مديحة عتيق - الجزائر
العالم الآخر في الأساطير القديمة
توطئة
يتجلّى العالم الآخر في معظم الأساطير القديمة في شكل ثنائي تناقضي، طرفاه الفردوس والجحيم، والفردوس هو فضاء افترضت الأساطير أنه وجد في مكان ما حيث السعادة المطلقة والفرح المستمر. إنها مكان يخلو من الثالوث الرهيب؛ المرض، والشيخوخة، والموت. وقد سماه السومريون" دلمون " وهي " مكان نظيف، أرض دلمون مكان طاهر، مكان مضيء، في أرض دلمون لا تنعق الغربان، ولا الأسد يفترس أحدا، ولا الذئب ينقض على الحمل، ولا الكلب المتوحش على الجدي، ولا الخنزير البري يلتهم الزرع(...) في أرض دلمون لا أحد يعرف رمد العين ولا آلام الرأس، ولا يشتكي الرجل من الشيخوخة، ولا المرأة من العجز"(1)، فالجنة السومرية هي أرض الدعة، والأمن، والكمال، فلا ألم، ولا تعب، ولا عجز، ولا قصور، ولا خوف، ولا ضجر.
ومقابل هذه الرؤية الماضوية للعالم الآخر، نجد أساطير كثيرة ومن ثقافات مختلفة تصوره عالما مستقبليا، ما ورائيا يتحقق بعد الموت. فلعل فكرة الجنة (والعالم الآخر عموما) كانت هي التحدي الماورائي، للخوف الماورائي الذي يهــدد كينونــــة الإنســان، حيث الحياة الخالدة الدائمة هي الشغل الشاغل لذهن الإنسان، ومهما اختلفت التصورات ستظل هي المشروع المد شن من قبل المخيلة الجمعية لاتقــاء وطـــأة وفظاعة الموت"(2).
وقد تصور الإنسان الأول أن "عالمه الآخر" يقع في أسفل الأرض، ولعل مرد هذا التصور ما رآه من حركات سفلية في ما يتعلق بالظواهر الكونية الرئيسية فالنبات، مصدر غذائه الأساسي، يضرب بجذوره في أعماق الأرض، والماء، مصدر حياته، يسقط سقوطا سفليا من السماء إلى الأرض. والإنسان نفسه يدفن في مكان تحتي، شحذ كل ذلك مخيلته لتبتكر عالما سفليا سيكون ملاذه بعد وفاته.
واختلفت أشكال هذا "العالم السفلي" من ثقافة إلى أخرى في بعض التفاصيل، وإن ظل المرجع الأساسي هو الواقع العيني/ عالم الأحياء الذي ساعد المخيلة البشرية في تشكيل تصوراتها الأسطورية حول عالم الموتى، الذي كان في البداية فضاء مبهما، ضبابيا، لا يكاد يتميز عن عالم الأحياء، الأرض، ولا يكاد ينفصل جحيمه على فردوسه" فهناك اعتقاد (أولي) عند البدائيين بأن الموتى يواصلون سير وجودهم مثل الأحياء في أماكن تشتمل على ضعف ما هو موجود على سطح الأرض. يوجد هذا التصور في إفريقيا(...). وسنكتفي بمثال واحد: ترى قبائل (Bassonta) في زامبيا أن الموتى يجدون قرى وضيعات عائلية وأنهارا، حيث يواصلون مشوار حياتهم في الصيد، وإقامة الولائم، والمشاجرات، والزواج كما كانوا يفعلون في السابق"(3).
فالعالم الآخر في تصور هذه الشعوب في -بدائيتها- هو مرآة للحياة على الأرض مع بعض المتغيرات الطفيفة؛ فالليل عند الأحياء هو النهار عند الموتى، والربيع عند هؤلاء يقابله الشتاء عند أولئك. ولكن مع تطور الوعي البشري وظهور أسباب الحضارة والتمدن، طرأت تغيرات واضحة مست أسطورة العالم الآخر، وبدأت الفروق بين جحيمه وفردوسه تتضح تدريجيا، وظهرت أساطير كثيرة حول "الجحيم"، تصوره مكانا كئيبا، وبائسا، تسكنه مخلوقات شبحية، بعد أن تقطع طريقا مزروعا بالفخاخ والأحابيل.
