عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

أشواق مليباري - السعودية

ضاع المنديل المزركش


كانت تحمله بين ذراعيها كما تحضن طفلتها عندما أخرجته من باب الحظيرة، وانحدرت به نحو سور الحديقة، حمل أبيض عمره أيام معدودة لا تزيد. اتخذت لجلستها في الظلّ جذعا يابسا إلى جانب السّور. تحلّق حولها أطفالها. ألفرحة تغمر وجوهم، وتقفز من عيونهم مقرونة بالدهشة والإشفاق. أجلست الحمل في حجرها وهم يقتربون منه بحذر، ابنتها الكبرى تجرأت بعد تردد، واقتربت منه تحاول تقبيله كما تفعل مع دميتها، ما شجّع إخوتها بالاقتراب أكثر وهم يلاطفون صوفه، ويلامسون بخشية ملحوظة أذنيه الصغيرتين.

الجدة قادمة إلى المكان، تحمل بين يديها قنينة حليب أعدّتها للحمل المسكين، فالنعجة الأم تخلّت عنه منذ الولادة، أنكرته منذ اليوم الأول، كان يلاحقها لترضعه بلا طائل! من يدري؟ لعلها تنكّرت له وكرهته من شدّة آلام الولادة العسيرة التي واجهتها! وما أصابها من وهن بسببه.

حاولت بإصرار أن تطعمه من القنينة وهو لا يهدأ عن الحركة والامتناع، ساعدتها الجدة، وسط هتاف الأطفال وتشجيعهم للحمل العنيد، وبعد انتهاء المسرحية، استقرت ربع الكمية في معدته، والباقي كان من نصيب ثيابها.

أطلقته ليلحق بالقطيع وسط صخب الأطفال وصراخهم وهتافهم، فراح يعدو ويتعثر، تبعته بعين راضية ونفس تغرق في الذكريات، وتصميم بأنّها لن تسلم رقبته مرة أخرى إلى الجزّار.

في ربيعها الثاني عشر، كانت تربط شعرها بمنديل أحمر مزركش بحبيبات الكرز، تتوجّه كلّ يوم إلى الحظيرة في ركن الفناء، قريبا من شجرة كافور عتيقة عمرها أجيال. ينوء جسمها النحيل بدلو من الماء، فكفّها الصغيرة لا تكاد تتّسع لمسكة الدلو، وفي اليد الأخرى كيس مليء بأرغفة من الخبز الجاف، ومقشة تحت إبطها تشدّ عليها بساعدها كي لا تقع. تنظف الحظيرة، تسكب الماء للخراف، وتطعمها بقايا الخبز الجاف، فتتحلّق حولها تتسابق لتأكل من يديها.

حملان كانا الأحبّ إلى نفسها، أحدهما بلون الفحم، وصديقه كما الثلج بياضا. كانا رضيعين أيضا، اشتراهما والدها وحالهما لا تختلف عن أحوال حمل اليوم. اعتنت بهما فأطعمتهما من قنينة حليب واحدة، غسلت صوفيهما، لعبت معهما وسابقتهما في العدو والمرح. تربّت معهما في البيت القديم، جنبا إلى جنب.

هناك على العشب، تحت أشجار اللوز، في ظلال شجرة كافور أخرى، كانت تستلقي ومن حولها حملاها يملآن دنياها بالبهجة والحبور، تهبّ على وجهها وشعرها نسيمات منعشة، فتحملها أحلام المراهقة إلى البعيد البعيد، إلى سماوات وأراضين بلا حدود. قلب نقيّ من الكدر، وبال خليّ من الهمّ، وصحبة لا تعرف سوى اللهو واللعب، والقفز والركض.

في العادة يفرح الأطفال خلال أيام العيد، لكنّ ذلك العيد من تلك السنة أصابها حزن شديد؛ حينما أقدم أبوها على ذبح الحمل الأسود، رغم بكائها ودموعها وتوسّلها الحار لكيلا يفعل. لكنه ذبحه ليكون أضحية العيد، فينزوي الحمل الآخر في ركن قصيّ من أركان الحظيرة، بعدما ذبحوا صاحبه الأسود وتقاسموا لحمه في المساء. نأت بنفسها تلك الليلة عن طاولة الطعام، ونامت بلا أكل ليلة عيد، نامت نوما متقطعا مضطربا، بالرغم من العزاء والملاطفة الصادقة التي حظيت بها من الجميع.

