صبرينة بولحية - الجزائر
الفهم والمسارات الافتراضية عند القارئ
إنّ إطار الموضوع يشكّل أوّل عناصر المعلومات التي يفترض أن تكون مشتركة بين النص والقارئ، باعتبارها افتراضات مستمدة من المعرفة العامة، فالنص يتم إنتاجه بفعل تعاوني من القارئ، إذ أنّ أي فهم لنص ما إلا ويقتضي بالضرورة "أن نقدم في البدء فرضية، أو عدّة فرضيات سيميائية عن موضوعه"[1]. وفعل الفهم هو فعل تعميق، وذلك يتجلى في السيطرة والتحكم في الموضوع أو المعنى الذي هو أمامنا، فالمعنى لا يَتناول بل يُتناول. إنّه يأتي بطريق الفهم ويتسع بالتأويل، وهو -أي المعنى- ليس شيئا موجودا بذاته في النص بل ينتج تبعا لخط من التداعيات التي تجعل من الفهم يتم بواسطة جمع افتراضات تنشأ من جمل النص، ووضع تخمينات واستنتاجات، وكذا اختيار هذه الافتراضات ممّا يعزّز بالفعل كذلك مراجعتها.
إنّ موضوع الفهم مرتبط بالأساس بموضوع الهرمنيوطيقا كونها أتت تبحث عن عمليات الاتصال، وكذا اعتمادها على الفهم، ومن ثمة فإننا نستعين بكل ما يمكّن منها أن يفيد في دراستنا هذه، فقد تساءلت الهرمنيوطيقا عن الفهم ومصادره وأهميته لفهم عقل الآخر، فعند بول ريكور يسعى الفهم إلى "التطابق مع باطن المؤلف إلى التساوي معه وإعادة إنتاج السيرورة الإبداعية، التي ولدت الأثر الإبداعي"[2]، والسائد أنّ القارئ ينطلق من مبدأ الوصول إلى تأويل محكم لكل النص.
والحقّ أنّ الفهم هو بذاته ينبني على عملية تأويلية، فقد صار عند هانز جورج غادامير يشير إلى "الأفق التاريخي"، وعند هانز روبرت ياوس إلى "أفق الانتظار"، ذلك أنّ الفهم ينبني دائما وفق أفق يكون منتظما مسبقا، وهو حركة تعرف وجودها الخاص بالاتصال المباشر مع النص ويكفّ عن الانحباس داخله، بفضل طبيعته التي تمثل حالة من النشوء الانتقالي المتتابع، والذي يهيئ رؤية للموضوع ويساعد على فهمه، فالفهم ينشأ داخل النص ويستقر عنده.
ويكفي أن نصدر أحكامنا الخاصة مادام موجود لدينا حسّ مسبق بالخطوط القصدية الذي يعبر المعنى البدئي بطريق الإدراك، والفهم هو فعل تخمين بدئي فعند "هيرش يرى أنّ كون الفهم في البداية تخمين لطيف (أو مغلوط)، ولا توجد مناهج لتكوين تخميناتنا ولا قواعد لتوليد البصائر، إذ تبدأ الفعالية المنهجية للتأويل حين نباشر باختبار ونقد تخميناتنا"[3]، وهذه التخمينات تنبني وفق إبستيمات ضمنية موجودة في ذهنية القارئ وأفقه الخاص، أو ما يعتر عليه من معارف داخل النص.
والفهم المسبق هو ما يهيئ حدوث افتراضات للنص، الذي لن يكون أبدا متمم التكوين، إنّه مفترض المعنى يستدعي حضور الذات المقوِّمة وتخمينه، لملء بنية النص بطريق الخبرة الفردية التي تفتحه. "فالقراءة هي لعبة تخمين سيكو-لساني لا يشكل فيها النص إلا مجموعة من المؤشرات التي ينتقي منها القارئ ما يحتاج إليه "[4]، غير أنّ هذا الفهم المسبق يشير له غادامير بأنّه يعني التحيّز الذي هو "الحكم الذي يسبق التحري والبحث، وضرورة مثل هذا الحكم المسبق تشير إلى أنّ الفهم ممكن بما أنّ الفهم نفسه يكون قد ابتدأ دائما وباستمرار"[5].
فهذه الأحكام المسبقة هي ما يعين على القدرة لإدراك عوالم النص وتشكّله، بحيث يمكن في الأخير رأب ما يحتاج إليه النص، وتلك الأحكام تستمد وجودها من تعالقات الذات مع عالم الأخر الذي هو عالم النص، فياوس يرى بأنّ "ما تقدمه لنا التجربة الجمالية ليس اندماجا في الآخر، أي في غيريته كما تقتضيه التجربة الصوفية ولكنه أفق عالم آخر يتجه نحونا هو الذي يسمح لنا بفهم فرادته كإمكانية ليكون مختلفا"[6]، أي التعرف إلى الآخر والذات في نفس الآن، وكل ذلك يكون بطريق النظر إلى النص كإمكانية اندماج للآفاق التي يحمله، والتي يأتي بها القارئ إلى النص.
