كريمة كربية - تونس
الذات الشيعية في مرآة التيار الأصولي
من خلال فكر عبد الكريم سروش (*)
(*) عبد الكريم سروش: مفكر إيراني. من مواليد طهران عام 1945. درس الكيمياء التحليلية في لندن، ثم تحول إلى دراسة تاريخ وفلسفة العلم. عاد إلى إيران بعد سقوط نظام الشاه وتحول إيران إلى جمهورية إسلامية. مارس التدريس الجامعي في الولايات المتحدة. له مؤلفات عديدة. يمكن الرجوع إلى المزيد من المعلومات عنه ومؤلفاته في موقعه على الإنترنت (بالإنجليزية والفارسية) عنوان الموقع (www.drsoroush.com).
الذات الشيعية التي يقدمها هذا البحث ذاتٌ غايرت الفكر الشيعي الذي انتشر في أذهان أغلب المسلمين، ذلك الذي يقول بالتزام بالنص والسنة وأقوال الإمام المعصوم من الخطأ لتنظيم حياة المسلمين وتسيير شؤونهم دون الخروج عن ذلك. وتستحيل الشريعة بذلك المنظمة وناهضة بشؤون المسلم وبالتالي شؤون الدولة الإسلامية.
إلاّ أن المفكّر الشيعي عبد الكريم سروش (1) عبّر عن ذات مغايرة للمتعارف عليه، ذات حاربها "التيار الأصولي" (2) بشدّة وكفّرها ونسبها إلى عصر الجاهلية. والحال أن أتباع التيار الأصولي دعّمهم آية الله الخميني في فترة من الفترات لاشتراكه في غايات تفكيرهم المتمثلة في بناء حكومة إسلامية تقوم على قواعد الشريعة الإسلامية. هذه الذات الشيعية المؤيدة لهذا التيار استحالت عدوّا لذات شيعية انبتت عن تراثها لتنظر إلى النص الديني نظرة مخالفة للنظرة الأصولية، محاربة لها.
ويصبح الصراع بين الذات (الأنا) والآخر صراعا شرسا رغم انطلاقه من أرضية واحدة مشتركة وهي الوحي، أو بالأحرى النص الديني. نرى أن المنطلقات واحدة أما الرؤية الذاتية لكل منهما خلقت هذا الصراع ليكون الطرف المقابل هو الآخر المختلف والمغاير المعادي بأفكاره. ولعل هذه الذات الشيعية تبلورت أكثر واتضحت لنا من خلال هذا الصراع إذ، لا تدرك الذات ذاتها بطريقة ذاتية تلقائية، بل يتمّ الإدراك عبر الغير بالتفاعل معه، ولا يتمّ الوعي الوجودي بالذات، كما لا يتمّ بناؤها وتطويرها إلاّ من خلال الآخر بإدراكه والوعي به وبتفسير دوره والصراع المستمرّ معه سعيا إلى تقزيم الآخر لتضخيم الذات. وما دام الدفاع عن الأنا أو النحن، أي الذات، مبدأ مشروعا فكلّ الأسلحة إذا مشروعة ومبرّرة.
ما الذي يميز هذه الذات الشيعية المختلفة الطريفة؟
كيف تعاملت مع الآخر؟ (الذي ضبطناه بالتيار الأصولي لأن الآخر في هذا المجال متعدد.)
كيف نظر هذا الآخر إلى هذه الذات؟ وما مآخذه عليها؟
في إطار هذه الإشكاليات سأحاول ضبط صورة الذات الشيعية في مرآة التيار الأصولي وفي المقابل ضبط صورة الأصوليين في مرآة الذات الشيعية أيضا. هذه الذات التي تمثّل تيارا فكريا ينظر إلى النص الديني نظرة تقدّمية.
ينظر عبد الكريم سروش إلى المعرفة الدينية، كأي معرفة أخرى، على أنها حصيلة جهد البشر وتأملهم، وهي دائما مزيج من الآراء الظنية واليقينية، ومن الحق والباطل، ولا مجال لإنكار تطور هذه المجموعة وتكاملها. وهو لا يقول إن الوحي الذي أتى به الأنبياء يكمله البشر، إنما يقول إن فهم البشر لمفاد الوحي يتطور.
ويرى سروش أن الفقهاء ما لم يجتهدوا في دائرة المباني والأصول ويطرحوا معرفة جديدة في إطار علوم "الأنسنة" (3) والوجود فإنهم لا يتمكنون من الاستجابة لتحديات الواقع وحاجات المجتمع البشري المعاصر، لأن الفقه الكامل لا يوجد على سطح الأرض بل هو عند الله. ولكن علم الفقه علم بشري، وكل العلوم البشرية تتحرك في صراط التكامل. يقول:
"الشريعة، باعتقاد المؤمنين، قدسية كاملة وإلهية المصدر والمنشأ ... أما فهم الشريعة فلا يتصف بأيٍّ من هذه الصفات، ولم يكن في أيِّ عصر من العصور كاملاً ولا ثابتًا ولا نقيًّا، ولا بعيدًا من الخطأ والخلل، ولا مستغنيًا عن المعارف البشرية أو مستقلاًّ عنها، ومنشؤه ليس قدسيًّا ولا إلهيًّا، وهو ليس بمنأى عن تحريف المحرِّفين أو الفهم الخاطئ لذوي العقول القاصرة، وليس خالدًا ولا أبديا" (4).
