنصاف التنويه بأمانة أنَّ من رفع لواء اللغة العربية، ليس في لبنان فحسب، بل في الشرق كلِّه وفي العالم، هم أولئك من لا يمكن الطعن في وطنيَّتهم أمثال: أحمد فارس الشدياق، واليازجي، ومارون النقَّاش، ومارون عبود، وبولس سلامة، وسليمان البستاني (مترجم إلياذة هوميروس)، وغيرهم كثيرون.
أما أُدباء الاغتراب كجبران، ونعيمة، وأبو ماضي، وأبو شبكة، وفؤاد سليمان، والمطران، والشاعر القروي وغيرهم، هؤلاء بنوا مجدا عظيما للبنان، ويكفي أن تكون أُولى المطابع أُدخلت إلى لبنان، وعنيت بطباعة معظم الكتب العربية، ليكون لبنان قد أدى قسطا كبيرا من واجبه في سبيل اللغة والقائمين عليها.
وبعد فسعيد عقل غنّى الشام:
قرأتُ مجدَكِ في قلبي وفي الكُتُـبِ
شَـآمُ، ما المجدُ؟ أنتِ المجدُ لم يَغِبِ
شآمُ، لفظُ الشـآمِ اهتَـزَّ في خَلَدي
كما اهتزازُ غصونِ الأرزِ في الهدُبِ
شام يا ذا السيف لم يغب
يا كلام المجد في الكتب
أنا أحبابي شعري لهم مثلما سيفي وسيف أبي
أنا صوتي منك يا بردى مثلما نبعك من سحبي
وأنا لو رحتُ أسترضي الشذا
لانثنى لبنان عطرا يا شآم
أنا حسبي أنني من جبل
هو بين الله والأرض "سلام"
وغنَّى الأُردن:
وتروحُ عمانيتي وسنى العينين يزرع دربها فرحا
أواه يا أُردن أنت لها مصراع باب الشمس وانفتحا
وغنَّى مكَّة أيضا:
غنَّيتُ مكَّةَ أهلها الصيدا = = والعيد يملاُ أضلعي عيدا
لو رملة هتفت بمبدعها شدوا = = لكنت لشجوها عودا
سعيد عقل، صاحب مدرسة أنيقة في الغزل، "لا بل هو زعيم المدرسة الجمالية في الشعر" كما يصفه بعض النقاد.
يكون أن أشهق
لكبر عينيها
ومن سنى الزنبق
إلى ذراعيها
ينقلني الفتون
ينقلني إلى الغوى
إلى أراجيح الهوى
إلى المروج الخضر في الجفون
* * *
أجمل منك؟ لا
لم يضرب الرباب
لم تحلم الحجار في الحلى
ولم يخطّ الشعر في كتاب
وللشاعر قدرة على التنظير في حقل الرياضيات "الإقليدية" ويبدع في "الحكي" عنها.
لكنَّ سعيد عقل مع الأسف، يتوقَّف عند فينيقيا موغلا في الزمن، لهذا فهو في العمق على خلاف مع فكرة العروبة، وخطؤه بل لعلَّها خطيئة، أن يشرد عن الشعر في المرأة إلى أدران السياسة.
آخر مريديه، لعلَّه الشاعر هنري زغيب، يلازمه كظلِّه ربما طمعا في شرف أعلى يتمنَّاه. والعيب أيضا في بعض الشعراء ممن ركبوا أمواج السياسة. ولعلّ َجوزيف حرب، الأكثر منعة ممن نأَوا بأنفسهم وكرامتهم عن مزالق السياسة وأوساخ الاستخبارات. والخطيئة بالضرورة تستلزم المغفرة، مغفرة أوسع، عملا بقول السيد المسيح: من كان منكم بلا خطيئة، فليرجمها بحجر.
من المؤكد أنَّ سعيد عقل فشل في ترويج أفكاره في السياسة، فانكفأ إلى التغني بلبنان وإلى مكانته، وإلى الحرف الذي أوجدت فينيقيا.
في إحدى مقابلاته التلفزيونية غير البعيدة كثيرا، أشاد سعيد عقل بالزعيم الليبي معمر القذَّافي، وعقد آمالا كبيرة على قدرة ليبيا، في تغيير وجه العالم، وتخليص البشريَّة من الجهل والجوع.
وبعد، لا ينبغي لموقف، أن يرمي شاعرا في النار، ما دام الموت آتيا يغسل عاري ويغفر كلَّ الذنوب.
◄ إبراهيم يوسف
▼ موضوعاتي