وفي ثقافات حديثة كان الجحيم مقر إقامة أرواح كل الموتى، وفي ثقافات أخرى، هو قصر على أرواح المذنبين فحسب، ولم يكن سكان الجحيم أناسا أشرارا أو مذنبين بالمعنى الأخلاقي بقدر ما هم أرواح بائسة، تاهت طريقا أثناء سفرها الجهنمي، فلم تكن فكرة الجزاء أو الثواب والعقاب قد تبلورت بعد، لكن الخوف من الموت، ومنظر الجثة البشعة، ورهاب المجهول هو ما ساعد على رسم صورة كئيبة وبشعة للعالم الآخر. وكان لأساطير الشرق الأوسط فضل كبير في رسم خرائط توضيحية للعالم الآخر، وسنمثل في بحثنا هذا ببعض الأساطير المصرية، والإغريقية، والهندية، والفارسية:
1. العالم الآخر في الأسطوريات المصرية
تقف الأهرامات المصرية وكتاب الموتى دليلا على امتلاك المصريين القدامى تصورات واضحة ومتطورة حول العالم الآخر الذي يعزى الكثير من جزيئات هذا الموضوع وتفاصيله. ولم يتم ذلك طفرة بل امتد إلى تاريخ تشكلت فيه الرؤية " الأخروية " بصورة تدريجية.
اعتنى المصريون اعتناء بالغا بمصير موتاهم، فصنعوا التوابيت ونقشوها وحنطوا موتاهم، وبنوا القبور استعدادا لأن تنتقل روح المتوفى إلى عالم غاب عنه إله الشمس، فإذا به مكان كئيب مظلم" فالأبواب تغلق، والحفر والتوابيت تقفل، والظلام يهبط، ويستأنف النائمون نوم الميت في هيئة المومياء، وتظل أجسادهم مخفية، مخبوءة في أعماق الأرض، ولكن أرواحهم وظلالهم تتبع طريق النور وإله الشمس لترى هذا العالم في شكل نجوم أو طيور مهاجرة (...) أما أجسادهم فتندو عنها صيحة عويل أخيرة قبل أن تغلق توابيتها في الظلام"(4).
تقطع روح المتوفى طريقها في هذا الظلام ثم تصل إلى مكان دينونتها، لتحاكم أمام محكمة إلهية يترأسها أوزريس الذي يحاسب الروح على ما جنته في حياتها ويقدم كتاب الموتى مشاهد من المحاكمة الأوزيرية، التي يصر فيها المتوفى، على أنه لم يخرق قوانين المجتمع وتعاليمه الصارمة على الصعيد الاقتصادي، والاجتماعي بقدر ما كان ملتزما بالطقوس والشرائع الدينية، ولنسمع أحدهم يقول: " لم أغش قوانين الآلهة، لم أزح قرابين الممجدين، لم أرتكب الزنا، لم أدنس نفسي في موضع إله مدينتي المقدسة، لم أنقض القرابين المستحقة، لم أزد ولم أنقص شبرا من الأرض، لم أنتزع اللبن من فم رضيع، لم أستول على حقول الآخرين، لم أغش الكيل، لم أطفف الميزان، ولم أطرد من مراعيه، ولم...، ولم...، ولم..."(5).