ويجعل سروش من نظام الفقه الإسلامي محلاً لتساؤل كبير، ويُسقط بشدة من مكانة رجال الدين، إذ يماهي بين فهمهم وفهم الآخرين، لا بلّ إنه يفضل فهم الآخرين على فهمهم. فما الأساس المعرفي الذي تركته نظرية "القبض والبسط" لسروش؟
إن نظرية "القبض والبسط" تستدعي حصول تحولات في العلوم الدينية تبعاً لتحولات طرأت على العلوم الأخرى، فإذا لم تكن للمدرسة الكلاسيكية مواكبة علمية للعلوم الأخرى فلن تستطيع تحقيق نتائج مضمونة. وقد تناولت نظريته العلمية الكبرى التحول الذي طرأ على المعرفة بشؤون الدين. ولأن معرفة الإنسان قابلة للتغيير، فإن معرفته لشؤون دينه تتغير أيضا، إذ أن المعرفة تتعلق دائما بالزمن وبمستوى العلم. ويقصد سروش هنا أنه مع الزمن تظهر تفسيرات ومعان جديدة للدين، وهذه لابد أن تتناسب مع ظروف الحياة التي يحياها المفسرون. يقول:
"وإن أسئلة كلِّ عصر هي وليدة علوم ذلك العصر، ولا يمكن أن تطرأ على بال أحد قبل نضج العصر علميًّا. وبما أن العلوم تتجدد، فإن الأسئلة، وثانيًا الأجوبة، تتجدد. ومن هذا المنطلق، تبقى المعرفة الدينية في تجدد مستمر..."(5).
وبالتالي فهو يدعو إلى قراءة القرآن بطريقة حرّة وعلمية. إذ يرى أن أسس الحياة الجديدة اختلفت عن أسس الحياة القديمة، وهذا ما أدى إلى ولادة تفسير جديد للطبيعة يرتبط بمختلف مناحي الحياة ويتعلق أيضا بالوسائل التي تعتمد عليها الحياة الجديدة. فكيف إذن تتغير وتتطور النظريات التي تفسر طبيعة الحياة، وفي الوقت نفسه "يحرّم" التيار الديني السني أو الشيعي ومدرسته التفسيرية التقليدية الاستعانة بنظريات ومناهج جديدة لتفسير الدين والشريعة؟ وهل لابد لفهم الطبيعة أن يتطور ويتغير، فيما يظل فهم الشريعة دون أي حراك أو تغيير وتطوير؟
سروش بهذا التفكير يشير إلى نسبية النص الديني ويرفع القداسة عنه ويصبح مجرّد نص قابل للتنقيح والتحوير وفق متطلّبات الإنسان ويطبق عليه كل الآليات الحديثة لدراسة النص. كل ذلك يفضي إلى النسبية والشك، مما يجعل كل المعتقدات في موضع حرج ومأزق حادّ. يقول:
"إن إدراك الناس المنهجي والمضبوط للشريعة حتى وإن كان صحيحاً كلياً ولا نقصان فيه هو غير الشريعة، والإدراك الصحيح معناه الإدراك المطابق للواقع، وهذا ما يقتضي وجود واقعية منفصلة عن الإدراك، وهذا الإدراك مطابق لتلك الواقعية. وإذا كان الفهم الصحيح للشريعة هو الشريعة نفسها معنى ذلك أنه كان يجب أن تنزل شرائع بعدد الذين يفهمون الشريعة فهما صحيحاً، لذلك فإن المعرفة الدينية على الرغم من أنها مبنية على الدين ومرآة له إلا أنها ليست الدين نفسه"(6).
ويرى سروش أن التأويل العلمي للعقيدة هو أحد مظاهر الحداثة، وأن المرء يجب أن يعتبر أن المعرفة بشؤون الدين قابلةٌ للتغيير، وهذا التغيير يفسح المجال لتفسيرات جديدة وبمقدور الإنسان إدراك مُراد الله وفهمه، لا غير. ومقصد الدين هذا لا يمكن أبداً أن يتعارض مع الطبيعة البشرية، والنص القرآني يُعتبر بذلك نصا حُراً مثل النصوص الأُخرى قابلاً للتأويل والتفسير. يقول: "دين كل واحد هو عين فهمه للشريعة، أما الشريعة الخالصة فلا وجود لها إلا لدى الشارع عز وجل"(7).
من هذا المنطلق فإن اختلاف وتغيّر وتطور نظريات ومناهج الفهم والتفسير، سواء المتعلقة بالطبيعة أو بالدين، من شأنه أن يؤدي إلى نتيجة مفادها أن المعرفة، وبالذات الدينية، أصبحت معرفة نسبية. فأي منهج تفسير ديني جديد من شأنه أن يؤسس لنتيجة نسبية، بسبب أنه تأسس وانطلق من أرضية علمية حديثة تقوم على أسس معرفية جديدة تؤمن بنسبية الفهم، كما تؤمن بتعدد مناهج التفسير سواء ارتبطت بالطبيعة أو بالشريعة. وبالتالي أي نتيجة لا يمكن أن تعكس الحالة النهائية في الفهم والتفسير وإنما تعكس الحالة النسبية وتنوع النتائج وذلك لصدورها من أرضية الفهم التعدّدي، فتعدد مناهج التفسير يؤدي إلى تعدد النتائج التي تؤدي في المحصلة إلى نتائج نسبية غير نهائية وغير مطلقة وذلك بسبب تعدديتها.
