أميمة أحمد - الجزائر
عشت في زمن الطاهر وطار
سمعت باسم الطاهر وطار عندما قرأت روايته اللاز. لم أفهم معنى العنوان فترجمه أحد الأصدقاء قائلا إنه يعني "الأص"، الرقم واحد في مجموعة أوراق اللعب التي تعرف بالكوتشينة أو الشدة. لا أدري لماذا اختار وطار هذا الاسم من ورقة لعب، ولم يعد يشغلني العنوان بعدما انسليت عبر دهاليز الرواية، دهاليز ثورة التحرير الجزائرية ضد المحتل الفرنسي، دهاليز زيدان القائد الذي عشقته كل بنت قرأت اللاز. هذه الشخصيات الأسطورية في مخيالنا تدفعنا دفعا لعشقها ونحن نُلبسها ما نريد كي ترضي احتياجنا العاطفي وربما غرورنا الأنثوي وربنا أمانينا كشعب مضطهد.
بعدما قرأت اللاز بحثت عن أعماله فقرأت الطعنات، رمانة، عرس بغل، الحوات والقصر. كنت أرى زيدان في كل أعماله ولكن بأسماء مختلفة، ربما لأني عشقت زيدان صار عندي بطلا حيثما أجد صفاته.
أن تقرأ أعمال كاتب ولا تعرفه يدفعك إعجابك به لترسم له صورة تعتقد أنها تشبهه، ولكن ما أن تقابل صاحب الصورة بلحمه وشحمه تجد أنك لم تكن موفقا برسم الصورة. وهذا ما حصل لي مع عمي الطاهر.
تعرفت على شكله أول مرة في مقابلة تلفزيونية له عرضها التلفزيون الجزائري. حينها اكتشفت أني لم أكن موفقة في رسم صورة الروائي الطاهر وطار. كان من البساطة تجعل البساطة نفسها تنحني إجلالا له.
الطاهر وطارلا يختلف عن أي شخص بسيط تقابله في أحياء مدن الجزائر. يعتمر قبعة سوداء (بيريه) دوما، فصارت علامة مميزة له. ولم يكن هندامه على قدر كبير من الأناقة. هكذا عرفته منذ أول مرة التقيته وحتى آخر مرة قابلته في نيسان/أبريل 2010 . سلمت عليه، وبالقدر الذي فرحت لأني رأيته تعافى بنفس القدر ارتجف القلب خوفا أن تكون آخر مرة أراه فيها. كذبت إحساسي ووعدت نفسي بزيارته لأجري حديثا مطولا معه، فسبقني الموت للقائه، وبقي اللقاء حسرة بالقلب.
كان لقائي الأول مع الروائي الطاهر وطار في تسعينيات القرن الماضي، قصدته لأجري معه لقاء حول "عوائق الوحدة الثقافية العربية طالما عجز القادة عن الوحدة السياسية". كنت أريد وجهة نظر المثقفين أمثال الروائي الكبير الطاهر وطار الذي تربطه علاقات وطيدة مع الأدباء المشارقة، فلرأيه رؤية مختلفة عن المثقف الجزائري ذي الثقافة الفرنسية (الفرانكوفوني).
التقيته في مقر جمعية الجاحظية (1) بعد هاتف لأسأله إن كان لديه وقت، فقال:
"دوما عندي وقت للحديث مع الطيبين".
شعرت بالطمأنينة لهذه العبارة الدافئة، لكن عند لقائي به وهو لا يعرفني، شعرت أني أعرفه منذ طفولتي، ربما كان جارنا الباب بجانب الباب. استغربت لهذا الأمان وأنا أصافحه وأقدم نفسي له. لم يترك يدي وسحبني برفق قائلا: "لنحكي بالمكتب".
كنت أتصور مكتبه بالجاحظية على نحو مختلف لما رأيته: كان غرفة صغيرة، إذا فتح المرء ذراعية لمس جدرانها عرضا، وطولها أكثر قليلا، فيها طاولة صغيرة عليها كمبيوتر وهاتف، وبجواره كنبة صغيرة وكرسي حديد. لاحظ دهشتي فقال:
"اجلسي في المكان الذي تريدين"، وضحك وهو يشير بيده: "لديك ثلاثة خيارات، وراء المكتب أو الكنبة أو كرسي الحديد."
