مختارات: سيد قطب - مصر
معالم في الطريق
حين تكون الحاكمية العليا في مجتمع لله وحده -متمثلة في سيادة الشريعة الإلهية- تكون هذه هي الصورة الوحيدة التي يتحرر فيها البشر تحررا كاملا من العبودية للبشر، وتكون هذه هي "الحضارة الإنسانية"، لأن حضارة الإنسان تقتضي قاعدة أساسية من التحرر الحقيقي الكامل للإنسان، ومن الكرامة المطلقة لكل فرد في المجتمع. ولا حرية -في الحقيقة- ولا كرامة للإنسان -ممثلا في كل فرد من أفراده- في مجتمع بعضه أرباب يشرعون وبعضه عبيد يطيعون.
ولا بد أن نبادر فنبين أن التشريع لا ينحصر فقط في الأحكام القانونية -كما هو المفهوم الضيق في الأذهان اليوم لكلمة الشريعة- فالتصورات والمناهج، والقيم والموازين، والعادات والتقاليد، كلها تشريع يخضع الأفراد لضغطه. وحين يصنع الناس -بعضهم لبعض- هذه الضغوط، ويخضع لها البعض الآخر منهم في مجتمع، لا يكون هذا المجتمع متحررا، إنما هو مجتمع بعضه أرباب وبعضه عبيد -كما أسلفنا- وهو -من ثم- مجتمع متخلف، أو بالمصطلح الإسلامي: "مجتمع جاهلي."
والمجتمع الإسلامي هو وحده المجتمع الذي يهيمن عليه إله واحد، ويخرج فيه الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. وبذلك يتحررون التحرر الحقيقي الكامل، الذي ترتكز إليه حضارة الإنسان، وتتمثل فيه كرامته كما قدرها الله له، وهو يعلن خلافته في الأرض عنه، ويعلن كذلك تكريمه في الملأ الأعلى.
* * *
وحين تكون آصرة التجمع الأساسية في مجتمع هي العقيدة والتصور والفكرة ومنهج الحياة، ويكون هذا كله صادرا من إله واحد، تتمثل السيادة العليا للبشر، وليس صادرا من أرباب أرضية تتمثل فيها عبودية البشر للبشر، يكون ذلك التجمع ممثلا لأعلى ما في "الإنسان" من خصائص، خصائص الروح والفكر، فأما حين تكون آصرة التجمع في مجتمع هي الجنس واللون والقوم والأرض، وما إلى ذلك من الروابط، فظاهر أن الجنس واللون والقوم والأرض لا تمثل الخصائص العليا للإنسان، فالإنسان يبقى إنسانا بعد الجنس واللون والقوم والأرض، ولكنه لا يبقى إنسانا بعد الروح والفكر. ثم هو يملك -بمحض إرادته الحرة- أن يغير عقيدته وتصوره وفكره ومنهج حياته، ولكنه لا يملك أن يغير لونه ولا جنسه، كما إنه لا يملك أن يحدد مولده في قوم ولا في أرض، فالمجتمع الذي يتجمع فيه الناس على أمر يتعلق بإرادتهم الحرة واختيارهم الذاتي هو المجتمع المتحضر، أمّا المجتمع الذي يتجمع فيه الناس على أمر خارج عن إرادتهم الإنسانية فهو المجتمع المتخلف، أو بالمصطلح الإسلامي، هو "المجتمع الجاهلي."
والمجتمع الإسلامي وحده هو المجتمع الذي تمثل فيه العقيدة رابطة التجمع الأساسية، والذي تعتبر فيه العقيدة هي الجنسية التي تجمع بين الأسود والأبيض والأحمر والأصفر والعربي والرومي والفارسي والحبشي وسائر أجناس الأرض في أمة واحدة، ربها الله، وعبوديتها له وحده، والكرم فيها هو الأتقى، والكل فيها أنداد يلتقون على أمر شرعه الله لهم، ولم يشرعه أحد من العباد.
* * *
وحين تكون "إنسانية" الإنسان هي القيمة العليا في مجتمع، وتكون الخصائص "الإنسانية" فيه هي موضع التكريم والاعتبار، يكون هذا المجتمع متحضرا، فأما حين تكون "المادة" -في أية صورة- هي القيمة العليا، سواء في صورة "النظرية" كما في التفسير الماركسي للتاريخ، أو في صور "الإنتاج الفكري" كما في أميركا وأوروبا وسائر المجتمعات التي تعتبر الإنتاج المادي قيمة عليا تهدر في سبيلها القيم والخصائص والإنسانية، فإن هذا المجتمع يكون مجتمعا متخلفا، أو بالمصطلح الإسلامي مجتمعا جاهليا.