ولكن من يصدق أن أمرا ما في الغيب وقع يومها! فعندما استيقظت الفتاة الحزينة في الصباح الباكر؛ من نوم لم تنعم به طويلا، كانت تسود أرجاء البيت جلبة وضوضاء، مات الحمل الأبيض! قالت أمّها؛ وجدوه نافقا في زاوية من زوايا الحظيرة. وقفت هناك تنظر بعين لم تصدق ما رأت! بكت في صمت، وتفطر القلب الصغير ألما، وحرقة.

في نفس العام نكبت الصبيّةّ في عواطفها، عندما هدموا الحظيرة وباعوا البيت، وبيعت باقي الخراف، وانتقلت الأسرة إلى بيت أكبر، له فناء يزهو بأحواض الزهور، وأشجار النخيل، والفاكهة، وهو مفروش بالعشب أيضا، لكن لا شيء يؤنسها سوى العصافير في أعالي الشجر، ضاع منديلها الأحمر المزركش بحبيبات الكرز، وضاعت معه ضحكاتها، وحكاياتها. مرت السنون، كبرت الفتاة وتزوجت؛ لترزق بأطفال كالملائكة هم أحلى وأعزّ ما تملك. جدّدوا في حياتها الأمل بمستقبل أفضل. مستقبل سعيد ومشرق؛ مليء بالخير والتفاؤل والتّضحية المتواصلة.

D 25 كانون الثاني (يناير) 2012     A أشواق مليباري     C 33 تعليقات

11 مشاركة منتدى

  • هي الحياة كذلك، تجري بما لا تشتهي سفن آمالنا. ولكن بين الفينة والاخرى يظهر لنا شاطئ في الافق ليجدد لنا أحلامنا وأمانينا.
    نص لطيف ذكرني ببعض صور الطفولة وشقاوتها. شكراً على هذه القصة الجميلة.


    • الأستاذ الفاضل محمد
      صدقت هي الأحلام والأماني شواطئ تلوح في الأفق، أتمنى أن تكون شواطئ آمالك رحبة وقريبة بإذن الله.
      شكراً على تشجيعك و مرورك الكريم
      دمت متألقاً.

    • كاتبتنا القديرة، من أهم عناصر القصة القصيرة الترابط ونمو الحدث، وتطوره ليقول شيئا ما، هناك بالفعل فجوات زمانية، لا تجعل الحدث ينمو نموا طبيعيا، ولا يجعل ابطال الأحداث يتحركون ضمن الظرف الزمكاني، بالنسبة للخروف لا يولد إلا وعليه صوف تلك عطاءات الله ليتناسب وظروف الحياة خاصة أن الخراف تولد في أشهر الشتاء دائما، أما الفكرة الرئيس التي يستطيع المرء رؤيتها فهي عمق صداقة الحيوان للحيوان على عكس صداقة الإنسان لبني جنسه، هذه لفتة كبيرة تقدر للنص، وكذلك قسوة الناس أحيانا وعدم تقديرهم لشعور غيرهم، السياق السردي به هنات تركيبية أشار لها زميل سابق، وهنا في قولك :حولها حمليها يملآن، نقول وحولها حملاها خبر لمبتدأ مقدم (*). قدرتك على انسيابية النصوص مدهشة، والمرجو التركيز على الترابط ونمو الحدث وتطوره وتصاعده ليكون متصفا بالتشويق، وعدم الكتابة بطريقة الجزر المتناثرة التي تصلح للرواية لا للقصة القصيرة. احترامي كاتبتنا الكبيرة.

      = = =

      (*): تم التصحيح.

    • الأستاذ الكبير عبد الرحيم محمود
      أشكرك على تشريف نصي بقراءتك له، ونقدك البناء، بودي لو أنك سقت بعض الأمثلة لتتضح لي تلك الفجوات في السياق، فهذا سيفيدني جداً. 
      كما أشكرك على كلماتك الجميلة، وتشجيعك، وأعدك بالأفضل بإذن الله. 