ولأني كنت لأول مرة في حضرة أديب كبير ذاع صيته بالمشرق قبل المغرب العربي، فكرت باللقب الذي يجب أن أناديه به، فقلت مرتبكة، وكانت ول مرة ينتابني الإرباك بمقابلة صحفية:
"حضرة الروائي الكبير الأستاذ الطاهر وطار..."
فقاطعني مبتسما:
"ولماذا كل هذه الألقاب؟ حضرة، وأستاذ. أنتم المشارقة تبالغون بالألقاب. يكفي عمي الطاهر كما يناديني الجميع."
كان وقع الكلمة على قلبي أشبه بالماء العذب على كبد العطشان، ومن يومها صار النداء بيننا "عمي الطاهر، وأميمة".
كانت لقاءاتي الصحفية مع عمي الطاهر من أجمل اللقاءات، وكان يدهشني في بساطة تعبيره عن أصعب القضايا، الكلمة مطواعة على لسانه كما هي على قلمه. سألته مرة في موضوع الكتابة على الحاسوب، ما إذا كانت أصعب من الكتابة على الورق، فقال:
"الكلمة على الكمبيوتر تتمايل بغنج ودلال أمامك، هل تبقيها أم تغيرها؟ وتتسابق الكلمات أمامك كالصبايا على البيادر، ولكل واحدة ميزة، فالكتابة على الكمبيوتر مريحة أكثر من الورق وتابعته الممحاة أو الشطب."
رحت أتصور تمايل الكلمات أمام عمي الطاهر على شاشة الكمبيوتر، فابتسمت، ويبدو أنه قدّر سبب ابتسامتي فقال مازحا:
"تماما تتمايل كلمات النص الروائي كالجميلات الأشبه بزنابق الربيع."
عرفت عمي الطاهر رجل موقف، ولم يأخذ نصف موقف من أي قضية سألته فيها، كان موقفه من مثقفي الفرنسية واضحا لا يهادن فيه، وشن حربا لا هوادة ضدهم في وزارة الثقافة لأنهم يروجون لأصحابهم، ويقصون الأدباء المعربين، حسب اعتقاده.
لم يقصر مثقفو الفرنسية من جهتهم في انتقاده وبشدة وهو اليساري طوال حياته، وصفوه بأنه "إسلامي" لأنه يوم كان مدير عام الإذاعة الجزائرية سمح ببث الآذان في أوقات الصلاة.
سألته لماذا لا يكون للجاحظية مقر أوسع لتسع كل النشاطات فيها، وكان فيها تعليم الموسيقى، والكمبيوتر، والتصوير، ومعارض رسم، ومنتدى أسبوعي، وطبع جريدة التبيين للجاحظية، وتصفيف كتب للنشر ونشاطات أخرى، وهي لا تتجاوز مساحتها 150 مترا، وفي الشتاء تدلف المياه من سقفها. فقال عمي الطاهر:
"وعدونا بأرض لبناء الجاحظية، ولكن حتى الآن جماعة الفرانكوفون يعرقلون ذلك."
كانت أمنية عمي الطاهر أن يجري التوزيع الأول لجائزة شاعر الثورة الجزائرية، مفدي زكريا (2) التي أقرتها الجاحظية في مقرها الجديد، ولكن مرت سنوات والجائزة تقدم في الجاحظية حيث مقرها بشارع رضا حوحو المليء بحوانيت الحرفيين والسوق الشعبي ومحال الشواء والمطاعم الشعبية. كل من في الشارع يعرف عمي الطاهر ويكن له كبير الاحترام، وحتى الشيوخ في هذا الشارع كانوا ينادونه "عمي الطاهر."
انتقد ما وصفهم منافقي الرئيس بوتفليقة قائلا:
"هؤلاء يريدون مدح الرئيس ولكنهم يسيئون إليه بنفاقهم." قالها بضحكة. "تصوري كي يروجوا لبوتفليقة يقولون: ‘نظفنا الشارع وفقا لبرنامج فخامة الرئيس بوتفليقة‘، وهي من مهام أي رئيس بلدية".
