عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

بهاء بن نوار - الجزائر

فاتحة النهايات


حدّثيني الآن ماذا لديكِ؟ فارقني وجهُك منذ ساعات عشر (دهور عشرة) قابلتِ خلالها دون شكّ وجوها جديدة، وأقنعة قديمة؛ قصصا، وحكايات، وبقايا كلمات.

نمتِ خلال بعض من ساعاتها؟ لا بأس! لكنك حتما قابلت في تلك المنامات بعضا من أشباح الماضي، أو رؤى الآتي؛ بعضا من متاهات الآن.

بالحكي وحده يحيا الإنسان! حدّثيني عمّا لديكِ. وأعيدي إن كنتِ امرأة حقا، أو نثارَ آلهة بعضا من نثار ذلك اللّهب، والرّماد؛ بعضا من نثاري.

قفي حيث أنتِ أو تقدّمي. أغمضي عينيْكِ، أو أشهريهما، وأشرعي نوافذ الحلم، أو غلّقيها؛ كلماتك كانت ولا تزال جرعةَ الكذب الجميل، وجنّة المكر الجميل؛ واحة الموت السّعيد!

* * *

في البدء كان الجسد. وكانت ولائمه الباذخة؛ فرحي البدائيّ، وغصّاتي؛ وأغنيتي الطفوليّة، وأنّاتي: جنّتي الأولى، وجحيمي.

عددهنّ تجاوز عدد ساعات السنة، وعدد دقّات الفؤاد، وذرّات الرّمال: حكايات تلتها حكايات، وشهقات تلتها شهقات، وفردوس عجيب يندسّ في ثنايا فردوس عجيب: وأنا... ثمّ الكونُ الحميم... ثمّ ... هنّ.

* * *

لم يدم ذلك الزمان طويلا، حين صهل الموت، واضطرمت الشرايين، وحشرجت الأعين فاغرة جفونها غير مصدّقة ما كان. كلمة واحدة منّي قبيل الفجر أو بعده كانت فاتحة الاحتفال، (وخاتمة الاحتفال): تلال عالية من الجماجم البيضاء، والسّمراء، والصفراء، وأشرعة طافية من الجدائل السّوداء، والشقراء، والشعثاء: جميلتي الأبهى بينهنّ جميعا، لم أرض لها بأقلّ من عقد لؤلؤيّ حبّاته صيدَت من جزائر واق الواق، وحُفِظت في خزائن بنات ملوك الجان؛ يلتفّ حول عنقها العاجيّ بحنان، ويراقص النبض بحنان، فتنتهي القصة كما بدأت: بحب، وحنان!

مع كلّ جثة تهوي عمري الفاني يتجدّد، ودمي يتجلّى، وشبابي يتبرعم: القوة عمري، والجسد تاريخي، وعلى أكوام العظام مجدي.

* * *

بالحكي وحده يحيا الإنسان!

روّضتني الأخرى ليلة واحدة أو ليلتيْن (لا أدري من أين أتوا بالألف الباقيات!) كانت مثل سواها؛ خاتلتني بضع ساعات كدت أغرق خلالها في غواياتها، لكنّني لم تخدّرني أبدا أكاذيبُها، ولا امتدّت يداها إلى مفرقي، أو حتى مسّت جبيني.

(شعرتي العجائبيّة لا تزال في مكانها (1) ولا يزال الدمُ فرحتي الكبرى، وإكسيري السريّ!)

* * *

ألف ليلة (كما يزعمون!) من الجبن والوداعة أغمِدت السيوف فيها، وشاخت الخناجرُ، وهام الجلاد على وجهه يستجدي القوتَ في محلاّتِ الكرخ والرّصافة، بعد أن فقد وظيفته، وتلقفته البطالة، واحتضنه النسيان!

طفلا غريرا خلالها، أو شيخا ذليلا أتلقف كلماتها كما يتلقف المريض جرعات الدّواء، وكما تتلقف الأرض العطشى زخات المطر، وخطوات العشّاق، وأكاذيبَ الشعراء!

صارت الحكاياتُ عمري: ألف ليلة وليلة كما يزعمون، وأنا أتوهّج! (هل تكفي امرأة واحدة كي يتوهّج مثلي؟!)

