إبراهيم يوسف - لبنان
رحلة في الماضي البسيط (*)
كان لي بالأمس قلب فقضى
وأراح النّاس منه واسْتراحْ
ذاك عهد منْ حياتي قد مضى
بين تشبيب وشكوى ونواحْ
(جبران خليل جبران)
منذ عقود طويلة من الزمن، مع نهاية مرحلة التعليم الابتدائي، طويت الحكاية في نفسي وألقيتها جانبا، وقلت ذاك عهد من حياتي قد مضى. لكنّ الحكاية تمرّدتْ عليّ، وأبتْ إلا أن تستفيق لتؤرّقني من وقت إلى آخر؛ وتكدّر هناء عيشي. لعلّها "الانطباعات يتلقاها المرء في طفولته، تحفر مدى العمر آثارا عميقة في القلب"، على ما يقول أونوريه دي بلزاك (*).
تلك الأيام كانتْ وسائل التدفئة بدائية للغاية بلا غاز أو كهرباء؛ والبترول عزيز يقتصر استعماله على قناديل الإنارة ومواقد الكاز المحمولة (*). تلك الوسائل لا تختلف عنها في عصر الإنسان الأوّل، تعتمد على جذوع الأشجار المثمرة اليابسة، والأشجار الحرجيّة كالسنديان و"الملول"، تنقلها الدواب أو ينقلها على ظهره من لا دابّة عنده. يتمّ تقطيعها لتتناسب مع سعة المواقد والمدافئ، وتقطيع جذوع السنديان الحيّ، باستعمال الفأس؛ الوسيلة الوحيدة المتاحة آنذاك، يقتضي جهدا عظيما يستنفر حرارة الجسم، ويعرّقه في أشدّ الأوقات برودة.
تقوم المواقد في زوايا البيوت، للتدفئة والطبخ. تزيّنها أواني القشاني (*) الخزفيّة الملوّنة، وتعلوها القناديل الصينيّة؛ ذات النقوش المنمنمة الساحرة. يرتفع دخان المواقد إلى الخارج في أعلى السطوح، عبر قنوات واسعة من الطين والصلصال. هي المداخن، وتنتهي بواقيات للثلج والمطر، هرميّة كالقبعات الجبليّة.
في الشّتاء يحلو الدفء والسمر حول الموقد، ويحلو الإصغاء لحكايات الجدّات والخالات، كما يطيب تحميص الخبز، والبطاطا المشويّة، والذرة المتفتّقة المفرقعة، وملقط الجمر في أواخر الليل؛ ينقّب عن جذوة تحت الرماد لمزيد من السهر والأحلام.
أمّا في المدرسة فشأن مختلف، مدافئ معدنيّة تقوم في الوسط، يتصاعد دخانها إلى أعلى السطح، عبر قنوات معدنيّة من توتيا الزنك (*)، وتنتهي أيضا بحاجبات هرمية للمطر.
تعتمد المدافئ في المدرسة على التموين الذاتي. يحمل الطالب حطبته كما يحمل الحقيبة ومزادة الطعام، يلقيها في زاوية من زوايا الصف، في الغالب الزاوية المحاذية لليد اليمنى، ثمّ يتوجّه إلى مقعده، بعد مراقبة مشدّدة إلى حجم الحطبة، والويل لمن يرمي حصّته في غفلة من الأستاذ.
يسْتوْقف الأستاذ جانبا صاحب الحطبة التي لا يرضيه حجمها. تبدأ العقوبة بالتوبيخ، مرورا بالصفع على الوجه، وانتهاء بقضيب كثير العقد من الرمّان، أو الزعرور، يترك آثارا عميقة في القلب وعلى اليدين. والأهل يقتّرون بحطب عزيز عليهم ويباركون التشدد في تربية أولادهم، حرصا على مستقبلهم و"مستقبل أوطانهم".
لا تقتصر العقوبة على التوبيخ والضرب، بل تتعداهما إلى حرمان المعاقب من الجلوس قريبا من المدفأة، ليجلس بعيدا في آخر الصف، يرتجف من البرد والخوف، والكسوة المتواضعة أيضا. وعليه بعْد ذلك أن يفهم ويستوعب ما يشرح "المعلّم" وينجح، ليرفع عاليا جبين الوطن ويفديه بدمائه، ويردّد مع رفاقه في عيد الاستقلال: "كلنا للوطن، للعلى للعلم".