تعكس فكرة المحاكمة تطورا ملحوظا في وعي البشرية، وفي تركيبة المجتمع، فكرة الدينونة المرتبطة بظهور" الدولة"، وإرساء قواعد المجتمع، وأخلاقياته، ولوائح قيمه، وكأن عدالة الآلهة في العالم الآخر هي استمرار لعدالة الملوك في العالم الأزلي. ولا أدل على ذلك من طبيعة اعتراف الميت التي تمس الحياة بشقيها الديني والدنيوي. وإذا ثبت أنّ المتوفى كان كاذبا في اعترافاته، فإنه سيلقى عقابا شديدا، وعادلا في الوقت نفسه يستند إلى مرجعية صادقة، أساسها شهادة أعضاء المتوفى على ذاته،" فأما القلب فقد اعتبره المصريون العضو البشري الرئيسي للإرادة والرغبة، إنه الإرادة الخيرة التي تتحمل المسؤولية عن السلوك الرديء والسلوك الحسي، والقلب البشري يوحي دائما بالخطط الشريرة التي تعارض القاموس المقدس للخليقة، وفي يوم الحساب على الميت أن يتأكد من أن قلبه لن يشي بسلوكه السيئ، لأن ذلك قد يؤدي به إلى الخلود في العذاب"(6).
لم يتفنن المصريون في تصوير أشكال العذاب الجسدي، الذي يقوم على الحرق، والكي - كما سنلاحظ ذلك لاحقا في الثقافات الموالية- بل توعدت المذنبين بالحرمان من نور الإله أوزيريس، والفناء التام فـ" الغرض الحقيقي من الرعب الجحيمي ليس التعذيب الأبدي في حد ذاته أو اعتباره ضربا من التطهير، وإنما الإبعاد المطلق لكل ما هو معاد لأوزيريس والنظام المقدس(...) لذا تتعرض شخصيات المدانين للتدمير التام وتطرح أجسادهم للنيران الحارقة، وبدلا من الأريج الذي يخلط بالمباركين يحيا المدانون نتن الجحيم، وبدلا من القيام من الأعماق للتمتع بنور الإله يسقط المدانون في الظلام داخل أعماق وهدات الأرض، وبدلا من أن يستيقظوا ويتجددوا يكونون مهددين بالعدم التام المطلق النهائي، وهذه هي الميتة الثانية التي تتحدث عنها أصول الأبدية " لقد قضيت بحذفكم وحكمت عليكم بالإعدام" هذه هي الكلمات الموحشة التي يخاطب بها رع أعداءه في مركز الإبادة"(7).
تحتوي هذه الرؤية على بعد تجريدي/ روحي يتسامى عن التشخيص والتجسيد وهذا ما يعد تصورا سابقا لأوانه. حين انتبهت إلى عذاب الروح، مما يستوجب من الإنسان يكافح شهواته ليشعر لأول مرة بنداء الضمير وحس الواجب فهذا التصور يقوم أساسا على سعي المصريين القدامى إلى ضبط مجتمعهم والمحافظة عليه من نزعات الإنسان الشريرة، فاهتدوا إلى فكرة "الحساب" في العالم الآخر بعد أن أدركوا أنّ الحساب والعقاب في الحياة الدنيا لا يكفيان.
2. العالم الآخر في الأسطوريات البابلية:
يمكن أن نستخلص ملامح العالم الآخر في بلاد الرافدين وخاصة في عصرها البابلي انطلاقا من أثرين عالميين، كان لهما وصمتهما الخاصة قديما وحديثا، يتعلق الأمر بأسطورة عشتار، وقصة هبوطها إلى العالم السفلي بحثا عن حبيبها تموز، وملحمة جلجامش؛ الملك البابلي الذي سافر إلى العالم الآخر باحثا عن الخلود والنعيم الأبدي.
عشتار أو عشتروت إلهة الحب، والجمال، والحرب في الأسطوريات البابلية، تقابل إنانا السومرية، وأفروديت اليونانية،، وفينوس الرومانية تقول الأسطورة "إن عشتار هبطت إلى العالم السفلي، وبعد أن جاوزت الأبواب السبعة وخلعت عند كل باب منها ما كانت تتحلى به من ثياب وجواهر حتى وصلت عارية إلى قاعة المحاكمة، هناك حكمت عليها نيرشكيغال وزوجها نيرجال بالموت الأبدي، غير أن "إيا" إله الماء والحكمة، أرسل ماء الحياة ليبعثها من موتها، فاستعادت ملابسها وجواهرها عند الأبواب السبعة في طريق عودتها إلى سطح الأرض وتركت وراءها تموز يحل محلها بين الموتى"(8).
