سوسن سيف - العراق
النافذة
كان العشب يتوهج تحت الشمس الشقراء بعد زخة من المطر. والزهور البيضاء اتخذت خطا مائلا تحت نسيم نيسان. وعلى مقربة كان ثمة أطفال يجرون خلف كرة ملونة وقد اختلط ضجيجهم مع ضجيج الطيور التي كانت مختبئة بسبب المطر.
عادت بها تلك الموسيقى اللذيذة إلى سنوات الطفولة، إلى زمن كانت فيه تجري وتلهو مثلهم تماما منتشية بالشمس التي كانت تظهر بعد المطر وراحت تستعيد تلك السعادة التي بهتت مع الأيام، الأيام التي تركتها بلا حراك هنا: قدمان وساقان ماتت فيهما الحياة ومات معهما كل شيء وكأن الستار انزل على آخر الرواية وأخفى كل شيء لتبقى وحيدة في غربة قاتلة ليس فيها ما يربطها بتلك الحياة الممتدة غير هذه النافذة.
في كل صباح تأتيها قريبة طيبة أبقتها الدنيا وفية مخلصة لم تتغير. تفتح الباب بالمفتاح، وتدخل على أطراف قدميها، فتعد لها الفطور وتوقظها وتأخذها لدورة المياه ثم تقودها بمقعدها ذي العجلات إلى النافذة.
في الصيف تفتحها إلى آخر مدى. وفي الأيام الباردة تدفع بالستائر إلى الجانبين وتتركها. تسهم بنظرها من خلف الزجاج وتتحدث إليها عما معها من أمور، وما تعلمت من أصناف جديدة من الطعام وأخبار أبنائها وبناتها؛ ونادرا ما تصطحب أصغرهم معها فهي تخشى من شقاوته.
وبعد ما تتناول طعام الفطور، تأخذها من جديد إلى الحمام وتعد لها غداء خفيفا وتتركه قريبا منها. وفي المساء تعود لتسأل عنها وتأخذها إلى الفراش ثانية وتودعها لتختلط دعواتها بدعوات المرأة الكهلة الخارجة من قلب أتعبه الزمن وصوت أتعبته الأيام فأمسى حشرجة غير واضحة.
النافذة بستائرها الزرقاء التي غيرها الزمن فتحول لونها من ازرق زاه إلى رمادي باهت، وتحول لون الخشب من لون بني لامع يضج بالحياة إلى لون شاحب لا يبين. غير أن عالمها كان يتجمع في هذه الفتحة المستطيلة ويتألق بألوان خضراء وزرقاء وبنفسجية وكانت تراقب تعاقب الفصول وهي تترك بصماتها على كل شيء: الأرض والشجر والورد والأطفال. لم تنس يوما مكانها والوقت الذي تجلس فيه إلى النافذة. وحين تجلس هنا تنسى الزمن واليوم والشهر والفصل.
لكن الذكريات تغزو رأسها، الذكريات الحميمة والجميلة والتي تحملها أجنحة وتحلق بها بعيدا إلى تلك السنوات التي كانت فيها صبية صغيرة جميلة مليئة بالحياة والحب. وتذكر كيف التقيا وكيف أخبرها باسمه وأين يتلقى علومه وأخبرته باسمها وأصبح الطريق إلى مدرستها طريقهما معا وطريق أحلامهما. وتذكر بأي ثياب كانت تراه وبأي شعر كان يراها، وكيف رفض فكرة قص شعرها الطويل مهددا بفراقهما. وتذكر مناسباتها وكيف يتبادلان الهدايا وكيف يستمعان إلى أغاني تلك الأيام.
كان الحب يشرق في حياتهما ويسافر في حدقات أعينهما وكانت الأيام جميلة خضراء. ولكنه رفض من قبل أسرتها لأنه لم يكن سوى طالب بسيط بعيد عن قناعات الأسر التي كانت تريد لأبنتها الرجل الذي يتكفل بكل شيء لا طالبا بسيطا مثله.
وظل الرفض يشير لتعاسة وشقاء. وتنتهي قصة الحب تلك على مذبح العبودية والتسلط الظالم. من يعترف بحب كذاك؟ وانتهت الرواية بنهاية مأساوية وأسدل الستار على تلك الفترة الجميلة التي كانت تحمل مواسم الحب الرائعة.
تزوجت بالذي اختير لها، ولعل القدر أنهى فصول الرواية بتلك الكارثة التي قتل فيها الزوج وتركتها قعيدة بلا حركة على مقعد متحرك طوال حياتها.
لكن الذكريات لم تفارقها ولا وجه ذلك الحبيب الرائع الذي عرفته منذ بدايات صباها، ولم تعرف أخباره أو تسمع عنه شيئا.
بعد سفره تغيرت الدنيا ووجدت نفسها وحيدة تواجه الحياة من غير رحمة لا تعرف أحدا غير قريبتها. وأخذت الذكريات تتلاشى والصور تبهت والأحلام تموت والأيام هي وحدها تمضي لتغير تركيبة الحياة كلها.
النافذة، الأشياء، تتغير كما تراها هي. هنا يشقون طريقا. هنا تبنى مدرسة جديدة. هنا ينشئون مستشفى. أشجار تقطع وشوارع جديدة ترصف، ومساحات خضراء تتقلص وحدائق جديدة تولد.