  • اخت اشواق سلام عليك
    قصة لطيفة عن العلاقة الحميمة الازلية بين الانسان والحيوان،
    لكن جعلت من القصة ماساة، ان يذبح هذا الخروف بالذات في يوم عيد المسلمين، وتمارس هذه القسوة على عواطف طفلة بريئة، ويحدث الفراق الماساوي، لقد اثرت المنظمة الدولية لحقوق الطفل، ومنظمات حقوق الحيوان ايضا.
    لو حدث الفراق بطريقة مغايرة لكان للقصة اثر اخر في النفوس.
    دمت على درب الابداع دائما وابدا


  • بكل التحفز والانتباه اسغرقتني مطالعة النص بأسلوبه المشوق الجميل، لأعيش معنى اللحظات التي قضتها الفتاة الصغيرة في العناية بحملين صغيرين يكبران أمامها كما يكبر الأبناء، ترضعهما، تلاطفهما، وتنظفهما، وتراقب بفرح حركاتهما وقفزاتهما، وتعتني ببيتهما ومأكلهما، فهل iهي بعد هذا قادرة على أن تتصور أن يمر حد السكين على رقبة أحدهما، فتحزن عليه وتأنف الأكل من لحمه، لتأتي الطامة الكبرى في موت قرينه في اليوم التالي حزناً وكمداً، فهل حقاً تحس الخراف بحالة الفقد، ويشتد بها الحزن لدرجة النفوق.. الحادثة اختزت في عقل الطفلة، ورغم الانتقال لبيت أكثر حداثة ومضي الزمن الطويل عليها، فإن العصافير على الأفنان البعيدة للشجر رغم جمال زقزقتها لم تستطع أن تصنع حالة المتعة التي خبرتها الفتاة في تربية حيوانين أليفين أحبتهما.. نص جميل يحمل معاني جداً رائعة، سجل بأسلوب مشوق.. باستهلالة محفزة وخاتمة مشرقة
    طابت بك يا أشواق نفس الكاتبة المبدعة، وطاب بك ابداعك، فلتسلم يدك الكاتبة وتتألق على المدى ابداعاتك


  • جميل أن يكون للحيوان نصيب من الكتابة والإبداع، وكيف لا وهي تشاركنا العيش والمكان والزمان وتشعر بنا ونشعر بها، وهي من المتع والزينة التي خلقها الله لنا.
    قصة (ضاع المنديل المزركش) جميلة ولطيفة وتعبق بحميمية متدفقة، وضياع المنديل المزركش هو ضياع وفقدان لزمن الطفولة الأجمل رغم قسوتها وحرمانها.
    الحالة التي تصفها المبدعة أشواق حالة معيشة وربما مرَّ بها بشكل أو بآخر من عاش هذه الظروف، والعاطفة والعلاقة بين بطلة القصة والخراف علاقة مألوفة وإن كانت بنسب مختلفة من شخص لآخر، وهي علاقة تؤكد الفطرة الإنسانية التي تؤمن بحق الكائنات في التقدير والحياة والحب أيضاً.
    نص جميل يعيدنا إلى زمن الطفولة وبراءتها التي ضاعت وها نحن نعيش في غابة لا تحكمها قيم أو أخلاق ولا قوانين.
    كل الشكر لأشواق مبدعة متألقة


  • نقل القسوة إلى الحيوانات أمرٌ لم أرتح له عند قولكِ: (فالنعجة الأم تخلّت عنه منذ الولادة ..... إلخ).

    فنزع الرحمة منها أمر غير مستساغ.

    القنينة .. لو كانت زجاجة لكان افضل.

    أما على العموم فهناك فراغ في القصة وسرعة في الانتقال .. يحتاج إلى شيئ من الربط .

    فسرعان ما انتقلت وانجبت وتغير حالها الذي يوحي بنقلة غير مستساغة .

    ليصبح عيشاص جميلاً.

    وشكراً.


  • أبدعت يا أشواق.. وشعرت وكأنك تصفين بعض مشاعري لحظة رؤية حمل صغير يزهو ببياضه وخفة حركته..
    لاإراديا تتملكك الرغبة في حمله ومداعبته.. المشكلة هي توريث هذه الصفة للأبناء.. فيضيع الحمل بيننا..
    إحساس مرهف ولغة راقية عبرت بها عما جال في خاطر أشواق..
    دام قلمك نابضا بحرفه


  • كان الطفلُ والعجل يتدافعان ليرضعا ضرع البقرة..؟ يقول صاحب القصة: غداً يكبر الطفل وتكبر إنسانيته معه، يبيع البقرة ويذبح العجل.