ينزل سروش النص الديني مثلا ضمن درس فلسفة اللغة الحديثة حيث يدرس النص الديني دراسة لغوية مؤسسة على علم الألسنيات التي يرى أنها تختلف جذريا عن فلسفة اللغة الكلاسيكية المرتبطة بفقه اللغة التقليدي، فالمجاز بالنسبة للنظرية التقليدية هو الغطاء الخارجي لا أهمية له من الناحية المعنوية الأساسية، فالكلمات تحيل مباشرة إلى الأشياء، ولكل اسم مسمّى خاص به. أما نظرية اللغة الحديثة فلا تعتقد بإمكانية إقامة علاقة مباشرة بين الكلمات والأشياء بل هي علاقة وسائطية، إذ الشيء قد يكون له أكثر من اسم في أكثر من لغة. ثم إن الاسم يحيل إلى صورة الشيء في الذهن لا إلى الشيء ذاته. ويرى سروش أن تقييد المعنى المجازي والحصر للرمز هو خنق لحرية الفكر والتاريخ والشاهد على ذلك الأنظمة الفقهية اللاهوتية الكلاسيكية إذ أغلقت لغة الوحي ومجّدتها وأوهمت الناس أن للوحي معنى واحدا لا متعدد المعنى في حين أن الوحي ينبغي أن ينفتح على مطلق المعنى وآفاق الوجود وممكنات المستقبل والحياة.
لذلك، يتبنى سروش علم المعنى "السيميائي"(8)، وهو قد تطور كثيرا في الآونة الأخيرة في فرنسا بسبب ازدهار علم الإنسانيات الذي يهتم فقط بنظاميات العلامات اللغوية. أما علم السيمائيات فيهتمّ بدراسة كل أنظمة العلامات غير اللغوية، أي كل المناخ الرمزي الموجود والمحيط في المجتمع من طريقة تنظيم الشوارع والساحات العامة إلى أنظمة التيارات المرور إلى آداب التحية السائدة إلى اللباس والأزياء النسائية والرجالية إلى المطبخ وطريقة تنظيم البيت من الداخل. كل ذلك يمثل النظام السيميائي الرمزي لمجتمع ما. وعندما ينتقل الإنسان من مجتمع إسلامي شرقي إلى مجتمع حديث غربي يفاجأ بمناخ سيميائي ورمزي جديد ومختلف كليا. وهو بالتالي علم يدرس اللغة من زاوية المعنى ويتعامل مع النص في كليّته. وبذلك يصبح النص منفتحا على عكس نظرة الفقهاء وعلماء الكلام المسلمين الذين يلغون كل هذه الأبعاد المذكورة ويجعلونه في خطاب مغلق ونهائي، وهو ما جعل في المقابل أنصار التيار الأصولي يرفضون ولادة أي أسس أخرى جديدة يتأسس من خلالها الفهم الجديد النسبي، ويذهبون إلى القول بتمام النص، مما دعا بعض المفكرين إلى وسم فكرهم بالفكر التمامي ويقصد بذلك التام الذي لا يقبل أي شك أو تحوير للمعنى الديني.
وما استعمال العقل حسب فكر الأصولي إلا للتفسير والتوضيح، لا لطرح أسئلة تشكك فيما ورد ثابتا في النص القرآني، إذ يصرّح أبو الأعلى المودودي"(9)، الذي يمثّل أحد المصادر الفكريّة الرّئيسية لهذا التيّار:
"يجوز لكم ولا شكّ أن تستعملوا عقلكم لفهم تلك الأحكام وإدراك حكمها ودقائقها ولتطبيقها على جزئيات حياتكم، ولكنّه ليس لكم أن تشكوا وتتساءلوا في أمر يأمركم به الله تعالى وسواء أدركتم الحكمة من وراء أمر إلهي أم لم تدركوا، وطبق أمر من عند اللّه معيار عقلكم أم لم يطابق، وكان ما قضى الله ورسوله موافقا للعادات والتقاليد الرائجة في هذه الدنيا أو منافيا لها فليس لكم في كلّ حال إلاّ أن تذعنوا له وتتبعوه. لأنّكم إذا آمنتم بالله وصدّقتم رسوله وأيقنتم بأن ّ كلّ ما يدعوا إليه رسول الله هو من عند الله لا من عند نفسه"(10).
العقل الأصولي إذن ليس بالعقل الفلسفي أو الرياضي، إنما يتلخّص مفهومه في قدرته "على إدراك موضوعاته، سواء في عالم الشّهادة أو عالم الغيب. والغيب نوعان: نسبي يمكن إدراكه مثل نهاية الزمان ويستند الوحي إلى العقل كما يستند العقل إلى الوحي بالتوجه نحو اليقين ضدّ الضن والنسبية والشمولية ضدّ التجزئة، والتوجه إلى العمل ضدّ المغالاة في التحليلات النظريّة المجرّدة"(11).
