عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

أحمد عبد الجليل - العراق

نظرات متقاطعة


صليت العشاء على عجل، ثم هرعت نحو خزانة ملابسي، أنتقي من ثيابي أجمل ما اشتريت من محال بلدنا، أدعو الله في سري ألا يغير رأيه في اللحظات الأخيرة، أعرف أنه لم يوافق إلا على مضض على اصطحابي معه إلى ذلك المطعم المكشوف، المقابل للفندق الذي نقيم فيه، وبعد إلحاح لم يعتده مني منذ زواجنا قبل أكثر من عام، ظل يرقب عن كثب ثوبي الطويل غامق اللون، ما أتزين به من مصاغ ثمين، وكذلك مكياجي الخفيف، الذي يكاد لا يلحظ، عسى أن يجد ما يؤنبني عليه بشراسة تجبرني على إغماض عيني بقوة لئلا تطفر من إحداهما دمعة قد تثير غضبه أكثر، سرت وراءه، أنظر نحو خطاه المتبخترة، ما زلت أستغرب ما يرتديه من ثياب لافتة للنظر وأفتقد الكوفية و العقال و الجلباب الأبيض الذي يهبه وقارا مميزا.

المطعم واقع على سفح جبل مفروشا بالأضواء المتلألئة في ظلمة الوادي السحيق، كان المكان، بل كل الشارع، ضاجا بالموسيقى الصاخبة، تصرخ بي أن أشارك الجميع حيويتهم المتواصلة، لم أحفل بالنظرات التي صار يرمقني بها منذ أول جلوسنا، تبحث عن خصلة من شعري يمكن أن تكون قد نفرت من الحجاب في غفلة مني.

لم تستطع عيناه اللتان سرعان ما ستشوبهما الحمرة بسبب النبيذ الذي يترعه بشراهة رصد نقرات قدمي الخفيفة على الأرض، ولا حركة ساقي المهتزة من تحت غطاء الطاولة، رغما عني صرت أرقب بين الحين والآخر نظرات المطرب النقية، وأظن أنه يخصني بها دون جميع الفتيات اللائي يكتظ المرقص بهن، يرتدين ملابس ساحرة شديدة الإثارة، يرقصن على أنغام شتى الأغاني والمواويل، الجديد منها والقديم.

لاحظت علامات الغضب تنبثق من سيماء وجهه شديد السمرة، يده تتقلص حول الكأس، وكأنها تهم بتهشيمها، تتبعت مسار نظراته حتى أوصلتني إلى فتاة شقراء ذات جسد يميل إلى الامتلاء، ذات صدر مكتنز يكتسي بسمرة وجهها المكتسبة من الاستلقاء الطويل على شاطئ البحر، تراقص شابا وسيما، في مثل عمرها تقريبا، بخفة ورشاقة مغريتين، جذبت انتباهي أيضا نظرات تلك الفتاة المتحدية نحوه، سخريتها من قسمات وجهه المتجهمة، والمتوعدة.

مرت بقربنا، في خطوات متمهلة راقصة، وابتسامة يقطر دلالها مكرا ثقيلا فوق شفتيها المطليتين بأحمر قان، فهفا نحونا ذات عبق العطر الباريسي المميز الذي أمسيت يضمخ ثيابه لدى عودته قرابة الفجر كل ليلة.

استمرت جدحات النار بالتطاير من عينيه السوداوين نحو ذلك الدلال الفتان عدة لحظات، قبل أن تتلاشى في شلال قهقهاتي التي راحت تجلجل في صخب المكان دون وعي مني.

D 1 تشرين الأول (أكتوبر) 2009     A أحمد عبد الجليل     C 0 تعليقات