والحقّ أن لحظة الفهم تعتبر بداية مسار لفروض تكون متوقعة من طرف القارئ تسير وفق تصوّر معين للموضوع، وذلك بإضفاء خبرته الذاتية كشرط يفحص أبنية النص وإمكانيات الفهم، ويتم ذلك بفحص الأحكام المسبقة وممكنات النص، بما يُحدث في الأخير انصهارا للأفقين، فعندما يقرأ القارئ يتبدى له المعنى الأوّلي للنص دون أن يتوانى لحظة عن إضفاء معنى شامل لجميع النص، وهذا المعنى يرتسم من خلال قراءة مسبقة تكون بدورها خاصة بذاتية القارئ، وتحاول الذات أن تتطابق مع معطيات النص بشكل يجعل من النص ملكا خاصا للذات، أو يخالفها إذا رفضت الذات ما يحمله النص من أنماط جديدة تبعا لنوع القارئ وحجم أفقه، وعلى النص أن يستدعي قارئه النموذجي ويتوقعه، ممّا يفترض به أن يكون قادرا على إدراك النص وتفسيره منفردا، ولهذا فإنّ فعل القراءة "ينطوي على نوع معيّن من الواحدية وهذه الواحدية هي التي تضفي على التخمين سمة التأويل "[7].
يحاول القارئ أن يتنبأ لمشروع لمعنى ممكن للنص، وإذا كان النص عند امبرتو إيكو حاملا لقصدية مؤلفه ومتضمنا له، فهو "يتوقع قارئه النموذجي القادر على الاشتراك في الترهين النصّي بالشكل الذي خمنه الكاتب وفكّر فيه "[8]، وإذا كان القارئ ينشئ فرضية من بين فرضيات عدّة، فهي تأخذ صفة الاعتباطية، ويلزم عليه في الأخير أن ينتقي منها ما ينسجم مع النص، ويقصي ما يتنافى معه تقريبا، وتلك الفرضية لن تكون إلا نسبية الوجود، ومن ثم تلي تلك الفرضية مرحلة التفسير التي تحتاج إلى مهارة إضافية.
والحال أنّ النظر إلى النص باعتباره نشاطا معطى لقارئ نموذجي في وضع يُبسط فيه هذا الأخير كاستراتيجية نصّية، فهي تسمو إلى تحقيق الفعل التأويلي لإدراك مقاصد النص و استشفافها والتعرّف عليه، كما أنّ إدراك هذه الغيرية يقتضي النظر إلى ما يضمره النص، من خلال النظر إليه كعالم مرجأ التحقيق ترهنه نظرة القارئ، والنظرة التي يلقيها القارئ التجريبي أو القارئ المجسد تحوّل النص إلى موضوع ينشئ علاقة متبادلة بين قارئ تجريبي ومؤلف نموذجي مفترض "فقد تُعد الفرضية التي يروح القارئ التجريبي يصوغها فيما يخص مؤلفه النموذجي أصوب من الفرضية التي يعمد المؤلف التجريبي إلى بثها في شأن قارئه النموذجي"[9].
فيغدو المؤلف النموذجي كفرضية تأويلية لقارئه التجريبي، ومن الصعوبة بمكان إدراك القارئ النموذجي إلا عبر قارئ حقيقي، وهذا القارئ النموذجي هو ما يعدّه فولفغانغ إيزر "قارئا ضمنيا" والذي يعتبر "مجسّدا كلّ الاستعدادات المسبقة الضرورية بالنسبة للعمل الأدبي لكي يمارس تأثيره، وهي استعدادات مسبقة ليست مرسومة من طرف واقع خارجي، بل من طرف النص ذاته"[10]، فهي مسألة تمثل مشكلة بحد ذاتها عند إيكو وتستطيع أن تكون مغامرة تأويلية في الآن ذاته تنحو للتعاون النصّي بين قارئ يروم البحث في مقاصد متضمنة عبر خطية النص وسننه، فالقراءة " الأكثر نجاحا هي تلك التي يمكن فيها للذاتين المبدعتين أي المؤلف والقارئ أن يتوصلا إلى الاتفاق التام"[11]، فالنص يعيد بناء الذاتين معا من جهة، ومن خلال تماهي الأولى في الثانية من جهة أخرى.
ويجدر بنا أن نتعرف أنفسنا كقرّاء داخل نمط معين للنص، ولن نتحكم في سيرورة الفهم إلا بطريق الإدراك والتوجهات التي تستثيرها ذهنية الذات "فباعتباري قارئا فإنّي لن أعتر على نفسي إلا بتيهي "[12]، وذلك ناتج عن الحدس ممّا يمكِّن بواسطته فك شفرات النص وترهينه، بما هو حوار يستدعي استفسارات قارئه وأسئلته.
