عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

ظلال عدنان - الأردن

نصان: قميصه + الفكرة الطائشة


قـمـيـصـه

أعياها التّعب، ونسماتُ وحدتها الباردة تلسعُ جسدَها العاري، هنا عزة وحيدة في زوايا ذاكرتها وشوقها، تتراقص أشعة قمرها على انحناءات جذعها الفارع، تشاكسها نسمة ثلجية فترتجف ويتراقص قلبها.

تنهض متثاقلة، تبحث عنه ليدفئها ليلامس جسدها، وتغفو بين ذراعيه. شهر مضى على آخر لقاء بينهما. باحتْ له بآهاتها. وبللت قبته بدمع أشواقها. عانقها بقوة النسيان. وزرعها وردة لنيسان. احتسيا معا فنجان قهوتها المرة. سألتْه إن كان لا يزال يذكرها، لم يُجبْ، بقي صامتا كما عهدتْه.

في أزرار قميصه تراءت لها: مدافع وقنابل. أطفال يبكون ومشردون. نساء يصرخن، يستغثن: "انتهكتْ أعراضنا. يتّم أطفالنا."

أخافها دويُّ الطائرات في خلايا صمتها. انتفضت وأخفتْه في صدرها. أسيأخذونه منها كما أخذوه هو؟

حينما ذهب لينتزع شوكَ أمة مسلوبة الكرامة ويمسح عن جبينها وصمة ذلّ وهوان، هناك اغتيل الربيعُ؛ فسلبوا منها حلمها ووهنها وأباها. وتركوا لها قميصه يغفو بين ذراعيها. قميصه لها كقميص يوسف ليعقوب؛ يرد لها بصرا وبصيرة وأملا وسكنية.

ذات مساء نرجسي تلمّستْ فيه قميصه، تشتم بقايا عطره، فاجأها ملمس غريب وعطر جديد ينتشي عشقا وغراما وهياما. بحثتْ بين ثناياه. أدخلت يدها في فتحة القميص الأبيض الناصع، وجدته هناك مختبئا. كان يرقبها منذ سنين القحط الأولى. يقطف لها حبات الفراولة، ويرسمها أميرة. يخربش لها:

ارحمي عزيز قوم يعشقك من الوريد إلى الوريد.

أنت أعظم أنثى عرفتُها، وكلّ ما فيك من تناقضات تزيدك أنوثة.

الأنثى يجب أن تكون في لحظة ما بلا عقل وهذه ميزة تُحسب لها.

كتبها لها محمود شعرا ونثرا وعواصف وعطرا. استأذنها أن يلبسها وتلبسه، ويكونَ قميصَها، ويكونَ أباها، وحبيبَها. يدفئها. يحميها. وتكون قهوتَه التي يرتشفها كلَّ صباح، وضوءَه الذي يغتسل به كلّما الفجر لاح. قرصات البرد دفعتْها لتسارع ارتداء قميصِها. قميصِه. قميصِهما.

وتناثرتْ حول عزّة صورُ ماض وفكر ومبادئ وحاضر، يدعوها لتكون له مستقبلا. أخرجتْ يدها اليمنى تحمل ذكرى، ويدها اليسرى تحضن أملا. وحين أطلت برأسها من فتحة قميصه، داهمها ظلامُ وحدتها، وغرفتها، وبرودةُ ذكراها، وعانقتْ قميصه.

::

الفكرة الطائشة

يا لجمالي وفتنتي! أستحق أن أتزوج أميرا، أو حتى ملكا.

أنهت صفاء تأنقها استعدادا لاستقبال زوجها، لا لتسعده بل لتتباهى بجمالها أمامه، وتشعره بالنعيم الذي يعيش فيه، والذي يتمناه كثير من الرجال إن لم يكن جميعهم. ولم لا؟ وهي شابة صغيرة حسناء، تهافت الخاطبون عليها لكنها رفضتهم وقبلت به، وهذه نعمة أخرى يجب ألا ينساها: أنها قبلت به. فهي تستحق من هو أفضل منه.

