نعيم الغول - الأردن
ماذا أفعل بذيلي؟
اطمئن يا قارئي الكريم فأنا آدمي إلا أن لي ذيلا. ذيلي هذا جاء معي كلون عيني من بطن أمي، إنه ذيل وراثي. لم يأت أبدا من دلق المديح لأي كان انتظارا لإحسان. لم ينبت على أرض ذل. وهو لا يهتز لأنّ لا سيد لي.
إنه ذيل طويل ثخين موشى بشعر أشقر وبَرِيّ ناعم، ويحلو لي ثقب بنطالي من الخلف كلما زرت حديقة من حدائق الأطفال المنتشرة في مدينتي. أدير ظهري لأطفالها، وأسمح لهم بلمس ذيلي دون مقابل حين تكون المرة الأولى، ثم بمقابل حين تشتد الرغبة بأحدهم فيرغب بالتمسيد. مع لمسات الأطفال على ذيلي أشعر بالسلام يعم عالمي فيرتخي ذيلي، وينتفش شعره، وتخرج منه رائحة كرائحة الخزامى. وأحركه لهم -ليس هزا فأنا لا أهز ذيلي لأحد- يمينا ويسارا، فتنتشر في الهواء أنغام بكر لم تسمعها أذن من قبل، فيجلس الأطفال من فورهم، وتزور مخيلاتهم ملائكة ترفعهم إلى مجرات سداها البلور، وسديمها الماء الفرات. وحين يطالعنا الغروب ببسمة معتذرة، ألف ذيلي بعناية، وأضعه في كيس خلفي، وأمضي إلى بيتي تزفني ضحكات الصغار، وإلحافهم عليّ بالعودة غدا. فأعرف أن ذيلي هو مستقبلهم.
في بيتي لا أجلس على مقعد كي لا أخنق ذيلي، فأنا لا أطيق أمرين يجتمع فيهما خنق الحرية: خنق حرية التعبير تحت أي حجة، وخنق الذيلية الجميلة. ولهذا أجلس على ركبتي، وأترك ذيلي للفراغ يمازحه. عند النوم أنام على جنبي الأيمن، ولا أتقلب حتى لا أفسد على ذيلي إغفاءة سعيدة.
لم أتزوج رغم أني بلغت الأربعين من العمر. حاولت مرة أن أخطب، فلمّحت والدتي لوالدة إحداهن فجاء الرد كضربة مشرط في يد أزعر:
" في المشمش."
ولم أعد. ولم أشعر لا بحسرة ولا بألم. لم تراود فؤادي خاطرة ندم. فقد كبرت وسمعت زعيق الأزواج، ونقار الديوك والدجاج. فمالي وللنعاج؟
وظللت وذيلي رفيقين متحابين حتى دق باب بيتي داق، وجلس في حجرة الضيوف، ولفّ ساقا على ساق.
قلت له: "عرضك مرفوض. كيف أبيع ذيلي؟"
وغضبت بعد قليل، فأنا لا أحب التهديد ولو كان مصدره رجل له معارف ومتنفذون. ولكني حين انفردت بنفسي في حجرتي فكرت مليا: الرجل توعد بقطع ذيلي إن لم أبعه. ذيلي في وضعه الحالي يجلب السعادة للأطفال، ولكل من يعرفني من الأصدقاء. ذيلي قال فيه الشاعر:
وذيل الفتى نصف ونصف فؤاده = = فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
فإن بعته بعت نصفي؛ بعت كياني، هويتي، انتمائي واحتمائي. وإن رفضت قطعوه وسجنوه في زنزانة تحت الأرض كي لا يستنسخ منه ذيول أخرى.
في عصرنا الكثير من الذيول المكتسبة. ذيول طويلة رفيعة جرداء لا شعر عليها تهتز بذل أمام الكبار، وتتلوى كالسياط أمام الصغار. والذيول الوراثية عزيزة. فماذا افعل بك يا ذيلي؟
نطقت بهذا السؤال دون توقع إجابة من أحد. لكن الإجابة جاءت. من أسفل مني جاءت.
قال ذيلي: "من ليلتك انطلق إلى مدينة عجلون. واصعد قلعة الربض. وقصني واحرقني وذر رمادي في الهواء."
صحت مستنكرا: "كيف تقول هذا؟ مستقبل أجيالنا متمثل فيك."
فرد بسخرية لم أنتظرها من رفيق مثله: "أي مستقبل في ذيل؟ لئن كنت ذيلا لطيفا ذا كرامة وعزة فلأنني خلقت معك، وأنت بصراحة جبان. أنت تعرف أين مكاني. إنه حيث المهانة والهوان. فخل عنك الخيال والأوهام. الذيل ذيل ولو درأ عن صاحبه الويل. المستقبل في العزة والشموخ، ونطق الحق ولو بثمن باهظ. هذا مستقبل الأجيال."
صدقته. وصدقت أن الرجل عرض شراء ذيلٍ أصيل لا مكتسب، لأنه أضمن لكل شيء عكس المكتسب الذي يهز لمن يدفع أكثر.
ويا لها من تجربة لن تبرح خيالي قط. على ظهر القلعة جاءت الريح فسلمت. وهبط الغيم فسلم. واشرأبت أعناق الدفلى، وأوراقها سلمت. واجتمع الطير أصنافـُه وسلم. وعلى متن الريح نثرت رماد ذيلي، فانطلق كجياد سوداء برية يغدق من الرماد على الكائنات. وعدت إلى المدينة بعنق هو جذع زيتونة، ورأس لا يعرف الطأطأة، وظهر لا ينحني إلا لخالقه.
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