    بالرغم من توسلكِ وبكائك، فقد ذبح أبوكِ الحمل ضحيَّةً للعيد..! أرأيتِ يا صديقتي كيف لا ينبغي أن نحصر العواطف كلها في الدين..!؟ ألوثنية نفسها لم تكن خالية من الإنسان.

    قبل أن أباشر قراءة النص لفتني العنوان، "ضاع المنديل المزركش".. لم يخب ظني أبداً، وينبغي أن أشهد بالحق أنك أحسنت الصياغة والتعبير. شكراً على الحمل الأبيض وعلى الحمل الأسود.. وشكراً على رقة العواطف في المنديل المزركش بحبات الكرز.


    • قالت لي إحدى الجدات: كنّا صغار نرعى الغنم، نسكن بيوت الشعر، طعامنا الحب، اللبن، والتمر، ويمضي علينا الشهر والشهران حتى نذبح أحد الخراف، نوزع لحمه على العائلة كلها، ونأكله تلك الليلة..!

      أنت أيضاً قلت مرة "كنَّا في بداياتِ العام الدراسي من أواخر تشرين الثاني (نوفمبر)، موسمُ ذبحِ العَلُوفة السنوي. " أليس كذلك؟
      ربما توسلت لأبي كي لايذبحه، لكني كنت أعرف أن هذه هي دائرة الحياة، هي الفطرة، وسنّة الله في الكون..!
      حتى لو حزنت وبكيت فأنا لم أتنكر للدين أو أمقته، ولم أتنكر لأبي أو ألومه على مافعل!
      كنت أعرف تماما أن النحر يوم العيد شعيرة عظيمة من شعائر الإسلام، لكن المرأة تبقى هي المرأة تحكمها العاطفة، والعاطفة هذه يا سيدي هي أجمل مافيها !

      يشرفني كثيراً رأيك وتعليقك على نصي، ماكنت لأصل إلى مستوى يرضيك إلا بمساعدتك، وتشجيع الأستاذ عدلي، أعدك بالأفضل مستقبلاً.
       شكراً جزيلاً لك. 

  • الأخت أشواق
    الحقيقة أنا أرى أن الأقصوصة دون مستوى ابداعاتك الادبية السابقة, ولي بعض الملاحظات والتي أرجو أن تعود عليك بالنفع:
    • "اتخذت لجلستها في الظلّ جذعا يابسا إلى جانب السّور" تركيب ضعيف
    • "وهم يلاطفون صوفه، " لا أعتقد أن الحمل حديث الولادة له صوف يلمس
    • "لعلها تنكّرت له وكرهته من شدّة آلام الولادة العسيرة التي واجهتها! وما أصابها من وهن بسببه" هذا لا يمكن أن يكون, فالغريزة أقوى
    • "وتطعمها بقايا الخبز الجاف، " لا أعتقد أن الخراف تأكل بقايا الخبز الجاف ربما الغنم
    • عدم الترابط بين بعض الفقرات مثل :
    • "وتصميم بأنّها لن تسلم رقبته مرة أخرى إلى الجزّار.
    في ربيعها الثاني عشر، كانت تربط شعرها بمنديل أحمر مزركش بحبيبات الكرز، "
    • "وصحبة لا تعرف سوى اللهو واللعب، والقفز والركض.
    في العادة يفرح الأطفال خلال أيام العيد،"
    • النهاية ضعيفة
    • العنوان لا يعبر عن الموضوع
    أترقب المزيد وأرجو لك التوفيق