تدل هذه الأسطورة على أن العالم الآخر مكان كريه، وموحش، لا يستطيع أحد دخوله أو زيارته مؤقتا بما في ذلك الآلهة، أي أنه مكان اللارجوع، فلا بعث، ولا نشور، ولا عودة إلى العالم الأرضي كما تدل فكرة "المحاكمة" التي تديرها الإلهة نيرشكيغال وزوجها على وجود معايير أخلاقية لمحاسبة الموتى، وفرزهم بين أشرار وأتقياء، وهذا ما تجلى فيما بعد في شرائع حامورابي التي تعود إلى عام 1750 ق.م وقد صيغت في شكل استنطاق واعترافات تدل على أن السماء تفتي في شؤون الأرض، وأن من يخالف القوانين الاجتماعية فكأنه اخترق القانون الإلهي الكوني، لذا سيكون مصيره تعيسا في الحياة الآخرة لا يملك منها فكاكا أو تلطيفا.
أما ملحمة جلجامش فتروي قصة الملك البابلي جلجامش في رحلة بحثه عن العالم الآخر بعد أن فجع بموت صديقه أنكيدو، وقد تعرف إلى حقيقة مذهلة اسمها الموت / الفناء، فسينتهي به المطاف كما انتهى بأنكيدو، إلى مكان ضيق بائس:
إلى البيت الذي لا يرجع منه من دخله
إلى الطريق الذي لا رجعة لسالكه
إلى البيت الذي حرم ساكنوه من النور
حيث التراب طعامهم والطين قوتهم (9)
هروبا من هذا المصير المأساوي راح جلجامش يبحث عن أسباب الخلود والنعيم الدائم، وقاده البحث إلى جنة الخلد، حيث يقيم أتونبشتم مع زوجه، ويذهل جلجامش بمعرفة حقائق مفزعة، أولها أن الخلود قدر إلهي اختصت به الآلهة دون البشر، وما أتونبشتم إلا حالة استثنائية تؤكد القاعدة ولا تنفيها، وثانيها أن ما من جنة خلد ولا فردوس موعود ينتظر الإنسان بعد موته، إذن لا يتحقق الخلود إلا بالعمل الصالح ومعاطاة العلم والمعرفة والحكمة.
إن أسطورة عشتار وجلجامش هي انتصار للحياة على الموت، وللوجود الدنيوي الزائل على الخلود الوهمي الأبدي، لذا قرر جلجامش أن يعيش حياته الراهنة بدلا من الخلود في جنة أتونبشتم وزوجه، أي أن يعيش عالمه الأخروي في الحياة الدنيوية.
3. العالم الآخر في الأسطوريات الإغريقية
كانت هذه الأسطورة في البداية ضبابية، غائمة، فلم تشر الأساطير اليونانية إلا إلى مكان ذي أصول مصرية يسمى "تارتار." يربط بول غيسوني (Paul GHISONI) بين تارتار وداردروت المصرية، (...) وهي كلمة موحية تدل على البيت الأبدي، كما تعني حفرة في شكل جرة تنتهي بعنق ضيق تخرج منه جذور العالم "(10).
وظل الأمر كذلك إلى أن ظهرت الأورفية (ORPHISME)* في القرن السادس قبل الميلاد، كرد فعل على سلسلة الفتن والحروب الأهلية التي عمت المدن الداخلية الإغريقية، فجاءت هذه الحركة تيارا دينيا قويا يحاول أن يتعالى على هزائم الواقع وانكساراته بخلق عالم آخر بديل، ينعم فيه الصالحون بنعيم أبدي، ويعاني فيه المذنبون عقابا مقيما.