فالخطاب الأصولي جعل من فهم النصوص مسلمات لا تقبل التأويل من جديد، وبالتالي أدّعى امتلاكه الحقيقة وبنى سلطة "كهنوت" أصبحت مرجعاً نهائياً في شؤون الدين والعقيدة، وساد الاعتقاد أن مَنْ يحاول دراسة الشريعة من غير معلّم مرتبط بسلطة الكهنوت الإسلامي فلن يسلم علمه من مخاطر وثغرات وآفات. ومن هنا تأتي مقاومة أصحاب الخطاب الأصولي للفكر العلماني، ذلك لأنه يسلبهم سلطتهم المقدسة المطلقة ليستبدلها بالمحدودية والنسبية في الفهم الديني، ونسبية حسب المفكّر الإيراني هي نتيجة ما في قياس ما، مضيفا أن نتيجة قياس ما منسوبة إلى "مقدماته"، أي أنه يتغذى منها، وكل تغيير في تلك المقدمات ينتهي بتغيير النتيجة، وثبات النتيجة معلل أيضا بثبات المقدمات. لذا فإن نسبية النتيجة لا تتنافى مع ثباتها. المهم هو أن "ثبات النتيجة" وكذلك "تحولها" منسوب إلى مقدماتها، فالعلاقة بين القارئ والنص القرآني لا يمكن كسرها، إذ لا يمكن اعتبار النص مجرد جوهر صوتي فونولوجي وسيميائي معنوي، بل إن النص عموما، والنص الديني خصوصا/ وجد ليقرأ ويعاش، وبهذه الطريقة يصبح النص القرآني بانتمائه إلى علم اللسانيات الحديثة متجدد المعاني، ويخرج من صفة القداسة والتعالي إلى صفة الواقعية والمحدودية.
إن هذا المنهج المعتمد في قراءة النصوص الدينية ينقل التعامل مع النص المقدس إلى مجال إدراجه ضمن اللغة نسقا ومعيارا إلى مجال اللغة كلاما واستعمالا، وأضحى النص الذي نملكه اليوم اكتسب نسيجه اللغوي ومعانيه داخل مجال التواصل، ولذلك لا يمكن تحقيق معرفة شاملة كاملة بالعقل الإسلامي ما لم ندرس القرآن وما لم ندرس النصوص المؤسسة لهذا العقل في ضوء النظرية التواصلية، أو بالأحرى في ضوء دلالية ما للتلفظ في الحضارة الإسلامية.
وقد اعتمد سروش على المنهج التفكيكي لتحصيل الظاهرة الدينية على تعددية المناهج وتنوعها أي المنهج اللّساني والتاريخي والأنثروبولوجي (12) والفلسفة والميثولوجيا، وذلك خشية الوقوع في النظرة الاختزالية للظاهرة الدينية ورغبة في الإحاطة بها من كل جانب، بغرض الفهم العميق والشامل.
"والقراءة التفكيكية تتجه إلى تفكيك النسق التاريخي لإنتاج التراث الديني الإسلامي سنويا، بحيث يتم التمييز بداية ما بين العناصر التكوينية التاريخية التي تعامل من خلالها الفكر الإسلامي مع النص الإلهي والسنة النبوية، وما بين النص الإلهي القرآني كوحي مطلق يتعالى على تاريخية الصدور والزماني والمكاني ويستجيب بذات الوقت لتكوينيه كل زمان ومكان عبر توسطات جدلية محددة"(13).
يقول سروش:
"يجب التفكيك في كل معرفة بين مقام التعريف ومقام التحقق، ومقام التعريف يلحظ فيه ما يجب أن يكون، بينما مقام التحقق هو ما تحقق فعلاً، وقد لا يتحقق ما وجب. وحين يعرّف علم ما ينظر إلى القضايا الصادقة، وليس إلى القضايا الكاذبة والباطلة، إلا أن ما يتحقق في العالم الخارجي قد لا يكون كذلك. وما من علم خالص أو صادق بشكل كامل، بل هو مجموعة من الآراء الصادقة والكاذبة لعدد من العلماء، وهي دائماً معرض التحول والتشذيب الجماعي والتاريخي. والمعرفة الدينية هي على هذا النحو" (14).
كما يقول سروش بضرورة الأخذ بالمنهج التاريخي في قراءة النص الديني. والمنهج التاريخي، في الحقيقة، يتفاوت ما بين تاريخية لا تعترف بصعيد خاص للظاهرة الدينية ولا تقرُّ به، وتتعامل معها كأية ظاهرة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية عادية، انطلاقًا من ذاتيتها المباشرة والزمكانية، وبين تاريخانية تأخذ بالاعتبار البعد التزامني، التطوري، للظاهرة الدينية، والأصعدة الخاصة للظاهرة (الميثولوجية، الميتافيزيقية، والجمالية)، باعتبار الدين ظاهرة ميتافيزيقية. وبعكس التاريخية (أو التاريخوية) التي تنطلق من فرضية وجود مسار موضوعي (وضعي) أو اتجاه عام، غائي، سببي، وعِلِّي، يقوم على قوانين تحكمه، ويمكن بناء الحكم على أساسها.
ويميز سروش بين الشريعة بذاتها وبين فهمها البشري، وبالتالي، بين الدين بذاته وبين المعرفة به، أي المعرفة الدينية. يقول:
"الشريعة، باعتقاد المؤمنين، قدسية كاملة وإلهية المصدر والمنشأ. أما فهم الشريعة فلا يتصف بأيٍّ من هذه الصفات، ولم يكن في أيِّ عصر من العصور كاملاً ولا ثابتًا ولا نقيًّا، ولا بعيدًا من الخطأ والخلل، ولا مستغنيًا عن المعارف البشرية أو مستقلاًّ عنها، ومنشؤه ليس قدسيًّا ولا إلهيًّا، وهو ليس بمنأى عن تحريف المحرِّفين أو الفهم الخاطئ لذوي العقول القاصرة، وليس خالدًا ولا أبديًّا" (15).