* * *

ألف يوم ويوم، أم ألف عام وعام، أم ألف ساعة وساعة؛ ألف دقيقة ودقيقة، ثانية وثانية؛ أيّا كانت المقاساتُ فالختامُ واحد: هادمُ اللذات، ومفرّقُ الجماعات؛ مخرّب القصور، ومعمّر القبور، ومقفرُ القلب إلا من اللّوعة، والسّؤال:

= عاشق يفوز بعاشقته لماذا يرحلان؟

= شمس نهار! كوكب صباح! قمر تمام! لماذا يمتصّ الدّود والتراب محاسنها؟

= سندباد يعود من رحلاته السّبع، لماذا لم يكمل الألف؟

= ملك يغزو الدّنيا، لماذا لم يغز ما وراءها؟

= جبّار قهر الملوكَ، وأذلّ السّلاطين؟ لمَاذا لم يقهر الجنّ؟ والأشباح؟ والأبالسة؟ والـــ...موت؟

= جبّار آخر ونصفُ إله أذلّ البشر وأضنى الآلهة؟ لمَ لمْ يكن هو نفسه إلها؟ كاملا، غير منقوص؟ أو شيطانا؟ لماذا يرضيه البين بين؟

= سلطان يستمع إلى سلطانته كلّ ليلة، لماذا يستمع إليها؟ لماذا يصدّقها؟ لماذا لا يحدّثها هو؟ يخدّرها؟ يروّضها؟ يحييها كلّ لحظة، ويميتها؟

* * *

أكاذيبُ لا تتبرعم إلا ليلا، يدثرها الظلام، ويستر عنّي قبحَها، وحين يصيح ديكُ الصّباح، وتتسلّل خيوط الفجر الصريح إلى مخدعيْنا، ويتأهّب الجلاد مشرعا ذراعَه، وأذنيْه، تغادرني الغواية قبل أن أغادرها، وتترك الأبواب موارَبة دوما؛ بعضها للأمل، وبعضها لللهفة؛ للشوق؛ للانتظار؛ للاجدوى.

قتلتها في خيالي طيلة تلك الصّباحات، وحفرتُ لها في كلّ زاوية من زوايا القصر رمسا فاغرا فاه، ينتظر مباهجَها!

راوغني الموت خلالها، وراوغها، راوغتني هي، وراوغتها، وحين ضاق بي الصبر وبها، أغمدت خنجري الدّامي في قلبها؛ مستودع أكاذيبها. لم يفعل الجلاّد شيئا، فقد سرّحته منذ أن أمسك العفريت بتلابيب التاجر المسافر (2) وقبل أن يقبض الموتُ روحَ الإسكافيّ معروف (3) قبضتُ أنا روحَها، وفجر اليوم الأخير دفنتها؛ أسفل شجرة الياسمين غيّبتها (هل هذا أريجُكِ أنتِ أم أريجُ الياسمين يا فاتنتي؟!)

* * *

أسكتّكِ أخيرا عن الكلام المباح، وغير المباح، وأخرستُ نبضكِ إلى الأبد، لا يهمّ إن كان ذلك بلمعة الخنجر، أم بلمعة اللؤلؤ، ولا يهمّ إن كان طيفك أنتِ الذي يزورني الآن أم طيف سواكِ.

عينايَ تفتّحتا على اللانهاية، وأكاذيبُكِ أيقظت في نفسي حرقة السّؤال، أنا الذي قضيت العمرَ قانعا بكفاف الجواب، مستنيما إلى دفء القصر، وراضيا بهمهماتِ الخدم، ومكر الجواري، وقهقهات المهرّجين!

* * *

بوداعة شاة أغمضتِ عينيْكِ، وأسلمتني عنقكِ، ورضيت بحكمي، فألحقتكِ بالأخريات، ولم أبقِ منكِ إلا على رذاذ ضحكات، وحفنتيْن باذختيْن من الرّماد (هل أعجنها ببعض المسك وأجعل منها وعاءَ نخبنا القادم؟ ومسرّاتنا الآتية؟)

وخرقة تكاد تبلى من كمّكِ الأزرق، الذي دوّخني بعضَ الزمان؛ حين كانت حركاتُ كفّيْكِ وردا، وعبيرا، وموسيقى!

سبحان الله! من إكليل ورد إلى كومة نفايات! ومن ولائم وله وغرام إلى ولائم دود وتراب!

= = =

(1) إشارة إلى الأسطورة التوراتيّة "شمشون" و"دليلة" التي استطاعت ترويضه باستلال شعرة أسطوريّة من رأسه؛ إليها وحدها تُنسَب قوّته الأسطوريّة.

(2) أولى حكايات شهرزاد.

(3) آخر حكايات شهرزاد.

JPEG - 21 كيليبايت
ثمثال: شهرزاد وشهريار
نصب "شهرزاد وشهريار" على ضفاف نهر دجلة في شارع أبي نواس (بغداد). للنحات العراقيّ محمد غني حكمت.
D 1 أيلول (سبتمبر) 2010     A بهاء بن نوار     C 0 تعليقات