لا أدري "أيّ شاعر يمكنه أن يصف آلام الطفل، الذي ترْضع شفتاه ثديا مرّا، وتخْضع ابتساماته نار مفترسة من عين قاسية وقلب لا يرحم"؟
فتاة وحيدة تجلس على كرسي منفرد وطاولة مستقلّة، عاد أبوها إلى موطنه، بعد إحالته على المعاش لبلوغه سنّ التقاعد، ولمّا لم يجدْ مكانا لابنته في مدرسة البنات المقفلة، بعد رحيل "الست لميا"، المعلّمة الوحيدة، التي استولتْ على مشاعر شاب من البلدة. مارستْ معه الفاحشة؛ وانتزعته من زوجته وأولاده؛ وسلبته عقله وإرادته، ثمّ رحلتْ معه ليتزوجا بعيدا عن دياره. تردّدتْ أخبارهما طويلا على ألسنة الناس، ثمّ هدأتْ وتوقّفتْ.
كانتْ تعوزنا جرأة كبيرة للحديث مع الفتاة، فكيف لنا بالابتسام لها؟ أو النّظر إلى عينيها؟ حتّى تحية الصباح كانتْ مربكة لنا؛ تختنق في قلوبنا ولا نبوح بها. كلّ ما كان يتصل بها كان يحمل على الإحساس بالخوف والإثم والخجل والحرام. كانت عقدنا معها، تتجاوز عقد عصا "الزّعرور" في يد الأستاذ المحترم.
عملت مؤخرا في شركة للنقل الجوّي، كانت تستقبل طلاّب الجامعات، للتدريب في فصل الصيف، يجلس الطلاّب من الجنسين متلاصقين، لا تفصل بينهم إلا سماكة سراويل "الجينز". اللعنة على الشيطان!
تدفع البنت بساقها ساق زميلها إن أرادتْ أن تثنيه عن كلام، أو تعترض له على رأي، وزميلها يربّت على فخذها بلا خجل؛ بل بمودّة بارك الله فيها (أي المودة).
كنت في مثل أعمارهم؛ تتولاني "الكهربة" وأذوب خجلا ووجدا أبْكم؛ إذا مسّتْني امرأة. تبّا لهذه الحرية التي لم أنعمْ بها يوما؛ وتبا للحرمان في ذلك الزمن المتزمّت المقيت!
في المقابل، لا أدري ولا يعنيني ما تؤول إليه الحال في الزّمن الآتي. إذا تلاشتْ أو تداعتْ يوما علاقة الذكر بالأنثى بفعل الفيض في التخمة؛ فانتفت الحاجة واختفت الرغبة، وأعْرض البشر عن الميل إلى الجنس الآخر.
بناء على سلطة الأب المتقاعد، وما يتمتع به من نفوذ، تجاوزتْ إدارة المدرسة القوانين المرعيّة، وقبلت ابنته في مدرسة الصبيان. المعلّم المربي كان يوبّخنا ويضربنا في حضور الفتاة. وهي باحتْ لي بسرّها بعد سنوات طويلة؛ خسرت فيها الكثير. قالت لي إنّها أحبّت يومها الصبيان، لهذا كانت تمقت المعلّم وتكرهه، وعوّضني كلامها عن خساراتي الماضية، وعن عاري أمام عينيها.
مدرّس اللغة الفرنسية "المفترض" أنّه متطوّر متنوّر. هو الآخر كان يضربنا، لا بسبب الحطب بل لتقصيرنا في مادته. هذا الغبيّ "المبجّل" كان أحوج منا إلى التربية والتعليم، لأنّه يجهل حتّى المادة التي كان يعلّمها، ولي على ذلك أدلة قاطعة. بدأت باكتشافها بعد صفّه بأعوام.
مدرّسو اليوم يحبّون طلاّبهم ويتخذونهم أصدقاء، أمّا أن يوبّخوهم أو يضربوهم تعبيرا عن استيائهم أو سخطهم فمسالة تدلّ على تقصير وتستدعي بلا تردد محاسبة المعلم وإدانته في الغالب.