أن تكون المعرفةُ الدينية معرفةً بشرية يعني أنها كغيرها من معارف علوم الإنسان والمجتمع. وانطلاقا من القراءة التزامنية والقول بأهمية التنزيل النص الديني ضمن خط التاريخ كانت الدعوة إلى إعادة قراءة التاريخ العالمي والوعي بوحدة التاريخ البشري لتحقيق التقدم والحداثة إذ يشبِّه المعرفة الدينية بالمعرفة التاريخية، يقول: "إن علم التاريخ يتطور وتُعاد صياغتُه دائمًا"، ليس لأن الاكتشافات التاريخية تزداد كميًّا، ولكن لأن فهم المؤرخ للحوادث يتطور كيفيًّا ولأن الاكتشافات العلمية الجديدة تفتح منافذ جديدة للتحقيقات والأبحاث التاريخية. والمؤرخ المجهَّز بالوسائل العينية والنظريات الجديدة يتوصل إلى الفتوحات التاريخية الجديدة"(16).
ويؤكّد سروش على نقطة "اغتناء العلوم من بعضها بعضًا" هذه هي حال المتصدي للمعرفة الدينية، سواء كان فقيهًا أو مفسرًا أو عالم كلام أو باحثًا من أيِّ اختصاص:
"عليه أن يستعين بالتاريخ وبمنهجه، وبالفلسفة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا هذا كله حاضر في فهم الدين"(17).
لكن التيار الأصولي يرفض كل هذه المناهج على اعتبارها دخيلة على جوهر الإسلام، والإسلام في غنى عنها لما يتصّف النص الديني به من شمولية وكمال بل إنه يعتبر هذه المناهج خطرا على الإسلام من الواجب الاحتراس منها. يقول سيد قطب (18) أبرز ممثلي هذا التيار:
"أمّا الفلسفة وهي التفسير الفكري للكون والحياة والأدب وهو التفسير الشعوري لهما والتاريخ وهو التفسير الواقعي والتشريع وهو التفسير للعلاقات الأفراد والجماعات فيجب أن نحترس في الاستفادة منها كلّ الاحتراز. فنحن لا يؤذينا أن ننتفع بالعلوم البحتة في جزئيات الحياة، ولكن يؤذينا التفسير الكلّي للحياة لأنّه يقوم على فكرة غير فكرتنا ويؤدّي إلى تكوين صورة للكون وللحياة تصادم الصورة التي يكوّنها الإسلام عنهما وتنتهي بنا إلى سلوك طريق غير طريق الإسلام. هو الطريق الذي تشكو البشريّة اليوم من سلوكه وتعاني بلاياه"(19).
وهم (الأصوليون) بالتالي يدعون إلى قراءة النصوص الدينية والفقهية بطريقة تدين الحضارة الحديثة والعالم المعاصر والمجتمعات الإسلامية إدانة شاملة على أساس منهج التأصيل. لذلك كانت دعوة التيّار الأصولي لا تنفكّ تذكّر بضرورة الإيمان العميق بأنّ النظام الإسلامي هو النّظام الديني الإلهي الذي يجب على كلّ مسلم أن ينظّم حياته على أساسه وأن لا يغيّره مهما كانت الظروف والمناسبات، من حيث أنّه النظام الصالح والدّائم لكلّ زمان ومكان وأنّه ليس بمسلم من يعرض عن هذا النّظام ويستبدل به غيره ممّا هو من صنع البشر. فالله أعلم بمصلحة عباده، لذلك وضع لهم النّظام الذي إن ساروا عليه كما ينبغي تحقّقت لهم السّعادة، ومنّ اللّه عليهم بالخير وبالأمن والرّخاء وإذا أعرضوا أو اعترضوا عنهم أصابهم الشرّ والبلاء.
يقول سيّد قطب: "يجب أن يعرفوا أنّ هذا الدّين كما أنّه جاء ليغيّر التصوّر الاعتقادي، ومن ثمّ يغيّر به الواقع الحيوي - كذلك هو قد جاء ليغيّر المنهج الذي يبني به التصوّر الاعتقادي ويغيّر به الواقع الحيوي. جاء ليبني عقيدة وهو يبنى أمة، ثم لينشئ منهج تفكير خاصا به، بنفس الدرجة التي ينشئ بها تصوّرا اعتقاديا وواقعا حيويّا ولا انفصال بين منهج تفكيره الخاص، وتصوّره الاعتقادي الخاص، وبنائه الحيوي الخاص، فكلّها حزمة واحدة. إنّه لم تكن وظيفة الإسلام أن يغيّر العقيدة الناس وواقعهم فحسب، ولكن كانت وظيفته كذلك أن يغيّر منهج تفكيرهم، ذلك أنّه منهج ربّاني مخالف في طبيعته كلّها لمنهج البشر القاصرة"(20).
كما يؤمن الإخوان المسلمون أن الإسلام دين شامل لكل جوانب الحياة، وينظم العلاقة بين الإنسان وربه وبين الإنسان والإنسان، وهو بذلك دين عبادات ودين معاملات وتشمل تشريعاته كل الجوانب الروحية والثقافية والاقتصادية والسياسية للحياة وبالتالي تعتبر هذه الشمولية إلغاء للآخر، الذي حددناه بفكر عبد الكريم سروش المناقض لهذا التيار المحارب له مقرّا أنّ المسلم الشيعي يستطيع أن يؤمن بمبادئ الشيعة الخمسة: الإيمان بالله وحده وبالنبوة وبالأئمة الاثني عشر والبعث والعدل الإلهي. ولا يهم إتباع تلك المبادئ حرفياً. وعليه فإن المرء يستطيع أن يراعي حقوق الإنسان في ظل نظام إسلامي وأن يراعي مقتضيات التحوّل.
