عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

غادة المعايطة - الأردن

نـصـان


علياء وطيف جدة

مهداة إلى علياء محمود حماد

عرفتك والروح تلملم أشتاتها في مجالس الذكر، وخريف العمر يأمل بشتاء دافئ قرب كانون جدتي العتيق. وشاء حسن الطالع أن أرى، من خلالك، طيف ماض جميل استنشق فيه عبير الثرى الطيب، والشيح، والقيصوم، وسراج جدتي يتوهج بشعاع دافق من المحبة والحنان، والرضى بما كتب العليم الخبير. هذه قصة علياء.

لا تفتأ علياء تهدهد جديلة جدتها. هي كنزها الثمين وحرزها الأمين. هي نور يستضاء به عندما يغشى الروح القنوط وتشكو العين السهاد. تناجي علياء الجديلة التي لطالما اغتسلت بشمس سلواد والعيزرية، وتخضبت بحناء باب العمود، وتعطرت بمسك من أسواق القدس العتيقة.

تطل علياء عبر نافذتها وتلقي تحية الصباح على إوزاتها ودجاجاتها. طقس اعتادته الجدة في ملاذها الآمن. وتتعانق الأرواح، فهناك ثوب جدتها الموشى بأشكال السروة، والمكحلة، وزهرة المندوب. هي تزينت ليوم جديد، وطيورها الحبيبة بالانتظار، واليد الحانية تطعم الحَب والحُب.

وفي طقوس إلهية تهرع إلى علياء وتشدو معها ترانيم شكر للواحد الأحد. وفي ظلال التين والكرمة تنعم بحكايا جدتها وهي تقطف الزعتر والجعدة في أماسي تموز، بينما يشدو أطفال الحي:

اشتي وزيدي == بيتنا حديدي

عمنا عبد الله == رزقنا على الله

يصرخ الوليد، وتبكي زيتونات عمي والمنجل، وتتحول الضفيرة إلى خطوط كتب عليها الزمان مأساة شعب، ويبكي يحيى غرب النهر، ويبكي جدي مواسم الفرح في يافا والرملة والخليل.

تغفو علياء. يوقظها ديكة الجدة: الله أكبر. أشرق الصباح والشمس بالانتظار. وتبتسم الضفيرة. وتخضب علياء يديها بحناء العودة. تتعطر بمسك وعنبر من باب المغاربة. وتشدو مع ندى الربيع:

جانا من تلا يافا == أحلى نسمة بحرية

جانا من شجر عكا == هبة هوا ندية

الله يحمي هلقدس == هلمحروسة الزكية

ما يوم إلا قبالو يوم == وبعد العتمة صبحية

::

أسير أم أطير؟

إذا سرت فمعالم الدرب تتشابك كأسلاك شائكة تماما كتلك التي تفصل بين المذنبين في زنازينهم وعالم الآخر الحر. ممكن هم افصل مني حالا فقد تحدد مصيرهم على الأقل، حتى أولئك الذين حكموا لفترات قصيرة، فهم سيبقعون بين أربعة جدران يجترون ذنوبهم، ربما بمصاحبة الندم أو التفكير في الانتقام. لا أدري. أنا أسيرة سجون كل الدنيا حتى تلك الأعتى. فممكن أن أكون في سجن الكاتراز الأميركي الأشهر، السيئ الصيت، مع أنه أغلق عام 1963. وممكن أن أكون مع أي موقوف في مدينة متهالكة ينتظر محاميا خارق الذكاء ليطلقه إلى عالم الحرية.

لم تفلح أوراقي الممهورة بأختام كلية الطب، وملفات المؤتمرات العلمية حول العالم التي شاركت فيها، ومجاميع البشر على اختلاف مستوياتهم وأجناسهم ومذاهبهم، حتى مرضاي ممن اختاروني لأداوي جراحاتهم العضوية طبعا، لم تفلح جميعها في لملمة دربي أو حتى على الأقل تدبير مساح ليحدد فقط معالم ذاك الدرب. دربي اختلطت به الجغرافيا مع عالم الميتافيزيقيا مع الرواقيين والأبيقوريين وصراعات الكبار للسيطرة على ماس أفريقيا، ونفطنا. دربي المتطاير المشتت تداخلت به أغنيات الزمن القديم، وجنون الراب، وصرعات (الايمو) وأساطير الكأس المقدس.

وعن طيب خاطر اقتحم عالم القلم والدفتر دروبي الهوائية، عله الهام رباني كي اضمن كينونتي المادية البحتة في هذا العالم الأخرق المسعور حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.

فكرت بالطيران عسى أن أحظى بغفوة على غيمة تسير الهوينى فوق قرية وادعة تنتشر بساتينها مخضرة بالثمر وناي الراعي تطرب له أغنامه ويغري الطير، ورائحة خبز أمي يدعونا لتناول الرغيف المحلى بينما نلهو في ظل شجرة الزيزفون. على جناح فراشه فكرت بالتحليق علي أجد ذاتي، وأعيد تركيب راسي وأطرافي وداخلي الممزق. احتجت الفراشات ولفظني حظي إلى هامش الهامش.

فكرت بالغوص عل كواسر المحيطات تلتهم ذاتي المشتتة وتذر ما يجب أن يكون عليه حال أي انسي عاقل يتمتع بالمنطق والصواب. بحثت عن ذاك الحوت أسلم ذاتي طواعية للمطهر. التقمني. ظلمات ظلمات ظلمات. أخيرا تحدد الدرب واستشعرت الجدران. هنا جهات. هنا بداية ونهاية. نهايتي عندما انسحبت من واقع لم ارض به لدرجة الشك في ماهية الوجود. وبدايتي عندما دعوت (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين). بانتظاري على الشاطئ كانت اليقطينة.

D 1 تشرين الثاني (نوفمبر) 2009     A غادة المعايطة     C 0 تعليقات