يأتي الصباح ويعيد ترتيب الأشياء التي تعودت عليها ويمضي النهار لتذهب الشمس إلى مخدعها تاركة جراحا حزينة في الأفق في أيام الصحو ثم الظلمة والليل وتغلق الباب لتستسلم لنوم لا تجد فيه حتى الأحلام.
ماذا يعمل العمال هنا ؟ بعد أيام كان البناء يرتفع قريبا من النافذة، البناء الذي سيغلق كل شيء. يا الهي! عرفت هذا من قريبتها وعرفت أن النافذة لن تكون ذات جدوى، وستأتي أيام لن تجد كل النافذة.
الأيام تمضي والبناء بدأ يحجب كل شيء. وفي صباح خريفي والمرأة التي تساعدها تدخل وقد عم البيت ظلام غريب والستائر تحركها الريح، وكان الصمت رهيبا. رأتها دون حراك ويدها تقبض على شيء ما، عرفته. كان بطاقة صغيرة رسمت عليها حزمة ورد كأنه بطاقة لمناسبة ما في يوم بعيد جدا وتاريخ انتهى من سنين.
كان هناك شيئا يملأ المكان. لعله الحب.
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ
3 مشاركة منتدى
النافذة, زهرة-ي-الجزائر | 28 كانون الثاني (يناير) 2012 - 15:48 1
تتعاقب النوائب وعاديات الزمان على البطلة، المرأة الرقيقة:
فراق الحبيب، زواج عن غير قناعة، رحيل الشريك،اعاقة مستديمة و وحدة موحشة، وتبقى تحيا بمساعدة فاعلة خير، وضوء نافذة ومد بصر.
وتغلق النافدة كآخر امل، فتموت البطلة بموت الامل في قلبها.
قصة ماساوية حقا استاذة سوسن،لم تتركي فيها سببا للحياة
ان يفقد الانسان نعمة المشي بموت ساقيه، فالله سبحانه وتعالى قد حباه بنعم شتى لا تعد ولا تحصى..
فجعل له عقلا وعشرة اصابع وبصرا ولسانا و سمعا وصبرا وخيالا../ وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها/..نعم لو استغلها العاقل تبقي فيه الامل..فلما اسدال الستار على رواية الحياة؟
1. النافذة, 26 شباط (فبراير) 2012, 08:08, ::::: سوسن سيف عراقية تقيم في باريس فرنسا
شكرا ً احت زهرة
تواجدك كغيمة تنثر قطرات المطر فيخضر المكان شكرا لهذه الأطلالة واني لسعيدة برفقة في عالم الادب الجميل دمت ِ
سوسن سيف
النافذة, سعد المصراتى*طبرق * ليبيا | 31 كانون الثاني (يناير) 2012 - 05:16 2
اختاه : كم كانت قصة جميلة جديرة بالمتابعة , ما اقسى الأنسان حين يحكم , كم كانت سيدة النافذة مخاصة للماضى كما الحاضر , كم كان الزمن يقتل الأشياء جميعا ولايلوى على شئ , حتى مجرد بصيص من شعاع عبر النافذة , وكم كانت االقصة حبلى بالصور الواقعية والأنسانية ......ولكن !
سيدتى احييك على هذة الروعة من ليبيا ***
انا ( سعد المصراتى مؤمن )* كاتب , وفاص
يشرفنى زيارتك لى على موقع ( ملتقى الأدباء والمبدعين العرب )* تحت كنية ( الطّير الحر ...) *
l
مع شكرى الوافر ****
1. النافذة, 26 شباط (فبراير) 2012, 08:05, ::::: سوسن سيف عراقية تقيم في باريس فرنسا
الاخ الكريم سعد المصراتي
شكرا ً لك ولهذه الحروف العذبة وان ما كتبتهُ لا ينسى تمنيت لو اهدي كتابي الذي يحوي هذه القصص لكم جميعا لتقديركم واعجابكم بالقصة أتمنى ان يوفقك الله في دنيا الادب
سوسن سيف
النافذة, أشواق مليباري | 2 شباط (فبراير) 2012 - 17:29 3
شيء يقطع نياط القلوب أن يصيبح الإنسان عاجز، وحيد، ويعيش على الذكريات.
لكن الأقسى من ذلك أن يتقدم به العمر حتى يفقد الذاكرة والذكريات، فلا يعرف أقرب الناس له..
فئة من المجتمع، هم وجوه من ماضينا وتاريخنا وتراثنا، هم ينابيع حنان وبركة ودعاء، فلننرد إليهم بعض من حقهم علينا..
شكراً لك أستاذه سوسن، في انتظار جديدك.
1. النافذة, 26 شباط (فبراير) 2012, 08:01, ::::: سوسن سيف عراقية تقيم في باريس فرنسا
اشواق شكرا ايتها الغالية
شكراً لكل ما كتبت ِ شعرت بأن في العالم من يحمل قلبا أكبر منا وهذا ما يحصل حين أكتب أجد معي تلك القلوب الكبيرة التي مثلكِ الف شكر لصديقة مثلك تتواجد حين أكتشف انني وحيدة
سوسن سيف