ويتبنى سروش بذلك فيما يتعلق بحقوق الإنسان موقفاً يُماثل موقف العلمانيين، فهو يرى كالعلمانيين أن الإنسان له أيضا حقوق خارج نطاق الدين لكونه بشر. وتعتبر حقوق الإنسان عنده من مقتضيات العقل البشري، وبناءً عليه فهي لا يمكن أن تتعارض مع الدين، لأن إرادة الله لا يمكن أن تكون معارضة للمنطق والحكمة. يقول: "المعرفة الدينية مباراة عقلية محتدمة لا تتضرَّر من هذه المشاجرات، بل تغتني بها"(21).
وهو لا يتردد في قبول تطبيق حقوق الإنسان في البلاد الإسلامية ويرى أنها حتمية بالرغم من أن هذه الحقوق نشأت في إطار غير ديني. فهي في حقيقة الأمر من فكر الإنسان، وطالما أنها لا تتعارض مع الدين، فإن حق الله يظل محفوظا. يقول: "المعرفة الدينية هي جهد إنساني لفهم الشريعة مضبوط ومنهجي ومتحرك"(22).
ويحاول سروش تأسيس نظام سياسي يكون إسلاميا وديمقراطيا في نفس الوقت، وكانت نقطة البداية عنده هو سمة التقارب البحت. إن المرء لا يستطيع أبدا أن يعرف ماذا ينتظر الله منه، ولن يعلم أبدا ماهية القوانين الإلهية ومغزاها. إن مراد الله لا يمكن تقصيه. مما يجعل هذا التفكير تفكيرا منفتحا يعطي للبشر سلطة وحاكمية. هذه الحاكمية التي تعتبر من صفاة الله في الفكر الأصولي.
ولأبي الأعلى المودودي رأي في مّا يسمّى بالحاكميّة تتلخّص في القول بأنّ "الحاكميّة خالصة للّه وحده، فالقرآن يشرح عقيدة التوحيد شرحا يبيّن أنّ للّه وحده لا شريك له، ليس بالمعنى الديني فحسب بل بالمعنى السياسي والقانوني كذلك ... إنّ وجهة نظر العقيدة الإسلاميّة تقول إنّ الحقّ تعالى وحده هو الحاكم بذاته وأصله، وأنّ حكم سواه موهوب وممنوح"(23).
والخصائص الأوّليّة للدولة الإسلامية تتمثّل في أنّ ليس لفرد أو أسرة أو طبقة أو حزب نصيب من الحاكميّة، فإن الحاكم الحقيقي هو اللّه والسلطة الحقيقيّة المختصّة بذاته للّه وحده والدين من دونه في هذه الأرض إنّما هم رعايا في سلطانه العظيم. كما أنّه ليس لأحد، من دون اللّه، شيء من أمور التشريع، والمسلمون جميعا ولو كانوا بعضهم لبعض ظهيرا لا يستطيعون أن يشرّعوا قانونا. وأنّ الدولة الإسلاميّة لا يؤسّس بنيانها إلاّ على ذلك القانون الذي جاء به النبيّ من عند ربّه مهما تغيّرت الظروف والأحوال.
وعموما فقد دعا سيد قطب والمودودي والتيّار الأصولي عموما إلى إعلاء قاعدة الألوهية أو ما سميّت في مواضع أخرى "بالحاكميّة الإلهية" بمعنى أنّ سلطة البشر في الأرض محدودة وليست مطلقة وأنّ تحكيم شرع اللّه وفرضه، يمثّل فريضة دينيّة على المسلم ودعا إلى رفض الجاهليّة المعاصرة وتكوين طليعة قرآنيّة تعيد للإسلام مجده، حيث اعتبروا أن من لم يأخذ بهذا المنهج إنّما هو يعيش في جاهلية فهو يحدد المجتمع الجاهلي بأنه "المجتمع الذي لا يخلص عبوديته للّه وحده ... في التصوّر الاعتقادي وفي الشرائع التعبدية وفي الشرائع القانونية"(24).
وانطلاقا من هذا التحديد الذي يزاوج فيه بين الحاكمية منطلقا وممارسة في الواقع يرفض كل المذاهب والأنظمة والتشريعات الوضعية فتدخل في هذا التصنيف المجتمعات الشيوعية باعتبارها ملحدة والمجتمعات التي تؤمن بغير الله ولها أنظمة وشرائع بشرية أو تكون الحاكمية فيها للشعب أو لحزب معين أو شخص، كما تدخل فيه لأنها تحتكم إلى حاكمية غير الله في التشريع والقيم ومقوّمات الحياة كالمجتمعات العلمانية. مما يعطي للإسلام مركزية ترفض كلّ التصوّرات والرؤى المخالفة وتفرض مفهوما واحدا، إذ الإسلام لا يعرف إلا نوعين من المجتمعات، مجتمع إسلامي ومجتمع جاهلي، وبالتالي ترفض المركزية الإسلامية الاعتراف بالآخر وترفض حقّه في التغاير والاختلاف.
