سمية الشوابكة - الأردن
مَن بعدك "يُمّة" مَن؟
مَن يقسو على مَن؟ مَن بغفر لمَن؟ يا حبة القلب أمي. نحن الممتلئين بأمهاتنا وبكل ما يشبههن من قريب أو بعيد. من لنا سواهن وطنا دافئا؟ من لنا سواهن معينا زاخرا؟
فكلما تقدم بنا العمر والزيف تقدم بهن الدفء والعطاء. آآآآآآآآآه لو أن العمر يغسل، لغسلنا أعمارنا فداء لأعمارهن. لخلعنا عنا رداء العمر وألبسناهن إياه. غير أن من النعمة أننا لا نستطيع. فلعلها أمنية جميلة في الظاهر، قاسية أنانية في الباطن. أنخلع أعمارنا البائسة المثقلة هما من أجلهن فنرتاح نحن ويشقين هن؟ يا الله، من لنا سواهن حناء لما ابيض من شعرات قلوبنا؟ من لنا سواهن بياضا لما اسوّد في عالمنا؟ من لنا سواهن دواء وقد كثرت أدواؤنا؟
أمهاتنا بيوتاتنا الصغيرة الكبيرة التي حملتنا واحتملتنا وما زالت تتسع لنا كلما ضاقت بنا الدنيا، ووشت بنا الجدران، وتنكرت لنا الأوطان، وخلعتنا الهموم. أمهاتنا دوالينا وعرائشنا ومصاطبنا وخوابينا وقناطرنا الممتدة نحو الشمس. أمهاتنا رائدت فن العمارة والمعمار، اختبرن الحياة بحلوها ومرها فهندسن الأفكار، ودبرن وتدبرن فنون العيش. أمهاتنا محاريبنا نلوذ بها. أمهاتنا طقوس حياتنا. أمهاتنا هن الوحيدات اللواتي يستطعن إيقاظ شهوة الحياة فينا صباحا عندما تختلط رائحة خبزهن المعجون طهارة برائحة أصيل قهوتهن المعتقة شوقا، المصبوبة هناء.
أمهاتنا الوحيدات اللواتي يستطعن ترتيق ما يمكن ترتيقه من جراحنا المفتوحة. الوحيدات اللواتي يبصرن بعين زرقاء اليمامة ذلك الوجع الخفي الذي يستوطننا، الوحيدات اللواتي يسمعن من ضجيجنا ما نحاول مرارا وتكرارا الفرار منه، الوحيدات اللواتي يبكيننا ويبكين معنا، علينا، فرحا وتوقا، هما وعمرا. الوحيدات اللواتي يضحكن في وجوهنا باكيات، ويبكين ضاحكات في معادلة غريبة لا يتقن فنها سواهن. أمهاتنا الوحيدات اللواتي نمتلئ بهن رغم غيبتهن. نسند أرواحنا إلى صدورهن لنسكن وننام.
وحدهن يترجمن الشعور ويتهجين معنا أبجديات الحياة. يحطبن الصبر وينسجن العمر غير غافلات. نحبهن حانيات قاسيات صابرات عاتبات. نقرأهن سورا مرتلة، ونحفظهن دثارا عندما لا نجد سواهن دثارا. أمهاتنا الطاهرات كلما كبرن عمرا قرأنا في وجوههن أجمل الكلمات، وطالعنا في ملامحهن أرقّ النظرات، وسكبنا في أرواحهن عصارة العبرات. فمن سواهن من؟ ومن غيرهن من؟ نلتصق بهن، ونميل عليهن وإليهن، ونلثم موطئ أقدامهن، ونسفح الدمع إجلالا لذكراهن. فلهن المجد والذكرى ما حيينا. ولنا الرحمة من قبلهن ومن بعدهن.
◄ سمية الشوابكة
▼ موضوعاتي