منال الكندي - اليمن
إبداع في الظلام: الشاعر عبد الله البردوني
بمناسبة عشر سنوات على رحيله
شهد الوسط الثقافي في اليمن خلال شهر آب/أغسطس الماضي نشاطات متنوعة أقيمت تكريما للشاعر اليمني الراحل عبد الله البردوني بمناسبة الذكرى السنوية العاشرة لرحيله.
فقدانه نور البصر جعله يعيش عالميين متناقضين. العالم الأول يسوده الظلام الذي قاومه بأغوار البصيرة ومصابيح العقل التي لم تتعطل يوما، فقهر بذلك عجزه ولم يعرهٌ يوماً اهتماماً. والعالم الآخر من نور يسوده العلم والمعرفة والعبقرية الفذة، ليخرج إبداعا تجسدت في قصائده التي حاكت كل صور الحياة وتفاعلت معها.
ولد عبد الله البردوني في عام 1929 في قرية البردون (محافظة ذمار، اليمن) من أبوين فلاحين وأسرة فقيرة، اعتبرت إعالته عبئا ثقيلا على كاهلها بعد أن أصابه العمى جراء مرض الجدري عندما كان عمره خمس سنوات. قال متحدثا عن أسرته: "كنت أسمع كلمات رديئة عندما عُميت، أمي علقت على انضمامي إلى الأسرة بالقول "أصابتنا ثلاث مصائب: لم ينزل المطر، ومات الجمل، وولد عبد الله"."
تلقى علومه الأولى في المعلامة (الكتّاب: مكان حفظ القران) في قريته، وكان يتميز بذكاء حاد إلى جانب ظرف وفكاهة وسخرية لاذعة كانت دائما تلفت إليه الأنظار. ثم انتقل للمدرسة الشمسية في ذمار ودرس النحو والبلاغة والفقه وأصول الدين، وكان يعمل فيها كمعلم للأطفال المتخلفين والبنات فيحصل بالمقابل على قطع من الخبز تكفيه يومه.
بدأ الشعر هاجيا يصطدم بالناس والسلطة بحدة عنف واحتجاج، فقاده ذلك في النهاية إلى السجن الذي مكث فيه تسعة أشهر عقب فشل الحركة الدستورية سنة 1948. وبدخوله السجن ثبت البردوني رغبته الأولى في أن يختلف ويغاير ويتميز مبدعا ومثقفا، وقبل ذلك مواطنا حقيقيا.
بيد أن التميز الحقيقي بدأ بعد رحيله من ذمار إلى العاصمة صنعاء، فإثر ذلك شكل البردوني حالة خاصة في المشهد الإبداعي والثقافي في اليمن خاصة والعالم العربي.
قطع البردوني الشوط الأول من رحلة نجاحه خلال عقد الخمسينات من القرن الماضي. كان يناضل على أكثر من صعيد، إذ كان يحاول اكتشاف ذاته واكتشاف العالم من حوله ملتفتا في كل اتجاه، هاربا من غربته وعزلته التي فرضتها عليه ظروفه الخاصة: العمى والفقر. وكان يشعر أنه منذور لدور كبير يلعبه اجتماعيا وثقافيا وسياسيا، ويعني هذا تحقيق وجود إنساني أفضل في الوجود.
أصدر البرودني أول دواوينه، من أرض بلقيس، عام 1961م، وكان صدوره حدثا هاما لأنه صدر عن المجلس الأعلى للفنون والآداب في مصر ضمن سلسلة الألف كتاب، وقد أشرف على إصداره عباس محمود العقاد ويوسف السباعي وعلي الجندي الذي قدم للديوان، وأكد على تفرد البردوني بمبانيه ومعانيه الشعرية.
نشط البردوني في تطوير أدواته، وبذل جهدا شعريا كبيرا احتفاء بالثورة في البداية، ثم هجاء مرا لانحرافاتها، وهو ما يحفل به ديواناه: في طريق الفجر وفي مدينة الغد. وهذا الموقف تحول إلى سخرية مره خلال في عقد السبعينيات الذي بدأه البردوني بخروجه المدوي إلى ساحة المشهد الثقافي والإبداعي العربي من خلال الضجة التي أحدثتها قصيدته "أبو تمام وعروبة اليوم" التي ألقاها في مهرجان أبي تمام الذي أقيم في مدينة الموصل العراقية سنه 1971.
حبيب وافيت من صنعاء يحملني
نسر وخلف ضلوعي يلهث العرب
ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتي
مليحة عاشقاها السل والجرب
ماتت بصندوق وضاح بلا سبب
ولم يمت في حشاها العشق والطرب
بعد مهرجان الموصل صار البردوني حاضرا باستمرار في أغلب مهرجانات الشعر والثقافة العربية، وكانت تلك نوافذ جديدة لقلبه وعقله، فقد كان الاحتكاك بمختلف المبدعين العرب والأجانب والاطلاع على التجارب الطازجة دافعا أكبر للبردوني إلى تجديد أدواته.
وفي عقد الثمانينات كان البردوني مشغولا بمحاولة فهم الانكسارات الكبرى التي تعرض لها العالم العربي محليا وعربيا وإنسانيا، ثائرا على العصر ورداءته، يحاكمه من خلال استدعاء بعض الشخصيات التاريخية مثل شخصية المتنبي في قصيدته الشهيرة "وردة من دم المتنبي" التي ألقاها في القاهرة سنة 1982م في خمسينية الشاعرين أحم شوقي وحافظ إبراهيم، وأحدثت القصيدة صدى كبيرا في ذلك الحين:
من تداجى يا أبن الحسين
اداجي أوجها تستحق ركلا ولطما
اشتهي عالما سوى ذا زمانا
غير هذا غير ذا الحكم حاكما
أين أرمي روحي وجسمي وأبني
لي كما أستطيب روحا وجمسا
كان يؤمن بأن قضايا العصر الحديثة سياسة ضرورية، لأنها عدالة أمر بها الله ويطلبها الشعب، لأنها حرية، وهي عن حق الشعب أن يعبر بصوت عال وأن يكتب بأمانه، لا رقيب عليه إلا ضميره وإلا ينال عقوبته.