ووفقا لكتابات المودودي وقطب فإن العالم المعاصر يعيش جاهليّة جديدة والمسلم مجبر بحكم دينه أن يقوّم ما اعوج في هذا العالم ولكي يؤدّي المسلم رسالته لا بدّ من طليعة قرآنية هدفها إعادة التجربة المحمّدية بمراحلها المختلفة أمّا المرحلة المكّية فهي مرحلة الثورة الثقافيّة وهي بمثابة تعبيد الطريق لإقامة الدولة الإسلاميّة، أمّا المرحلة المدنيّة فهي إقامة الدولة الإسلاميّة أي "الحاكميّة" وذلك بتطبيق شرع اللّه.
وهنا نلاحظ عنف الصراع بين فكر يمثله أمثال سروش وفكر التيار الأصولي، فالثاني يعوّل في تفكيره على كل ما هو أخلاقي متعالي غيبي، في حين ينطلق الأول ثاني من التفكير "الإپستمولوجي" الذي لا يقف عند حدود الاجتهاد الفقهي والتأويل الإيديولوجي لبعض الآيات، كما فعل جل الإصلاحيين الإسلاميين، فرسًا وعربًا وهنودًا، بل يتجاوزه ليصل إلى التفكير في لاهوت إسلامي عالمي جديد، عبر ثقافي، ومتجاوز للغات القومية التي صبغت الإسلام طوال قرون بعَرَضيات ليست من ذاتيات الإسلام، كما يقول سروش، لاهوت يُبقي على الجوهري والذاتي في الإسلام، ولا يلغي العَرَضي بما هو معطيات تاريخية، لكنْ يفسِّره بمناهج علوم الإنسان والمجتمع، ويتجاوزه إلى ما هو عالمي وإنساني ومستقبلي.
ولتحقيق ذلك يدعو سروش إلى الأخذ بالمنهجية التقدمية التراجعية في قراءة النصوص الدينية والمقصود بذلك العودة إلى الماضي وإلى النصوص السابقة والأساسية للتوصّل إلى الآليات التاريخية العميقة ودراسة العوامل التي أنتجت هذه النصوص، وهذه هي المنهجية التراجعية (regressive)، ولكن مع اعتبار في آن ذاته أن هذه النصوص القديمة لا تزال حيّة وناشطة في مجتمعاتنا حتى اليوم بانخراطه في عملية التزامنية مع الواقع أي بإدراجها ضمن التاريخ وتحولاته وضمن علم اللسانيات وعلم أنثروبولوجيا.
والمنهجية التقدمية تحاذر الوقوع في والإسقاط وتتمسك بالقراءة التزامنية أي القراءة المطابقة زمنيا للنص المقروء أي تلك القراءة التي تلحّ على العودة إلى الوراء، إلى زمن النص لكي تقرأ مفرداته وتركيباته بمعانيه السائدة آن ذاك وليس بمعناها السائد اليوم إذ أن النوع من التحليل المطبق على النص القرآني يعني العودة إلى زمن القرآن والتموضع الكامل من الناحية النفسية واللغوية في ذلك الزمن لفهم النص القرآني من خلال ظروفه وأحداثه الرمانية والمكانية الخاصة والمحددة.
كما أن العقل لا يعتبر جوهرا متعاليا، لأن العقل ظاهرة تاريخية متغيرة بتغير الزمن والمكان فهو ليس جوهرا ثابتا إنما مرتبط بتاريخيته، ويحمل مفهوم العقل بالنسبة للماركسيين العلمانيين مفهوم العقل المتعدّد ومنفتح لأنه انخلّ في النهاية في موضوع شامل وهو الخيال الاجتماعي والتاريخي، فاخذ بالتالي صفة التعدّد لتعدد المناهج المتبعة واختلافها. وأصبح منفتحا متغيرا نظرا لتاريخيته، مما جعله عقلا يقبل الانفتاح على كل ما هو إنساني كوني.
فهو يدعو إلى أن كل الثقافات لها عطاؤها الخاص لا بد أن يؤخذ بعين الاعتبار، أي يجب أن تعامل الثقافة الإسلامية الأوروبية أو الهندية وغيرها بنفس الطريقة ومن منظور الأنثروبولوجي وثقافي واسع لأنه يمهد للتعايش السلمي بين كل الثقافات. لأجل ذلك كانت الدعوة إلى الكونية وتصبح الحضارة التي نسميها عربية أو إسلامية لا تنتمي إلي العرب، وإنما العرب ساهم في صنع بعضها، ونحن نعيش في ظل حضارة إنسانية توجد فيها ثقافات مختلفة، والثقافة العربية ليست عاجزة عن الحوار مع الآخر، وإنما هي عاجزة علي الحوار مع نفسها، وهذا هو الشيء الأخطر، وبالتالي لا يمكن أن تقيم حواراً مع ثقافة أخرى، وأنت عاجز عن الحوار مع نفسك، وجميع المحاولات التي يقوم بها المثقفون والمبدعون علي تفاوتهم محاولة منهم لإزالة هذا الجليد عن الثقافة العربية من أجل أن تنهض ويكون لها دور في الحضارة الإنسانية.
ويبقى الذي أسس له مشروع سروش بشكل جوهري هو البحث عن تحرير القرآن من سطوة الفقه أو أن مشروعه يقاوم القراءة الفقهية الصارمة والمتعصبة للنص القرآني. وبالنسبة له لا يمثل الفقه قلب الإسلام، بل هذا القلب وهذا الجوهر إنما يمثله الإيمان، أو العلاقة الحرة بين الوعي الفردي والحضرة الإلهية.
