عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

عبد الحميد صيام - الولايات المتحدة

أنا والعصافير


عبد الحميد صيامفي ربيع السنة الأخيرة لدراستي الثانوية واستعدادا لامتحانات التوجيهي انتحيت مكانا شرقيا من القرية الوادعة الحالمة على سفح الجبل. كنت أعتقد أن الدراسة بصوت عال أسهل للاستيعاب بسبب استعمال حاستي البصر والسمع. عملت مسارا صغيرا طوله نحو مئة متر أقضي معظم ساعات النهار رائحا غاديا في ذاك المسار القريب من أشجار الزيتون والتين وأحضان الطبيعة التي كانت تتزين بأجمل وأزهى الألوان، حيث الزهور البرية تتماوج بشكل بديع متكئة على بعضها البعض عندما تعبث بها نسمة رقيقة فتحنى رؤوسها ووريقاتها وتيجانها الزاهية.

العصافير تقفز من غصن إلى غصن ومن صخرة إلى شجرة، جذلة سعيدة بهذا الجمال الخلاب الذي لا يدوم طويلا، وكأنها تريد أن تروي عطش الروح من كل ما هو فاتن وجميل. تتمايل مرة وتنساب كالسهم مرات، وتعلو في الجو ثم تهبط كأنها الشهب. عصافير من كل الأحجام والأشكال ذات ألوان لا أحلى ولا أجمل.

الفراش المتعدد الأشكال والألوان أصر على أن يأخذ حصته من مهرجان الطبيعة الزاهي هذا فانتشر في الساحة يدور في دوائر قصيرة ويختار رؤوس الأعشاب والأشواك القريبة ليأخذ راحة قصيرة فوقها ثم يستأنف رحلة الدوائر المتعرجة. لاحظت أن نسبة أعلى من الفراش والعصافير تنتشر في الدائرة التي جعلتها مقرا لدراستي وكأنها تستأنس بي أو تريد أن توصلني رسالة ما، وكأنها تعرف أن الجمال يصبح تجريدا عدميا إذا لم تكن هناك عيون تراقبه وقلب ينفطر له وعقل يستوعبه، كما هو الحال في الموسيقى والرسم والشعر والنحت، كما تقول سيدة الغناء في أحد مقاطع روائعها "عزة جمالك فين من غير ذليل يهواك".

وفي يوم جلست تحت شجرة الزيتون لآخذ راحة قصيرة وشربة ماء من قلة باردة أصطحبها معي في الصباح، فرأيت عصفورا صغيرا يقف على صخرة أمامي ويغرد بمقاطع متناسقة كأنها لحن جميل تم إخراجه إلى الملأ بعد مراجعات وتعديلات كثيرة. ولا أعرف كيف ولماذا تناولت حجرا صغيرا قذفته نحوه وإذا به يصيبه إصابة مباشرة، فيسقط تحت الصخرة يتفعفل ويتمرغ محاولا التشبث بالحياة. ركضت نحوه مذهولا غير مصدق محاولا إسعافه بوضع بعض التراب على جرحه النازف، إلا أن كل محاولاتي المحمومة لإنقاذه باءت بالفشل.

رأيت في عينيه وهما تنطفئان حزنا وعتابا عميقين أبلغ من كل اللغات وأكثر حدية من السكين. أحسست بدموع ساخنة تنهمر على وجنتي، والعصفور الضحية في يدي حيث اختلطت ألوانه الطبيعية بألوان الدم فلم أعد أفرق بينهما. قمت بعدها وحفرت له لحدا صغيرا ودفنته فيه وأحطته بصخور صغيرة من كل جانب ووضعت أحد الحجارة الطويلة في نهاية أحد طرفيه. ثم جمعت عددا من الزهور البرية غرستها في اللحد الصغير ثم رششت ما تبقى في القلة من ماء فوقه وانتحيت جانبا وبدأت أفكر فيما اقترفت يداي ضد العصفور البريء.

وأذكر أنني كتبت أولى محاولاتي الشعرية أبياتا على لسان العصفور يعاتبني فيها على ما فعلت يداي، ولا أذكر من بين تلك الأبيات الأربعة أو الخمسة إلا بيتا أو شبه بيت يقول فيها العصفور:

جمال الريش أم ألحان صوتي = = أثارت كل هذا الحقد فيك

منذ ذلك اليوم وأنا أجد لدي ضعفا أمام العصافير، تعلمت عنها الكثير واقتنيت عددا من الكتب والموسوعات المصورة التي تتحدث عن أنواعها وأشكالها وخاصياتها. وكلما حللت في بلد أثناء حلي وترحالي في هذا الكون، كنت أحاول، كلما سنحت الفرصة، أن أشاهد ما أمكنني من غرائب الطيور وعجائبها. وفي يوم كنت أبحث عن بيت في نيوجيرزي لأستقر فيه وعائلتي، فقالت مندوبة الشركة العقارية وهي تشرح مزايا بيت كان معروضا للبيع إن الشجر الذي يقع خلف البيت قد خصصته البلدية محمية طبيعية للعصافير، فوافقت على شراء البيت فورا.

ومنذ ذلك الوقت وأنا استمتع بأصوات العصافير التي تتخذ من المحمية موئلا آمنا لا يوجد فيه من يطاردها بحجارته. ولم أكتف بهذا، فثبت على الدكة الخشبية في الجزء الخلفي من البيت ما يسمى "بيرد فيدر" (مغذي الطيور)، وهو عبارة عن أسطوانة زجاجية فيها ثلاث فتحات صغيرة وتحت كل فتحة عمود معدني صغير. تملأ الأسطوانة بحبوب خاصة بالعصافير فتتجمع قربها وترفرف من فوقها ومن أمامها وخلفها وهي تشاهد الحبوب اللذيذة محشوة داخل الأسطوانة، فتقف على العمود المعدني القصير الذي يمكنها من النفاذ إلى الحبوب من خلال الفتحات الثلاث في الأسطوانة.

كنت وما زلت أستمتع بمنظر عشرات العصافير تتدافع نحو الطعام الذي وفرته لها وكاميرتي تلتقط العديد من الصور الجميلة، وكلما انتهى مخزون الغذاء عدت لأملأها من جديد وكأني أكفر عن ذنب اقترفته يداي في باكورة العمر. ودائما أسائل النفس كيف سيكون هذا الكون بلا عصافير ولا فراش ولا حيوانات أليفة وبرية. إنه الدرس الأبدي الذي تعلمته منذ الصبا، وأصبحت إنسانا محبا للطبيعة وأسعى دوما لحمايتها وإبعاد الأذى عنها والاستمتاع بجمالها وما يزينها من مخلوقات وأزهار وأشجار ومياه.

JPEG - 9.7 كيليبايت
عصافير
D 1 أيلول (سبتمبر) 2010     A عبد الحميد صيام     C 0 تعليقات

بحث



5 مختارات عشوائية

1.  ندوة حول كتاب عن الفن التشكيلي في الأردن

2.  حكاية كورونا بنكهة يمنية

3.  علم فوق النسيان: الشيخ حسين المرصفي

4.  الساهرات أصبحن خارج البيت

5.  كلمة العدد 31: مبادرات تعارف وتعاون

send_material


linked image to oudnad.net pdf_xive
linked image to oudnad.net/dox