عبد الرحمن سعد - السودان
قصتان: مهذب ومتسخ + لماذا لا يرتاح؟
مهذب ومتسخ
يقف أمامك أحيانا. يشبك يديه بصدره. ينحني برأسه قليلا وهو يسأل بكل تهذيب طعاما أو نقودا:
"ممكن لو سمحت حبة قروش أو سندوتش؟"
ثم لا ينظر إليك ثانية.
له أماكن محددة يتجول فيها. لا يمكن أن تراه مطلقا بالسوق الكبير. يتجول فقط في محيط عملك، أو هكذا تظن. أول مرة قابلك، كان في شتاء ما، لا يتدثر بشيء غير بنطال طويل ممزق، وفانلة داخلية بنية، ربما كانت بيضاء في يوم ما. ظهر فجأة أمامك مشبكا يديه على صدره، وبصوت منخفض واهن قال:
"ممكن لو سمحت حق كباية شاي؟"
ثم ابتسم موجها بصره للأرض. أخرجت بعض النقود من جيبك، أعطيته. شكرك ثم مضى مسرعا غير مبال لسرعة السيارات في تلك المنطقة.
عند باب شركتكم، تلاحظ صديقك وهو يجلجل ضاحكا وجسده الضخم يهتز متناغما معها، يبادرك:
"شوفت زولك اللي كلمتني عنو. ياخي دا مبالغة." ثم يسلم عليك ويضيف وهو يدلف الشركة:
"تعرف إنو عمي قال لي، كان عندو صاحب محامي، وبرضو أخو المحامي، كان المحامي بستحما ويربط الكرفتة، لكن أخوهو السفة سايلة من خشمو."
تضحكان سويا. خلص العم إلى أن الشخص لا يفقد طبعه بعد جنونه.
لا تهتم، وقص على صديقك ما حدث لك وأخفيته:
ذات مرة أمسك بيدك وذهب بك إلى الحديقة القريبة من مقر عملك. كانت خالية تماما إلا من خضرتها. ثم قال لك:
"شوف."
تهيبت الأمر، ولم تر شيئا.
قال ثانية: "شوف."
فإذا بفتاة تقود عربة فخمة تكاد تصطدم بك. تفك يده، تحاول الفرار. تختفي الفتاة والعربة. يسكن قلبك قليلا من خفقانه.
ثم يقول لك: "شوف."
ترى أنك عند شاطئ وأمامك بحر كبير عريض جدا. تهتاج مياهه وتعلو وتنخفض، فتبرز لكما حورية ضخمة الجثة، عارية الصدر تحمل مزمارا يصدر صوتا خفيضا عذبا.
يفرح وتخاف أنت. ثم تلقي بجسمها مختفية في عمق البحر. تجد نفسك تهرول مبتعدا عن الشاطئ. فإذا هي ذات الحديقة.
تعتذر له ليتركك. فلا يجيب.
ترى نفسك وأنت تتوضأ، وتصلي في مسجد كبير، جميل التصميم والزخرفة. تتلو قرآنا بصوت رخيم، هو بجوارك، في جلباب أبيض. يعلمك التجويد وينبهك عندما تلحن. ثم انفجار كبير بالمسجد، تخرجان مسرعين نحو حديقة وارفة، هي نفس الحديقة التي جلبك إليها. تعتذر له ثم تتركه في الحديقة.
::
لماذا لا يرتاح؟
وُضع برميل لحفظ الماء مقلوبا. برميل ذو ثلاثة فصوص، طلي بلون أبيض من الداخل والخارج، على قاعدته وُضعت ثلاثة أكياس بلاستيكية كبيرة فارغة فوقها قطعة كبيرة من الطوب. بالقرب من البرميل خمسة صنابير ماء، وقاعدة إسمنتية بُنيت كمتوضأ، لا يبتعد كثيرا عن غرفة للضيوف في ذلك البيت الفسيح، الذي في ركنه حمام يقابله في الجانب الآخر حمام آخر، وبينهما تتناثر ثلاث غرف، يمتلك رب الأسرة إحداها.
رب الأسرة رجل كبير السن، يأكل وحده، يشرب وحده، ويُخشى أن يبعث وحده. الكل هرب من المنزل، فتزوجت ثلاث من بناته، وماتت الكبرى، وعمل ابنان له خارج المدينة وآخر خارج البلاد، وآخر آثر الصمت على الكلام، والأخير يندس بين الكتب والكتابة، يحلم بواقع قادم أفضل.
كان الأب لا يحب أحدا، وله أسرة كبيرة. يتكلم عن كل شيء ولا يفقه شيئا. يفيض على كل من هو خارج أسرته. قبل انهيار أحد الحمامين، كان يوزع السنة عليهما، وكذلك الأواني المنزلية: يُستخدم نصفها والآخر للسنة التالية.
توسعت المدينة على حساب قلبها، فأصبحت الخدمات موزعة على الكل، مما أدى لضعفها. الماء ضعف إمداده مما أضطر السكان لحفظه في صهاريج أو براميل.
أُحضر ذاك البرميل للمنزل، ولكنْ كان للأب رأي مغاير، حيث جرت عليه نفس خطة التوزيع على أيام السنة، مما أضطر أفراد أسرته للتشرد لجلب الماء، وخاصة من الجيران. لا يهمه ذلك. بعد تكرار تجفيف البرميل لعدة مرات، خاطبه أصغر أولاده:
"لماذا تمانع يا أبي استخدام البرميل؟"
أجابه: "هكذا أريد."
"ولكن لماذا تريد ذلك، ونحن نشحذ من الجيران الماء القليل؟"
"هكذا أنتم دائما. تريدون كل شيء ولا تحسون." ثم أضاف: "يا عالم، لماذا لا يرتاح البرميل؟"