وليس لأي جماعة، أيا كان ثقلها، داخل الأمة، أن تزعم بأنها تملك الحق في التدخل بين العبد وربه أو بين الإنسان والخالق أو بين الوعي الإنساني ووصاله مع الله، لأن في ذلك انتهاك للوعي ذاته ولتلك العلاقة الضرورية بين الإنسان وخالقه.
وختاما نقول إننا من داخل هموم هذا العصر بينا الحاجة لأن يُعرض الفكر الإمامي بلغة الحوار والتعددية المقبولة انطلاقا من فكر عبد الكريم سروش، فلا يمكن بعد اليوم أن يكون التشيّع لغة الخصام والنفي والإقصاء والتحقير والتقزيم للآخر، فمذهب أهل البيت اليوم قد يكون أقدر من أيّ زمن مضى، لهذا لا ينبغي أن يخاف على نفسه من التواصل مع الآخر، ومدّ جسور الحوار الجادّ معه، لهذا نحن نؤمن بعرض التشيع إلى جانب سائر الاتجاهات الإسلامية دون حاجة إلى إلغائها والتعامل مع وكأنها غير موجودة.
ألا يمكن أن نختلف ويصرّ كلّ منّا على رأيه دون أن نحمل في قلوبنا ضغينةً على بعضنا؟ لماذا لا نحافظ على اعتقادنا ونختلف مع غيرنا دون أن نحقد عليه؟ إن هذه الذات الشيعية تسعى إلى حوار هادئ مع الآخر، وإن هذا النوع من الخطاب هو البديل عن بعض الأشكال التي يراد لها في الأوساط الإسلامية أن تطغى وتحكم، كتلك الموجات الغاضبة من السلفية القاتلة، والرغبة الجامحة في تكفير الآخر.
= = =
الهوامش
(1) لعبد الكريم سروش موقع على الإنترنت عنوانه (www.drsoroush.com).
(2) الحركات الأصولية تدعو إلى العودة إلى أصول الدين. (انظر معن زيادة (1986). الموسوعة الفلسفية العربية، المجلد الثاني، معهد الإنماء العربي. ط1، ص 150).
(3) الأنسنة: الدعوة إلى العودة إلى الثقافة القديمة باعتبارها ثقافة مركزها الإنسان وغايتها التأكيد على كرامته وحريته وقيمته. (انظر عبد المنعم الحنفي، المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة. ص 124).
(4) عبد الكريم سروش (2002). القبض والبسط في الشريعة. نقلته من الفارسية إلى العربية دلال عباس، منشورات دار الجديد، بيروت: 2002. ص 31.
(5) المصدر السابق. ص 68.
(6) المصدر السابق. ص 27.
(7) المصدر السابق. ص 30.
(8) السيمائية: يطبق هذا التيار المفاهيم والمبادئ التي وضعتها اللسانية الحديثة على مجالات أخرى من الحضارة كالأنثروبولوجيا والفن التصويري والهندسة والموسيقى والأزياء الخ. (انظر الموسوعة الفلسفية العربية، المجلد الثاني، القسم الأول، ص 753).
(9) أبو الأعلى المودودي: داعية إسلامي ولد سنة 1903 بالهند. وأسس فيها الجماعة الإسلامية. بعد تقسيم الهند وقيام دولة باكستان سنة 1947 انتقل إلى مدينة لاهور وأقام فيها مقرا للجماعة.
(10) أبو الأعلى المودودي، نحن والحضارة الغربية، ص 265.
(11) حسن حنفي (2005). المصادر الفكرية للعقلانية، مركز دراسات الوحدة العربية، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظّمها مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت، 2005. ط1، ص 41.
(12) الأنثروبولوجيا: في الاصطلاح العربي هي علم الإنسان. والأنثروبولوجيا الاجتماعية هي علم دراسة الإنسان في بيئته الاجتماعية. (انظر المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة لعبد المنعم الحفني، مكتبة المدبولي. القاهرة. 2000. ط 3، ص 115-116 ).
(13) محمد أبو القاسم حاج محمد (2004). ابستيمولوجيا المعرفة الكونية، إسلامية المعرفة والمنهج، دار الهادي للطباعة والنشر، بيروت، ط 1، سنة 2004، ص 151.
(14) عبد الكريم سروش (2002). القبض والبسط في الشريعة، ص 27.
(15) المصدر السابق. ص 31.
(16) المصدر السابق. ص 36.
(17) لمصدر السابق. ص 43.
(18) سيد قطب: مفكّر إسلامي مصري. انضمّ إلى الإخوان المسلمين، وترأس قسم نشر الدعوة. (انظر خير الدين الزركلي (1999). الأعلام، قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين. بيروت. دار العلم للملايين. المجلّد الثاني. ط 14، ص 147).
(19) سيد قطب. العدالة الاجتماعية في الإسلام. ص 249-317.
(20) المصدر السابق. ص 56.
(21) المصدر السابق. ص 123.
(22) المصدر السابق. ص 30.
(23) أبو الأعلى المودودي. الحكومة الإسلاميّة. القاهرة، المختار الإسلامي. 1980. ص 116.
(24) سيد قطب، معالم في الطريق. ص 89.
◄ كريمة كربية
▼ موضوعاتي