تفرغت هذه العقيدة للعالم الماورائي تفرغا تاما، ووضعت نصب عينيها أن تسهل الطريق لروح المتوفى كي تصل بسلام إلى مملكة الموتى فـ"كان على معلمي الأورفية أن يلقنوا الروح ما ستفعله لتهبط بسلام وما سوف تقوله لحراس العالم الآخر حتى يسمحوا لها بالمرور، والاستقرار في أرض الأبدية والخلود، ولقد تبلورت هذه التعليمات فيما يسمى بـ ’’الألواح الذهبية’’ أو "الألواح الأورفية" التي كانت توضع مع الميت في قبره، أو تعلق في عنقه على هيئة تمائم لتكون مرشدة في عملية النزول إلى العالم الآخر "(11)، وهذا ما يتشابه إلى حد كبير مع كتاب الموتى، مما يدل على الأثر المصري في الميثولوجيا الإغريقية.
4. العالم الآخر في الأسطوريات الهندية:
اهتمت البوذية بتشكيل تصورات أسطورية/ دينية عن العالم الآخر، فكان ثمة اعتقاد بالسفر الجهنمي، والمحاسبة، وجلسات المحاكمة، وميزان الأعمال، وكان هناك تنويعات جغرافية لخريطة العالم الآخر، كما تفننت الأساطير في رسم عذابات الأرواح الشقية، ونعيم أرواح المباركين، فروت كيف "تتوجه الروح بعد الوفاة إما للجحيم الذي يقتضي تمثيلات لنظام مرعب بواسطة الحيوانات على وجه الخصوص، وإما نحو درجة من درجات الفردوس الموجود في القمر انتظارا لميلاد نظام راق، ويسمى هذا الدرب "الدرب القمري" أو "طريق الآلهة" لأن الشمس تسمح لهم بالوصول إلى العالم المتسامي للبراهمان"(12).
وتختصر الأساطير الهندية حديثها عن الفردوس، لتتفرغ في إبداع تصورات خارقة حول عذاب الأشقياء في جهنم "يوجد عدد لا يحصى من المواصفات التي ابتدعها الهندوس حول واحد وعشرين جحيما، فالمذنبون تنهشهم أفاعي ومخلوقات متوحشة، كما أنهم يشوون بعناء، ويقطّعون بالمناشير، ويجهدهم الجوع والعطش، ويغلون في الزيت، أو يهرسون في مقامع من حديد أو حجر"(13).
تلاشت هذه التصورات الأسطورية للعالم الآخر في الحضارة الهندية بحلول "نظرية التناسخ" التي آمنت بأن النفس تموت وتولد بصورة تكرارية، لانهائية، ويكون انتقال الروح من جسد إلى آخر على قدر الفضائل أو الذنوب التي ارتكبها الإنسان في التجسيد السابق، فمن ثقل ميزان سيئاته حلّت روحه في جسد كلب أو خنزير أو دودة أرض أو حشرة، ومن ثقل ميزان حسناته، حلت روحه بجسد قديس أو ناسك، ويمكن للروح أن تتخلص من هذا التحول الممل إذا تخلصت من أغلال الواقع المادي، واستطاعت أن تتّحد مع الروح المطلق، فتبلغ النيرفانا، أو حالة الغبطة النهائية، ولا يتمّ هذا الأمر بسهولة، بل يستلزم كفاحا متطرفا لضبط النفس وتهذيب الجسد، فتنعتق الروح منه، وتتساقط الخطايا عن عاتق الإنسان الذي آمن بفرديته، ومسؤوليته التامة عن أخطائه، وعن اختياراته الأخلاقية، لذا فـ "فكرة التضحية والقرابين التي يجب أن تقدم للآلهة حل محلها التفكير باتّباع نظام أخلاقي صارم لضبط النفس وللتأمل، وبذلك تتحد الذات الباطنية العميقة للفرد مع الروح المنطلق أو الحقيقة الخالدة"(14).
كان "العالم الآخر" بالنسبة إلى الحضارة الهندية لعنة لا بد من التخلص منها، إما عن طريق الاتحاد بالمطلق، أو عن طريق الحكمة، والأخلاق، والمعرفة، ولعل مرد هذه الرؤية التشاؤمية للحياة الماورائية هو بؤس الظروف الإنسانية التي عاشها الهند، فأصرّ على الخلاص إصرارا منقطع النظير.