  • قرأت النصّ مشفوعا بقراءة الأساتذة المتميّزين، وأسعدني أن أجد العناية بنصّ الصّديقة أشواق. وأعدت القراءة على ضوء التّعاليق ولست أضيف كثيرا إلاّ ما يخصّ بناء النصّ لأنّه قد يفسّر ما لوحظ من قفزات زمنيّة، وأنظر في بعض الاستعمالات اللّغويّة، وأتوقّف قليلا عند عتبة العنوان، وأمّا المعنى فأرى فيه طفولة وبراءة عشتُها مع حيوانات وديعة ما اقتربت منها إلاّ لأراها ولم أملك الشّجاعة إلى اليوم للمسها ولذلك لا يمكنني أن أصفها بإتقان كما قرأت في نصّ الأستاذة أشواق.
    النصّ قائم، كما أراه، على زمنين. حاضر نعيشه مع فرحة الأطفال بحمل أبيض وديع. (كانت تحمله... إلى الجزّار) وماض عاشته الطّفلة منذ سنوات ظلّ عالقا في ذاكرتها ووجد فرصة ليطفوَ على سطح الذّاكرة برؤية الحمل الأبيض. (في ربيعها الثاني عشر... حكاياتها) لتعود من جديد إلى حاضر واقع في بقيّة النّصّ.
    وقد مهّدت الكاتبة لاسترجاع الصور القديمة بصورة الحملين (حملان... جنبا إلى جنب) في تضادّ لونيهما وفي تكامل العلاقة بينهما فكأنّهما روح واحدة سكنت جسدين لا تصحّ بها حياة واحد منهما دون الآخر.
    في بداية النصّ، كانت القفزة الزّمنيّة الأولى:الجدة قادمة إلى المكان، في جملة اسميّة تُعلّق السّرد إلى حين وتعطّله لنتابع الحركة الإنسانيّة الّتي تواجه صَدّ العلاقة بين الحيوانين: الحمل وأمّه. إذْ كان لا بدّ أن نجد محاولة لسدّ النّقص الحاصل في العلاقة بالفعل وشفعته الكاتبة بتفسير قد لا يُقنع الكبار ولكن للصّغار رأي حوله ويجدون الاقتناع في حجّة امتناع الأمّ بسبب آلام الولادة، بل القناعة بأنّها الحجّة الدّامغة. وهكذا نتبيّن أنّ تفكير" البنت" كبيرةً وأمًّا لم ينفصل عن منطق "البنت" صغيرةً. ويأتي باقي النصّ بتعليل قد يقنع الكبار، فالبنت قد عاشت تجربة مريرة مع حمل ربّته ومات صديقه عندما انفصل عنه لأجل شعائر العيد.
    تفكير البنت في الحيوان لم ينضج حتّى وهي كبيرة، فالحيوان هو الحيوان في أعماق نفسها.
    كما تميّز الجزء الأوّل من النصّ بغياب الرّابط اللّغويّ بين الجمل، فمنطق الأحداث السّرعة وهي تفسّر شغف الأطفال بالحمل ومتابعته في فوضى مشاعرهم البسيطة الصّافية تجاه هذا الكائن الصّغير في أيّامه الأولى. فغياب الرّبط أنتج ما يشبه التفكّك ولكنّه ساعد في فهم نفوس الصّغار في علاقتهم بالحمل الصّغير.
    ولمّا استعادت البطلة صورة الحملين، حلّ الماضي البعيد وغلب على السّرد، وبدأت قصّة أشبه بالمضمّنة، بل قصّة حجّة على نوع العلاقات بين البشر والحيوان والحيوان فيما بينه، هي قصّة الحملين وعلاقة البنت بهما منذ الولادة وحتى ذبح الأوّل وموت الثّاني وتغيير ملامح المكان. هذا المكان الّذي رأيناه مع الكاتبة في وصفها: هناك... صار واضح المعالم: أشجار واخضرار وحظيرة وبيت وعلاقة رائعة وخيبة. وحيث حلّت الخيبة لاح الأمل، هكذا الحياة في تواصل... مات حملان وهذا حمل آخر. وكبرت البنت وصار لها أطفال وحلّت السّعادة ودارت الأيّام دورتها ولا تزال تدور بولادة الحمل وبتعلّق الأطفال به بإصرارها في قرارة نفسها أن لا تقدّمه إلى سكّين الجزّار. ممّا يشير إلى تواصل بين الزّمنين ماضيه وحاضره في نفس البطلة.
    وفي أخر النصّ قفزة زمنيّة أخرى، إذْ تعود بنا السّاردة إلى الحاضر الواقع وقد كبرت البنت وأنجبت أطفالا "جدّدوا الأمل". وأرى الحمل أيضا تجديد للأمل في علاقة متواصلة مع الحيوان ولكنّ بقراراتها هي لا بقرارات والدها. وهذا ما يظهر بنية متكاملة لا تفكّك فيها إلاّ بما أوحاه من تمزّق في نفس البنت منذ ذُبح الحمل الّذي ربّته، وإنّما هي بنية في تواصل متين مع النصّ متكاملة مع المعنى.
    وأمّا العنوان، فقد ظهر في النصّ في وصف البنت وكان واحدا من لوازمها لا ينفصل عن صورتها وهي تطعم الحملين وتسقيهما وتعتني بهما. كما ظهر في آخره ممّا يعيدنا إلى بدايات النصّ كما في كلّ القصص القصيرة. فحين نظنّ أنّنا فهمنا نعود على البدء نبحث عن سرّ النّهاية. ولم يكن المنديل المزركش الضّائع إلاّ لحظات من حياة تدور بالإنسان دورتها فتضيع ونستعيدها بما حولنا من الألوان ومن سعادة مرسومة على وجوه من نحبّ (الأطفال وفرحتهم بالحمل الأبيض). وصار ضياع المنديل المزركش ضياعا لفترة جميلة تفسّر العلاقة القائمة بين البنت وبين الحيوان. والخاتمة تبشّر باستعادته في صورة جديدة مع الحمل الأبيض.
    ـ وأمّا اللّغة، فقد كانت لا تَكلّف فيها. بل انسجمت مع بساطة البنت ومع علاقتها بالحملين، منسابة مع فرحة الأطفال وإسراع الجدّة بقنّينة الحليب وفرحة الحمل بخطواته الأولى في المرعى. هي لغة استطاعت أن تصف الحالة النّفسيّة الّتي أزّمت البنت، في "سذاجة" بنت تتعلّق بكلّ براءة الطّفولة بحيوان، وفي انسجامها مع طبيعة تحبّها وتستند إليها جميلة غنّاء فتلاقي فيها راحتها حتّى اختلطت في ألوانها بلون الكرز على منديلها المزركش: رمز لجمال طفولة تعيش داخلها بلطفها وعنفها، بوداعتها وفظاعة بعض ذكرياتها.
    وأمّا ما أشار إليه الأستاذ أبو أحمد من ضعف لغويّ في بعض العبارات والتّراكيب وفي ضعف النّهاية فقد كنت أحبّ أن أسمع رأيه في كيفيّة الإصلاح، مع الشّكر الجزيل.
    وأمّا ما ذهب ليه الأستاذ أحمد الكيلاني من تفضيل زجاجة على قنّينة، (القنينة .. لو كانت زجاجة لكان افضل.) فأظنّ أنّ الكاتبة لم تخطئ استعمال اللّفظ، ففي لسان العرب: (والقِنِّينَةُ، بالكسر والتشديد، من الزجاج: الذي يُجْعَل الشَّرابُ فيه.) و(الزّجاجة هي القارورة)، فما وجه التّفضيل؟
    وأعتذر عن هذا الإطناب، ولكنّ النصّ الجيّد يوقفنا دائما عنده ولا يتركنا.