إن المجتمع المتحضر، الإسلامي، لا يحتقر المادة، لا في صورة النظرية (باعتبارها هي التي يتألف منها هذا الكون الذي نعيش فيه ونتأثر فيه ونؤثر فيه أيضا) ولا في صور "الإنتاج المادي". فالإنتاج المادي من مقومات الخلافة في الأرض عن الله، ولكنه فقط لا يعتبرها هي القيمة العليا التي تهدر في سبيلها خصائص "الإنسان" ومقوماته، وتهدر من أجلها حرية الفرد وكرامته، وتهدر فيها قاعدة "الأُسرة" ومقوماتها، وتهدر فيها أخلاق المجتمع وحرماته، إلى آخر ما تهدره المجتمعات الجاهلية من القيم العليا والفضائل والحرمات لتحقق الوفرة في الإنتاج المادي.
وحين تكون "القيم الإنسانية" و"الأخلاق الإنسانية" التي تقوم عليها، هي السائدة في مجتمع، يكون هذا المجتمع متحضرا. والقيم الإنسانية والأخلاق الإنسانية ليست مسألة غامضة مائعة وليست كذلك قيما "متطورة" متغيرة متبدلة، لا تستقر على حال ولا ترجع إلى أصل، كما يزعم التفسير المادي للتاريخ، وكما تزعم "الاشتراكية العلمية".
إنها القيم والأخلاق التي تنمي في الإنسان خصائص الإنسان التي يتفرد بها دون الحيوان، والتي يغلب فيه هذا الجانب الذي يميزه ويعزوه عن الحيوان، وليست هي القيم والأخلاق التي تنمي فيه وتغلب الجوانب التي يشترك فيها مع الحيوان.
وحين توضع المسألة هذا الوضع يبرز فيها خط فاصل وحاسم و"ثابت" لا يقبل عملية التمييع المستمرة التي يحاولها "التطوريون" و"الاشتراكيون العلميون."
عندئذ لا يكون اصطلاح البيئة وعرفها هو الذي يحدد القيم الأخلاقية، إنما يكون وراء اختلاف البيئة ميزان ثابت. عندئذ لا يكون هناك قيم وأخلاق "زراعية" وأخرى "صناعية"، ولا قيم وأخلاق "رأسمالية" وأخرى "اشتراكية"، ولا قيم وأخلاق "برجوازية" وأخرى "صعلوكية". ولا تكون هناك التغيرات السطحية والشكلية، إنما تكون هناك -من وراء ذلك كله- قيم وأخلاق "إنسانية" وقيم وأخلاق "حيوانية" -إذا صح هذا التعبير، أو بالمصطلح الإسلامي: قيم وأخلاق "إسلامية" وقيم وأخلاق "جاهلية."
إن الإسلام يقرر قيمه وأخلاقه هذه "الإنسانية" -أي التي تنمي في الإنسان الجوانب التي تفرقه وتميزه عن الحيوان- ويمضي في إنشائها وتثبيتها وصيانتها في كل المجتمعات التي يهيمن عليها، سواء كانت هذه المجتمعات في طور الزراعة أم في طور الصناعة، وسواء كانت مجتمعات بدوية تعيش على الرعي أو مجتمعات حضرية مستقرة، وسواء كانت هذه المجتمعات فقيرة أو غنية. إنه يرتقى صعدا بالخصائص الإنسانية، ويحرسها من النكسة إلى الحيوانية، لأن الخط الصاعد في القيم والاعتبارات يمضي من الدرك الحيواني إلى المرتفع الإنساني، فإذا انتكس هذا الخط -مع حضارة المادة- فلن يكون ذلك حضارة، إنما هو "التخلف" أو هو "الجاهلية."
= = =
المقطع أعلاه من كتاب سيد قطب، معالم في الطريق. نسخة صادرة عن دار عمار، الأردن (2009). من صفحة 147 وحتى 151. انظر صورة الغلاف.
- غلاف: معالم في الطريق
◄ عود الند: مختارات
▼ موضوعاتي