عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

رامي حسين - الأردن

في زقاق المخيم


أسير تائها بين دروب الزمان. أنظر حولي هنا وهناك. لا أرى سوى السراب الذي لف المخيم من كل جانب. دخلت عيادة الطبيب. صعدت الدرج بصعوبة بالغة. دخلت الباب وجلست على أقرب كرسي. رمقتني السكرتيرة بنظرة غريبة كما لو أنني مذنب في شيء. نظرت في المرآة المقابلة لي لأتفحص وجهي وملابسي لأرى إن كان هناك ما يدعو السكرتيرة لأن تنظر إليّ بتلك النظرة. لم أر أي شيء يدعو للريبة، إلا شيئا واحدا، وهو تجاعيد وجهي الكثيرة التي حفرها الزمان في وجهي بكل دقة، حتى أمسى وجهي لوحة فنية تعبر عن الحزن بكل ما تعنيه الكلمة.

تراخى إلى أذني صوت ناعم: "يا أستاذ، هل عندك موعد لدى الطبيب؟"

قلت: "نعم يا آنسة."

ردت عليّ بتهكم: "مدام لو سمحت. ما أسمك؟"

"محمود. محمود الصايغ."

قلبت دفترا بين يديها وهي ما تزال تحدق بوجهي:

"صحيح، عندك موعد الآن. تفضل."

طرقت باب الدكتور، فجاء صوت من الداخل: "تفضل."

فتحت الباب، وخطوت بضع خطوات إلى الداخل. نهض الدكتور مرحبا وهو يقول: "تفضل. تفضل يا عم محمود." ثم عاد إلى كرسيه.

جلست قبالته أحدق به. كان مبتسما دائما، والبسمة لا تفارق شفتيه. لا أعرف كيف يستطيع الناس أن يبتسموا في هذه الحياة الكئيبة. ابتسامته تلك ذكرتني بابني خليل الذي ذهب ليدرس الطب في أوكرانيا ولم يعد حتى اليوم، ذاك الولد الذي كنت أعلق عليه آمالي، لكي يحمل معي الحمل بعد تخرجه. ها هو خرج ولم يعد. من الناس من قال تزوج. وآخرون قالوا مات، وآخرون قالوا ...

صحوت من تخيلاتي على صوت الدكتور يطرق مسامعي:

"عم محمود. يا عم محمود، وين سرحت؟"

تنهدت بعمق وعدت إلى الواقع: "نعم يا دكتور."

قال الدكتور ممازحا : "خليك معي. لا تسافر بعيدا." ثم أردف قائلا :

"آه، كيف ظهرك اليوم؟ إن شاء الله أحسن؟"

"لا والله يا دكتور. الوجع كل ماله عم يزيد."

قال الدكتور مستغربا: "لماذا؟ شكلك ما بتوخذ الدواء."

"لا والله، عم باخذو كل يوم."

"طيب. أخذت استراحة من الشغل مثل ما حكيتلك؟"

"لا."

قال الدكتور مستهجنا : "ليش يا عم؟ أكيد ظهرك راح يزيد وجعه وأنت عم بتحمل عليه أشياء ثقيلة."

تنهدت وقلت بصوت غلبت عليه البحة: "طيب لمن أترك هالصغار؟ من وين يوكلو؟ آه، من وين بدي أجيبلهم خبز؟"

سكت الدكتور برهة. مد يده إلى جيبه:

"طيب امسك يا عم. مصروف كم يوم، لحتى تستريح."

احمر وجهي وصعد إليه الدم بسرعة:

"رجعهم لجيبتك يا ابني. لسة ما وصلت لهون."

رد الدكتور بسرعة: "الله يسامحك يا عم. اعتبرهم من ابنك."

"أنا صح أخذت الدواء بدون مقابل، لكن أنا كنت راح أسد حقه لما يتيسر الحال. أنا ما باخذ صدقة من حدا، لو بدي أموت من الجوع. وأنا صح فقير ومش لاقي اللقمة، لكن نفسي عزيزة كثير."

نهضت مسرعا نحو الباب، والدكتور يلحق بي وهو يقول:

"والله مش هيك القصد. عم محمود استنى. الله ..."

خرجت مسرعا من باب العيادة، ودموعي تتطاير مع الريح. آخ، ما هذه الدنيا؟ لا صحة موجودة، ولا مال، ولا عيال مثل العالم والناس. بدي ألاقيها من وين ولا من وين.

سرت مسرعا بين زقاق المخيم وأصوات السيارات تبتعد شيئا فشيئا، والشمس تتلاشى، وسرعان ما انهمر المطر، وما زلت أسير بين الزقاق حتى أعياني التعب وأخذ البرد يتسلل لجسمي شيئا فشيئا.

أطلقت ساقي للريح. أخذت أنفاسي تتلاحق إلى أن انقطعت. جثوت على ركبتي ورأسي للأسفل أراقب جريان الأرض. ازداد وجع ظهري. آه لم أعد أحتمل هذا الوجع. تسارعت دقات قلبي. رفعت رأسي للأمام، رأيت حائطا كبيرا أمامي. يا إلهي، إني بحاجة للمساعدة، فلم أعد أسيطر على دقات قلبي، والدوار بدأ يعصف برأسي. دارت الأرض بي، فاستلقيت على ظهري في آخر الزقاق.

أخذ المطر يضرب وجهي بشدة والبرد يجتاح جسدي بقسوة. بقيت على هذه الحال برهة من الزمن، مر خلالها شريط حياتي أمام عيني: عشت فقيرا طوال حياتي. ورثت الفقر وسوء الحظ عن أبي. لم أستطع أن أخرج من دوامة الفقر والتعاسة بالرغم من شهادتي الجامعية. بعد النكسة، عندما خرجنا من البلاد وأتينا إلى هنا، أضعت شهورا وأنا أبحث عن عمل لكن دون جدوى. صمدتُ الشهادة على الحائط. شمرت عن ذراعي ونزلت إلى السوق، وكنت حينها في ريعان الشباب. تقدم بي الزمان، وإذا بذلك الضيف الثقيل (الدسك) يحل ضيفا على ظهري إلى أن قسمه الألم، وها أنا لا أستطيع أن أؤمن قوتا لعائلتي. إنسان مثلي لو مات بين زقاق هذا المخيم البائس من يا ترى سيسأل عنه؟ نعم، من سيسأل عن نكرة في هذه الحياة اللعينة؟

D 1 آب (أغسطس) 2010     A رامي حسين     C 0 تعليقات