    • الأخت وهيبة .. السلام عليكم ورحمة الله.

      نعم - أعلم أن كلمة (قنينة) هي كلمة صحيحة ويجوز تداولها.. فأنا لم أعترض عليها ككلمة بحد ذاتها .. وإنما بالأذن الموسيقية وفي هذا الإطار .. وجدتُ أن كلمة (زجاجة) أرق وألطف .. وهذه وجهة نظر فقط .. قد يشاركني بها البعض ويخالفني آخرون .. ولا أقولها من باب إلزام الكاتبة بما أقول .. فلو كنت أنا الكاتب هنا فأحبّذ كتابة (زجاجة) .. وربما في موضع وسياق آخر أرى كلمة (قنينة) اجمل.
      ولك جزيل الشكر.

    • السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أستاذ أحمد الكيلاني
      أسعدتني إجابتك، كنت أريد معرفة سبب اقتراحك، وأرى بأنّك بحثت عن تجويد النصّ حتّى في موسيقاه. فلا يكفي أحيانا سلامة الاستعمال بل يمكن التّجاوز إلى "التّواصل" مع القارئ بجمال اللّفظ والصّورة والتّعبير. وجمال اللّفظ مطلوب في سياقه. هكذا النّقد البنّاء. أشكرك جدّا. هكذا أستفيد أنا أيضا من خبرتكم.