إنّ اعتماد التأويل على الفعل التخييلي يتعلق بجدلية تعدد المعاني، المسألة التي تبقـيـها مـفـتـوحـة عـلـى الـتـدلـيـل أو (السيميوزيس) عـنـد شارلز ساندرز بيرس على أساس أنّ الأفهام تختلف للتوصل إلى المعرفة الحقة، ولتخطي عقبات اختلاف القراءات ينبغي أن تحقق في أقصى تحديد لها المعنى الأوّلي الذي لا لبس فيه، فيتضح المعنى الذي يمكن أن نرى فيه حاملا للمعنى الممكن للنص، ونزع إمكانيات الارتياب في تقصّيه " فلكي يأتي قرّاء عديدون بدلالات متعددة لنفس الواقعة، يجب أن يتفقوا في البداية على أنّ هذه الواقعة تحيل في بعدها الظاهري المباشر على معنى أوّلي لا يطعن فيه أحد"[13].
فالسيطرة على المعنى الحقيقي أو السرّ الكامن يحتاج إلى مقاربة تحفر خلفه، ممّا يقتضي حضور مجموع من الافتراضات التي يحكمها التأويل في سيره الذي يلج مستويات النص، بما أنّه نفسه يخفي جوهر المعنى عن القارئ. فيشحذ القارئ تأويلاته والتي يعمل على الدفاع عنها كافتراضات يقينية، تغدو في الأخير الموضوع الشرعي الذي يقبض على مغزى النص بشكل يما هي بين الذاتين "فللعلامة الحق في أن تحدد قراءتها حتى لو ضاعت اللحظة التي أنتجتها إلى الأبد أو جهل كاتبها ما يود قوله، فالعلامة تسلم أمرها لمتاهتها الأصلية "[14]، إنّ هذه المتاهة التي تبقى غامضة يمكن أن تتضح حين نرى فيها كونا حاملا للمعنى بإزالة القناع عنه وتخطيه، ويكون بطريق الفهم الفردي وإدراكه الخاص.
كما تسعى القراءة إلى التبصّر في أغوار النص ومكنوناته، ومن الطبيعي إذن استحضار قارئه النموذجي كذهنية بإمكانها بلوغ الغايات الدلالية لطيات النص وما توحيه، وإدراكها من زاوية معينة تتبصر المعنى، وبالنتيجة تستطيع تحيين النص ممّا يستلزم منها في الأخير التوافق مع الموضوع الملائم المقصود.
= = =
الهوامش
[1] ميشال أوتان، بحوث في القراءة والتأويل، تر: محمد خير البقاعي، مركز افتماء الحضاري، حلب، ط1، 1998، ص 84.
[2] بول ريكور، من النص إلى الفعل، تر: محمد برادة وحسان بو رقيه، مكتبة دار الأمان، الرباط، ط1، 2004، ص 100.
[3] ينظر: بول ريكور، نظرية التأويل الخطاب وفائض المعنى، تر: سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، بيروت الدار البيضاء، ط1، 2003. ص 124.
[4] عبد القادر الزاكي، "من النموذج النصي إلى النموذج التفاعلي (تحليل عملية التلقي من خلال سيكولوجية القراءة)"، في: نظرية التلقي إشكالات وتطبيقات، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، رقم 24 ،1993، ص 220.
[5] ميجان الرويلي وسعد البازعي، دليل الناقد الأدبي، بيروت الدار البيضاء، ط2، 2002 ص 51.
[6] أحمد بو حسن، نظرية الأدب (الفهم-القراءة -التأويل)، دار الأمان، الرباط، 2003، ص 114.
[7] بول ريكور، نظرية التأويل الخطاب وفائض المعنى، تر: سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، بيروت الدار البيضاء، ط1، 2003. ص 124.
[8] ناظم عودة خضر، الأصول المعرفية لنظرية التلقي، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 1997. ص 131.
[9] أمبرتو إيكو، القارئ في الحكاية، تر: أنطوان أبو زيد، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء ط1، 1996 ص 78.
[10] فولفغانغ إيزر، فعل القراءة (نظرية جمالية التجاوب في الأدب)، تر: حميد لحميداني والجيلالي كلدية، منشورات مكتبة المناهل، فاس، د.ط، د.ت، ص 30.
[11] المرجع نفسه، ص 33.
[12] بول ريكور، من النص إلى الفعل، تر: محمد براد وحسان بو رقية مكتبة دار الأمان، الرباط، ط1، 2004، ص 80.
[13] سعيد بن كراد، المعنى بين التعددية والتأويل الأحادي، مجلة علامات، مكناس، ع13، ص 18.
[14] مجلة علامات، مكناس، ع 13، في: (الافتتاحية)، ص 06.