لا تكاد حضارة قديمة في العالم تخلو من أساطير حول العالم الآخر، وقد أسهمت مجتمعة في تأثيث هذا العالم الماورائي وفق تصورات ميثيولوجية، عجائبية، تستمد جزيئاتها من الواقع العيني. إذا كان الماء، والخضرة، والوجه الحسن قواسم مشتركة في أساطير الفردوس خاصة عند أمم الشرق الأوسط والأدنى التي عانت من حرارة المناخ، وكانت النار، والقارب، والكلاب، والأفاعي، ومقامع الحديد هي موتيفات أساطير الجحيم خاصة عند الحضارات التي عانت من البرد والجليد، كنا متعمّدين أن تكون الشواهد والأمثلة من حضارات مختلفة دون أن نلتفت إلى الأسبق إلاّ ما جاء عرضا فكل ثقافة قدمت تجربتها، وتصوراتها لإثراء هذه الأسطورة الإنسانية، الكونية.
تجدر بنا الإشارة إلى نقطة هامة، فقد لاحظنا أن أساطير الجحيم كانت أكثر حضورا، وثراء، وتنوعا من أساطير الفردوس، ولعل الخوف من الموت، ومنظر الجثة البشع، ورهاب المجهول هو ما ساعد على رسم صورة كئيبة وبشعة للعالم الآخر، أو لعل الخيال البشري يكون أكثر توقدا وإبداعا وهو يصف مناظر الترهيب، والعذاب، والدمار "فما معنى كل هذا؟ ألأنّ الإنسان جبار يتعشّق الحياة الصاخبة، والتبديل، والتغيير، فقد وجد ضالته في جهنم، وألفى السماء/الفردوس رتيبة ومملة؟ أم لأنه جبان، يذعن للترهيب أكثر مما يصغي إلى الترغيب، فكان على خدّام الإيمان أن يعملوا في هذا الاتجاه؟"(15).
= = =
الهوامش
1. مصطفى العدوي: الفردوس المفقود في الأساطير، مجلة كتابات معاصرة، ع 45، م 1، لبنان 2001، ص 143
2. إبراهيم محمود: جغرافية الملذات: الجنس في الجنة، رياض الريس للكتب والنشر، ط2، بيروت لبنان،1998، ص25
3. Mercia Eliade:Enfers et Paradis.Encyclopedia.Universalis.vol 08. France 1996, p. 36
4. إريك هور نونج وادي الملوك. أفق الأبدية. العالم الآخر لدى قدماء المصريين. ت محمد العزب موسى مكتبة مدبولي. ط2 القاهرة، 2002 ص 190
5. برت إم هرو: كتاب الموتى الفرعوني ترجمة عن الهيروغليفية السير والسن، ونقله للعربية فيليب عطية. مكتبة مدبولي ط2، 2000، ص 123
6. وادي الملوك. أفق الأبدية، العالم الآخر لدى المصريين القدامى، ص 186
7. وادي الملوك. أفق الأبدية، ص 213-214
8. منى طلبة: أدب الرحلة إلى العالم الآخر، رسالة دكتوراه -مخطوطة- جامعة عين شمس، مصر، 1998، ص 312
9. جلجامش: المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية للنشر، الجزائر، 1995، ص 61
10. PIERRE BRUNEL:L’EVOCATION DES MORTS ET LA DESCENTE AUX ENFERs- SEDESKParis,1973, p 69
11. منيرة كروان: العالم الآخر في المسرح الإغريقي، دار المعارف، ط1، مصر، 1992، ص60.
12. Mercia Eliade:Enfers et Paradis. p. 365
13 Mercia Eliade:Enfers et Paradis. p. 365
14. منى طلبة: أدب الرحلة إلى العالم الآخر. ص 321
15. جورج مينوا: تاريخ جهنم، ت: أنطوان الهاشم، منشورات عويدات، ط1، بيروت/باريس، 1996، ص 08 (مقدمة المترجم)