وعن الوحدة الثقافية بين المثقفين العرب قال وطار:
"عندما انفعل أحد الأدباء السوريين على الاستعمار وقال إنه سبب عرقلة الوحدة، قلت له يا عزيزي أنت بالرقة وأنا بدمشق، ومنذ خمسة أيام أهتف لك والخطوط لا تعلق، فهل الاستعمار حال دون تواصلنا هاتفيا؟ فإذا كنا لا نتواصل بين ولاية وأخرى في القطر الواحد فهل الأمر ممكن بين الدول؟"
لم أتصور الجزائر بدون عمي الطاهر، لذا عندما سمعت بنعيه لم أذهب كي يبقى كما أعرفه، وإذا زرت الجاحظية سأعتبر غيابه لعمل طارئ ويعود، هكذا أتعامل مع الذين أحبهم. لا أحضر جنازتهم حتى أحافظ عليهم أحياء في الذاكرة والقلب.
عندما قلّبت صفحات تزيد عن عشرين عاما عرفت فيها عمي الطاهر شعرت بالفخر والاعتزاز أني عشت في زمن الطاهر وطار. وعندما قرأت عن ملتقى وطني تكريما لعمي الطاهر في أربعينيته بعنابة، حيث يعيش معظم عائلته، تمنيت لو كان هذا التكريم في حياته ببناء مقر الجاحظية، الحلم الذي عاش في قلبه لتكون منارة ثقافية بالجزائر.
بعد وفاته أصبح هناك قاعة منتدى الإعلام الثقافي باسم الطاهر وطار، وسيطلقون اسمه على منشآت ثقافية أخرى. هكذا العادة مع الأدباء: تكريمهم بعد مماتهم.
= == =
(1): الجاحظية: جمعية ثقافية تأسست عام 1989، وكان الطاهر وطار رئيسا لها. عنوان موقع الجمعية على النت أدناه.
(2) مفدي زكريا: شاعر جزائري يعرف بشاعر الثورة. أشهر قصائده "قسما" التي أصبحت النشيد الوطني الجزائري.
عنوان موقع جمعية الجاحظية
= =
نشيد "قسما"
استمع إلى النشيد وشاهد كلماته مع بعض الصور التاريخية في شريط منشور في موقع يوتيوب. تأكد أن سماعات حاسوبك تعمل لكي تسمع الصوت. ويمكنك تكبير الشاشة العرض بالضغط عليها. انطلاق النشيد يتأخر قليلا. النشيد من تلحين الفنان المصري محمد فوزي.
قصيدة "قسما"
قـــسما بالنازلات الـماحقات = = والـدماء الـزاكيات الطـــاهرات
والبــنود اللامعات الـخافقات = = في الـجبال الشامخات الشاهقات
نحن ثــرنـا فحــياة أو مـمات = = وعقدنا العزم أن تـحيا الجـزائر
فاشهدوا، فاشهدوا، فاشهدوا
نحن جند في سبيل الـحق ثرنا = = وإلى استقلالنا بالـحرب قـــمنا
لـم يكن يصغى لنا لـما نطــقنا = = فاتــخذنا رنة البـارود وزنـــــا
وعزفنا نغمة الرشاش لــــحنا = = وعقدنا العزم أن تـحيا الجزائر
فاشهدوا، فاشهدوا، فاشهدوا
يا فرنسا قد مضى وقت العتاب = = وطويناه كــما يطوى الكـــتاب
يا فرنسا إن ذا يوم الـحــساب = = فاستعدي وخذي منــا الجواب
إن في ثــورتنا فصل الـخطاب = = وعقدنا العزم أن تـحيا الجزائر
فاشهدوا، فاشهدوا، فاشهدوا
نحن من أبطالنا ندفع جنــــــدا = = وعلى أشـلائنا نصنع مجــــدا
وعلى أرواحنا نصعد خـــــلدا = = وعلى هامــاتنا نرفع بنــــــدا
جبهة التـحرير أعطيناك عـهدا = = وعقدنا العزم أن تـحيا الجزائر
فاشهدوا، فاشهدوا، فاشهدوا
صرخة الأوطان من ساح الفدا = = اسـمعوها واستجــيبوا للنــــدا
واكـــتبوها بـــدماء الــشهــدا = = واقرؤوها لبني الـجـيل غــــدا
قد مددنا لـك يا مـــجد يــــدا = = وعقدنا العزم أن تـحيا الجزائر
فاشهدوا، فاشهدوا، فاشهدوا
◄ أميمة أحمد
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ أشخاص: مقالات
- ◄ وفيات