في تلك الفترة القاسية من ذلك الزّمن اللعين، تعرّفت إلى حكاية النملة والصرصور، في إحدى أمثولات القراءة الفرنسيّة "Le livre unique" (الكتاب الفريد) للشاعر الفرنسي الشهير "لافونتين" (*)، سامحه الله وتغمّده بواسع رحمته.
كلّ الكتب التي عرفتها يومئذ، ألوانها داكنة وغـلــفـها فقيرة وتعيسة. أوراقها "صفراء" تثير حساسية الأنف والحلْق؛ ومضمونها جدّي وصارم ينفّر قلوب الأطفال وعقولهم.
لكنّ كتابا فرنسيا مقرّرا اشتريته لابنتي بعد أعوام طويلة. غلافه مزيّن بصور ملوّنة تسبي العقول، تحملك على بساط الريح؛ وتنقلك برفة الجفن إلى عالم سحْريّ بلا حدود. تأمّلته على مهل رفقا بقلبي، وتحسّرت على حظي لم يؤاتني لأمتلك مثله. أمّا مضمونه فحكايات لطيفة تستهوي الكبار، وتأسر قلوب الأطفال.
أعترف؛ وأعتذر أنني تجسّسْت مرارا على ابنتي. وتركت لها ما يكفي من الوقت؛ وأنا أراقبها بحب عظيم، تقلّب الكتاب وتسرح في خيالها بين صوره وألوانه وصفحاته. وعند الدّرس؛ لطالما حرّضتها أن تقلّد المذيعات في القراءة والإلقاء، وأن "تدحرج" الرّاء الفرنسية لتتحوّل إلى "غيْن"، على مذهب السكان "الباريسيين". لعلّها تخرّجتْ من "السوربون" بدافع من ذلك التحريض.
في الوقت العصيب يأتي الصرصور ذليلا، يرتجف من شدّة البرد والجوع؛ يدقّ باب جارته النملة يطلب غوثها وحمايتها. أمّا اللئيمة فقد عاملته بقسوة وصلافة، وطردته من بيتها وأنّبته على تقصيره، ولم يكنْ أساء إليها في شيء إلا أنّه صاحب مزاج، يهوى العزف ويمتهن الغناء. ما حرّضني واستفزّ مشاعري.
أشفقت على الصرصور وقارنته بحالي؛ وتضامنت معه، ونحن إبّان شتاء بارد لا يرحم، فنصّبت نفسي نصيرا "للغلابى" المهزومين، وأعدت كتابة الحكاية؛ تعويضا له عن سمعة مستباحة، تناولها كل لسان ولازمتْه مدى عمر يأزف على الانتهاء.
تلك هي حكايتي. طويتها منذ طفولتي وألقيتها في جانب من قلبي، تستفيق اليوم لتعلن عن نفسها، وتروي بصدق وأمانة؛ قصّة الظلم والأيام المعذّبة، و"دهر من التشهير" (*) عشته مخلصا لهذا الصديق. يدا بيد وقلبا على قلب. وعدلا لم يضعْ بعد.
= = =
(*) شروح لبعض الكلمات
* الماضي البسيط: (Le passé-simple) إحدى الصيغ في تصريف الأفعال الفرنسيّة، ويقتصر استعمال هذه الصيغة على الرواية "والبلاغة"، وقلّما تسْتخدم في لغة التخاطب، بل يستعاض عنها في ذلك بالماضي المركّب (Le passé-composé).
* أونوريه دي بلزاك (Honoré de Balzac).
* لافونتين (Jean de La Fontaine).
* القناديل: مفردها قنديل، (لاتينيّة) (candela) المصباح.
* الموقد المحمول عرف أيضا باسم وابور وبابور وبريموس (Primus).
* الكاز: سائل نفطي (Kérosène). يستعمل في الوقت الحاضر وقودا لمحركات الطائرات النفاثة.
* "القاشاني": نسبة إلى "قاشان" أو "كاشان"، مدينة في وسط إيران مشهورة بصناعة الخزف الملون، ومشهورة أيضا بصناعة السجاد والحرير.
* "توتيا الزنك": "توتيا" كلمة (يونانيّة) و"الزنك" (ألمانيّة)، وتعني المفردتان معدنا شبيها (بالتنك).
* "دهر من التشهير" نص نشر في العدد 43 من عود الند.
◄ إبراهيم يوسف
▼ موضوعاتي