كان يعترف دائما بأنه معادى من أكثر من رئيس حكومة حيث يقول: "أنا الآن معادى من أكثر من رئيس حكومة لأنني لم أمدح، وقد دعوني المرة الأولى فسافرت، ودعوني المرة الثانية فسافرت، فقالوا لتقابل الرئيس (فلان) والشيخ (فلان)، فقلت: والله أنا مواطن. أصغر مواطن من اليمن، ومن مدينة أفلاطون، فمالي صفة تتيح لي المقابلة، فهي لا تدل إلا على الاستجداء، وأنا ما جئت مستجديا بل ملبياً دعوة".
في ديوانه الثاني في طريق الفجر الذي صدر 1966 بدأ بها رحلة المغايرة ومفارقة النموذج المألوف، تماهيا مع منجز الحداثة الشعرية العاصف ووعيا بضرورة التفرد في خلق إمكانيات جديدة للعمود الشعري تبقيه داخل مضمار الحياة. ويمكن تلمس ذلك التوجه في ديوانه الثالث مدينة الغد الصادر سنه 1970 حيث بدأت قصيدته تفارق الطابع البنائي المعتاد.
ازداد وضوحا في دواوينه اللاحقة لعيني آم بلقيس (1972)، السفر إلى الأيام الحضر (1975)، وجوه دخانية في مرايا الليل (1977)، زمان بلا نوعية (1979)، جواب العصور (1991)، رجعة الحكيم ابن زايد (1994)، وهي دواوين أكد فيها البردوني على نزوعه الخاص إلى التجديد وعمق في تجربته ومغايراتها لتراث العمود الذي لم تعد تشبهه بأي حال من الأحوال.
من جانب آخر نجد أن الرؤية والموقف والرسالة داخل القصيدة لعبته ثقافة البردوني الموسوعية ومعتقداته الفكرية ومواقفه ورؤاه الاجتماعية والسياسية والأدبية دورا كبيرا في إحداث انتقالات واسعة، حيث استعمل البردوني أساليب وطرقا شتى: فقد كتب القصيدة المحرضة المباشرة، واستدعى التاريخ في لحظاته المظلمة وشخصياته الظالمة مقابل اللحظات الأخرى المضيئة والشخصيات العادلة فيه، وتغنى بالشخصيات الشعبية الحكيمة، واستنطق الأرض عن حنوها على أبنائها مؤنس خضرتها وثمارها الممزوجة بعرق الفلاحين ونبض آمالهم واتحادهم بها حياة ومصيرا ومشاعر تتلون بألوان أزهارها:
ذائب في الأرض إني نبتة
من حشاها شكلتني عن براعة
زرعت غصني وفيه انزرعت
اغصنت في قامتي زادت فراعه
وأنا أورقت في أغصانها
صرت من أقباس عينيها شعاعه
كان البردوني يؤمن بضرورة تفرد الأديب بشخصيته لأن التاريخ يأخذ مساره من الاجتماعية إلى الفردية، ولذلك كان البردوني مؤمنا بارتباطه بواقعه الاجتماعي ولكن الهدوء مطلب روحي من مطالب الكفيف. الكفيف هنا شاعر يحب أن يؤثر الصمت أكثر من الهدوء ثم يعود إلى عملية التأمل والاستغراق، حيث يفلح في تصوير نفسه من خلال معان ترصد شخصيته وسلوكه وتصرفه بقوله:
سهدت فأصابني جميل سهادي
فأهرقت في النسيان كأس رقادي
وسامرت في جفن السهاد سرائر
لطافا كذكرى من عهود وداد
ونادمت وحي الفن أحد رحيقه
واحسو وقلبي في الجواغ صاد
حصل البردوني على مجموعة كبيرة من الجوائز اليمنية والعربية. وفي عام 1982 أصدرت الأمم المتحدة عملة فضية عليها صورته كمعاق تجاوز العجز. وفي عام 1998 سافر البردوني إلى الأردن للعلاج، وفي 30 آب/أغسطس عام 1999 أنتقل إلى رحمته تعالى، بعد أن خلد أسمه كواحد من أعظم شعراء العربية في القرن العشرين.
وفي كل عام يحتفل الوسط الثقافي في اليمن بذكرى رحليه بإقامة الندوات والمهرجانات، وشهدت مدينة ذمار مهرجان البردوني الذي نظمه أدباء صنعاء في بداية شهر أغسطس 2009 احتفالا بمرور عشر سنوات على رحيله وطالبوا باعتبار إنتاج البردوني تراثا يمنيا، وتوفير مؤلفاته للقراء، ومواصلة تنظيم المهرجان بمدينة ذمار مسقط رأسه.
= = =
المراجع
= جريدة الرأي، (30/9/2008.).
= أخبار الأدب، (6/8/2006).
= مجلة العربي، 1999.
= موقع الشاعر البردوني (www.albaradoni.com).
::
عنوان موقع الشاعر
- الشاعر عبد الله البردوني
◄ منال الكندي
▼ موضوعاتي