عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

د. كريمة الإبراهيمي - الجزائر

جزائرية في ليل القاهرة


بخفة طائر خرافي ولجتُ الطائرة القادمة إليكِ من مدن ضيعت كل تعاويذها فغزاها البرد والدم القاني ليميت ياسمينها.

جئتكِ وقد سلبتني المدن إياه. ترك لي أشياءه ورحل. ما زال يأتيني كل ليلة، أشعر بيده توقظني وحين أفتح عيني أرى جسده المفتت المكسو برداء أبيض يتقاطر دما فاصرخ رعبا وإذا أنا كنت أحلم.

من الجارح أن تتحول المدن التي نهبها عشقنا إلى بقايا مجازر، وأن تتحول وجوه الأحبة إلى كوابيس. ووجهكَ صار يطاردني، أراك حتى في خطوط يدي مبتسما وصوتك الذي يشبه آلة عود حزين يتسرب إلى دواخلي فأنام.

وجهكَ يتراءى لي في واجهات المحلات المتلألئة الألوان وفي عيون المارة فأركض إليكَ لكني أتعثر فجأة فأجدني مشدوهة إلى العيون ولكنني أراك. وحين يأتي الليل يتحول الحلم إلى كابوس.

ها أنا أدخلكِ أيتها المدينة الطافحة بالعشق.

ها أنا أهرب إليك دفاتر عشقه.

وها أنا يحضنني ليلك الأرجواني دون يداه.

أقف من على-كوبري- قصر النيل فلا يحضنني إلا المكان بضوضاء عشاقه ومريديه،

وها هو النيل يتلألأ في عيني باتساعه وصمته.

هل تعلمين؟ رحيله أحرق كل صباحاتي وحولني إلى كائن عزلة ترفضه المدن.. والأحلام..

منذ رحيله أدركت أن كل الأشياء قابلة للموت، فقررت أن أدفن بقايا شتاتي في بقايا ديوانه الوحيد.

كان حلمه أن يضمنا النيل معا.

قال لي يوما وهو ينهي آخر قصيدة له: "أحبك، والقاهرة تشهد":

"أحلم دوما بأن نغرق في النيل معا..ونتحول إلى كائنات بحرية لا تعرف أبدا معاني الرصاص والقنابل والحواجز المزيفة."

يومها قلت له:

"سيسعد النيل بنا قرابين له لنعيد إليه قداسته الأسطورية أيها الكائن البحري."

كان يبتسم مثلك أيتها القاهرة، أيتها المدينة المفتوحة على كل احتمالات الجنون والألم،
أيتها المتألقة كصباح لازوردي.

أدخلكِ بكثير من التشظي وقليل من الفرح. من -آتيلييه الأدباء والفنانين- إلى مقهى-زهرة البستان- أقطع شوارع الشوق ووجهه يلوح لي.

أتحرك في حروف قصائده وأنا أتأبط ديوانه الوحيد"أحلام قابلة للموت" وكأني أتأبط عالما من ورد مذبوح،ألف به شوارع القاهرة الغاصة بالوجوه والأشياء.

أدخل دار نشر -عربيات- فتستقبلني الابتسامة المنمة عن سرور كبير.

"قادمة من الجزائر"، أقول.

"بلد جميلة والله". يرد مدير الدار.

أبتسم وأضم الديوان إلى صدري وأنا أجلس إلى فنجان قهوة.

"جئت أنشر كتابا".

تتسع نظرات الرجل أكثر لتغوص في تضاريس جسدي الذي بدا لي حينها منهكا من الركض والخوف وشظايا الزجاج المكسور في حلقي.

يقول: "لنا شرف النشر لأديبة جميلة مثلك."

أرد على كلماته المغلفة بابتسامة ملونة: "انه ديوان لزوجي". وأضغط على الكتاب بيدي المتجلدتين في مكتبه الفاخر ذي الألوان الخضراء المشعة بريقا ينعكس على صورته المعلقة على الجدار.

يأخذ الديوان. يمر على صفحاته بلا اهتمام وهو يبعد نظارته عن عينيه ويضعها أمامه. أشعر من حركة يده في وضع الكتاب أنه سيعتذر عن نشره. ينظر إلي ويقول:

"آسف، لا يمكننا نشره. الناس ليسوا بحاجة إلى أوجاع أخرى. نحتاج لنشر كتب مليئة بالحب والألوان.أنتِ تعرفين."

تغزوني سحابة سوداء تحجب عني صوته الذي تحول صفارات إنذار وضجيج مقزز. أسحب الديوان من أمامه بشدة وقد غابت كل البروتوكولات التي تعلمتها. أحسست أن شررا يتطاير من عيني ليحرق هذا الرجل وكل ما حوله.

خرجت مسرعة، استقبلني شارع طلعت حرب بضجيجه الحاد واتجاهاته الستة، لم أشعر بقدمي إلا في آخر شارع قصر النيل فقد كنت غاضبة حد الألم.

كان النيل صاخبا كعادته، وها هو وجهك الليلكي يرتسم لي على سطحه فأشعر برغبة في أن تضمني في هذا الليل القاهري البارد.

أرغب في أن يغوص بنا مركب في هذا النهر الخالد وليحترق العالم بعدها.

أعود إلى غرفتي بالفندق تسبقني يداك إلى سرير الوجع فأتوسد صدرك وأنام.

أستفيق على صرختي وأشلاء جسدك وإذا الكابوس نفسه يلاحقني. منذ خلفتني وأنا أركض في أقاليم الوجع وحيدة.

هل هو قدري ألا أكون معك في المسرح تلك الليلة؟
هل هو قدري أن تنحاز تلك القنبلة إليك وتتركني هنا. أتفقد الشوارع الحزينة وأبكي غيابك المدمر؟
كان العرض الأول لمسرحيتك "إنهم يقتلون الحب".

قتلك الحب ياخالد، أم قتلتك أحلامنا الموؤودة في الزمن المر؟

وها هو مدير -عربيات- يصر على نشر كتب في الحب وهو لا يدري أن أوطاننا المشروخة قد قتلت الحب مع سبق الإصرار.

من دار -عربيات- إلى دار -جدل- إلى دار -أمل- أحمل ديوانك الوحيد وفي كل مرة أخرج مهزومة وباردة. وفي كل مرة أتجرع مزيدا من الخيبة في مدينة تصورتها أكثر المدن احتواء لمن لا فرح لهم.

ها هي القاهرة يا -خالد- ككل مدننا قادرة على قتل أحلامنا، ها هي قد طردتك برفضها.

لا فرق يا خالد: مدينتنا أهدتك قنبلة والقاهرة أهدتني خيبة ومزيدا من احتمالات الموت على طريقتها.

(القاهرة 2006)

D 27 كانون الأول (ديسمبر) 2011     A كريمة الإبراهيمي     C 1 تعليقات

1 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

تهنئة بالعام الجديد

عن مبدعة الغلاف

كلمة العدد 67: هارد لك (*) يا شباب

لا وقت للحلم هنا

الإبداع والحقيقة في الأدب الكولونيالي