فتحت الباب لزوجها مرحبة وآمرة:

"ضع حذاءك في الخزانة، وغير ملابسك، واغسل يديك، ولا تنس قدميك، ولا تتأخر؛ فأنا أعددت الطعام لنأكل معا."

بصمت قذف حذاءه عشوائيا في تلك الخزانة، بدل ملابسه وتركها ملقاة على الأرض، وببعض الماء غسل يديه متناسيا أمر قدميه.

ما إن جلس حتى سألته: "هل أحضرتَ لي ما طلبته؟"

"ماذا طلبتِ؟"

"نسيتَ مرة أخرى؟ّ أردتُ بعض الفواكه، والمكسرات والشوكولا، والعصائر؛ لاستقبال صديقاتي غدا."

"كل هذا من أجل صديقتين فقط؟"

"نعم ولو واحدة."

"لكنني في أول الشهر ولم يتبق معي المال الكافي."

"دبر نفسك. وفكر أنني لو تزوجتُ غيرك لكنت الآن في أسعد حال، وكل طلباتي مجابة، لكنني... "

"نعم، فهمت، لكنكِ تكرمت ووافقت على الزواج بي."

ويحادث نفسه: "يا له من يوم حينما تزوجتك! لا أعلم من فينا الرجل. يتملكك الغرور والرغبة في السيطرة على كل شيء حتى زوجك."

"هيه، أين ذهبت في تفكيرك؟ آه. لابد أنك تذكرت يوم سعدك. يوم زواجنا."

نظر إليها باسما وهز رأسه ولم يقل شيئا.

"عُدّتَ إلى الصمت من جديد. يا إلهي متى تتخلص من هذه العادة المملة؟"

انسحب منهيا طعامه وحديثها، لكنها عاجلته: "لا تنس تغسيل يديك بعد الطعام."

ذات يوم أيقظها صوت جرس متلاحق، وقرع باب متواصل. قامت متثاقلة من سريرها، مرت مسرعة أمام مرآتها وألقت نظرة خاطفة على جمالها، وأكملت مسرعة ترى من ببابها.

"أوه. أم سليم! ما بك؟ ما الأمر؟ لِمَ هذه الضجة؟ أتعلمين كم الساعة؟"

"دعينا من الساعة ومن كلامك حول فوائد النوم وأثره على جمالك، واتركينا في حديث الساعة."

دخلت مسرعة وجلست على الأريكة. وقالت لاهثة: "كأسا من الماء يا صفاء."

"هاه هل ارتويت؟ انطقي. "

"زوجك، أين زوجك يا صفاء؟"

"زوجي مسافر في بعثة خاصة مع شركته وسيغيب بضعة أيام."

"متأكدة؟ "

"نعم متأكدة، وإلا أين سيكون؟"

"وهذه صورة من؟"

نظرت إلى الصورة. إنه هو زوجها، يرتدي (بدلة) سوداء يجلس جوار امرأة في ثوب الزفاف.

بكلمات مرتجفة سألت أم سليم: "هل تزوج؟"

"نعم، حسرتي عليك يا صفاء. هذا الظالم كيف يترك امرأة بجمالك ليتزوج بأخرى لا تحمل أدنى مواصفات الجمال. يا للرجال الأغبياء! عيونهم فارغة ولا يشبعهم شيء ويلهثون خلف القذارات."

ورن الهاتف، وأتاها صوت زوجها: "سأخرج اليوم من صمت أرقكِ،. لأنني لم أكن أجيد الكلام الذي يرضي غرورك، واليوم سأتخلص من فضلك عليّ ومنتك، وأمنحك حريتك؛ لتتزوجي من يستحق جمالك. أما أنا فقد تزوجت من تستحقني وتحترمني لأنني زوجها لا عبدا مملوكا عندها."

أغلقت السماعة، وتهاوت أمام مرآتها، التي تعكس قبح نفسها، وعظم خسارتها.

D 1 شباط (فبراير) 2010     A ظلال عدنان     C 0 تعليقات