    • قرأت التعليق أكثر من مرّة، سجلته كنقاط في ذاكرتي قبل مذكرتي. لامست بأناملك الرقيقة مشاعري وكشفت عنها، وقرأت نصي بعين الخبير الضليع بل قرأتني فيه، في الحقيقة أنا عاجزة عن تقدير الجهد والوقت الثمين الذي بذلته من أجل النص، عاجزة عن شكرك ياصديقتي، وعاجزة عن الرد. لكني أسأل الله تعالى أن يديم الصداقة والمودة بيننا ويجمعنا على خير في الدارين، إنه ولي ذلك و القادر عليه. شكري و تقديري وتحيتي لك يا أستاذتي.
       أشكر ( عود الند) التي أهدت إليّ حضناً دافئ وسط عائلة محبِّه، أتمنى أن تدوم صحبتنا أعواماً عديدة، وإن لم يزد عددنا مستقبلاً أتمنى أن لا يقل.. شكري وامتناني للجميع في عود الند والأصدقاء

  • ضاع المنديل المزركش (أشواق مليباري)

    هل تريدين مزيداً من الدعاية للمنديل المزركش، أكبر من الحملة التي يسوقها من سمعَ أو لم يسمعْ من قرأ أو لم يقرأ ما قاله النقاد عموماً في القصة والشعر وسائر مناحي الأدب، "ومارون عبود" واحدٌ من هؤلاء العمالقة..!؟.. الإيجابية يا عزيزتي في العاصفة من التعليقات التي أثارها النص.

    لست أدري كيف تختزلين عقوداً طويلة من الزمن في نصٍ من صفحة أو صفحتين، وأن لا تقفزي في الزمن ببطء السلحفاة أو سرعة الأرنب..!؟ فلا قواعد مُجَرَّدَة تحكمنا في الكتابة لتأتي دقيقة نتوسل فيها المسطرة والبركار نرسمها بلا خطأ في القياس وفي الحساب، وفق ما يشتهي وَيُنَظِّر الآخرون. لا إجماع في حاضر الأدب وماضيه، على عمل أدبي واحد مهما علا شأنه، ولن يتفقَ الجميع على رأي بلا خلاف، وهذا مؤشر صحيٌّ بلا ريب، لا سيما حين يكون مجرداً وبلا غايات.

    لعل أشهر الأفلام التي حصدت العديد من الجوائز العالمية كانت في حكاية ناقة تنكرت لصغيرها ولم ترضعه، بسبب آلام المخاض والولادة العسيرة، ومع هذا يبقى أي عمل أدبي موضع نقد أو مديحٍ.


    • ليست دعاية يا أستاذ إبراهيم، إنه بيت مشرع الأبواب، أعمدته كلمات، وجدرانه ذكريات، ويسعدني أن يكون عامراً بالأصدقاء، وأن أستمع لآرائهم. فأحياناً أرد، وأحياناً أكتفي بالابتسام..!

      شكرً على تعليقك فقد أثرت عدة نقاط مهمة من بينها القفزات الزمانية التي أُخذت على النص، في السابق كان يؤخذ على نصوصي أنها طويلة جداً، وكنت لا أعرف كيف أختزل عقوداً من الأزمنة الطويلة في صفحة أو صفحتين كما تفضلت إلا ببعض القفزات البسيطة التي لم يستسيغها بعض الأصدقاء، وأنا أحترم كل الآراء، وأنصت لها. 
      هناك أيضاً الأم التي تنكرت لصغيرها وتركته، وأنها حقيقة، قد يصيب الغرائز الطبيعية بعض الشذوذ، وهذا يحدث أيضاً في البشر، وإلاّ لما كان ( إكتئاب ما بعد الولادة) من أخطر المضاعفات التي تصيب الأم وتجعلها تعرض عن طفلها..!

      أشكرك على تشريفك لنصي ومرورك العطر مرة أخرى، وأعدك أن القادم سيكون أفضل بإذن الله. 

  • سرد تلقائي مدهش وجذاب ، وتبدو الفقرة الخيرة خارج السياق !


في العدد نفسه

كلمة العدد 68: الجوائز والتغاضي عن الأخطاء الفادحة

عن مبدعة الغلاف

قراءة في تجربة الانتقال السياسي التونسي

منظور النّقد عند عبد الملك مرتاض

تجربة كريمة ثابت الشعرية