عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

صفاء صيد - الجزائر

ابن الحركي (*)


(*) الحركيون: جزائريون تعاونوا مع المستعمر الفرنسي، وحاربوا ضد جبهة التحرير. انتقلوا للعيش في فرنسا بعد استقلال الجزائر عام 1962. المعلومات التاريخية الواردة في القصة مصدرها كتاب التاريخ المدرسي لطلبة الباكالوريا في الجزائر.

.

"الوحدة تحيي تفاصيل جراحنا والقلم يقتلها لذا أظنّ أنّه يجب أن نكتب لنشفى من جراحنا. هذا ما علّمتني إيّاه سانت تروبيز وباقي مدن فرنسا.

تسألني بعد شيء من الصّمت:

"ماذا تعني لك الكتابة؟"

أجيبها: "الكتابة هي ذاتي وأن أكتب يعني أن أحلم، وأن أحلم يعني أن أعشق الحياة رغم ما تكتنفه من مصاعب، وأنت ماذا تعني لك؟"

ابتسمتْ: "الكثير. أتعرف؟ كنتُ أريد أن أكون مثل الأديب الرّوسي أنطوان تشيكوف، يعالج المرضى في عيادته والمشاكل الاجتماعية في كتاباته ..."

مقاطعا: "ما الذي منعك أن تكوني مثله؟"

صرفت نظرها إلى الأرض: "الظّروف. ثمّ إن أسلوبي ليس بالرّاقي، أنا أكتفي بكتابة مذكّراتي لا غير وأنت؟ متى ستعلن نفسك أديبا؟"

"أنسيت أني روائي؟"

وتلك البسمة ما زالت مرسومة على شفاهها أجابت: "لم أنس. لكني أراك تكتب عن أبناء شعبك ولكن بلغتي. لماذا لا تعود إلى أصلك؟ أم أنك لا تؤمن بالقومية؟"

توتّرت عندما ذكّرتني بأصل يغتالني واقعه: "لا يهم."

وقفت من مكانها: "هل ستكتب بالعربية؟"

"يوما ما."

"ليكن ذاك اليوم قريبا. عدني."

"أعدك."

* * *

كان يومها السابع عشر من شهر أغسطس عام ألفين وثمانية عندما التقينا على ضفاف نهر السين وجرى بيننا ذاك الحوار.

إذن، عامان يمضيان وأنا أتردّد في تلبية رغبتها بالكتابة عن نفسي مستعملا العربيّة لغة. تلك الرّغبة التي كانت ذات يوم رغبتي أنا وليس رغبة غيري. بعد تردّد، أفتح دفتري ذا الغلاف الأخضر الداكن وأقول في نفسي:

"لأكتب اليوم بالأحرف العربية التي تثير فيَّ الرّعب عندما أختلي بها، ولأجعل لذاكرتي الجزائرية بين الكتب العالمية مكان."

أكتبُ اسمي عربيا ثمّ أغمض عيني هربا من تلك الأشكال.

"لماذا؟"

لأنّ الحرف العربي يثير فيّ الرّعب ويخيفني كثيرا. يعيدني إلى أصلي الذي أفرّ منه، "ابن الحركي"، ويحبط عزيمتي في جعل حرفي الإنساني يدقّ أبواب النّجوم بدعوته للمساواة بين شعوب العالم.

علّموني قبلا أن لا مكان للكتاب في الوطن العربي فاتخذت الفرنسية لغة للإبداع، واخترت لنفسي اسما أنثويا ناب عني في دفع ضريبة النّجاح رفقة صديقتي المستشرقة كريستين.

أعيد فتح عيني تحدّيا لأعماقي وتلبية لرغبة تلك الفتاة التي قدّمت الكثير لأجلي، تلك التي ساعدتني على الاندماج مع أبناء بلادها ولم أستطع أنا مساعدتها على التأقلم مع وطنها.

هي أيضا تعاني ما أعانيه.

ينظر لها البعض في فرنسا على أنّها ابنة خائن، عميل، حركي، تتعدد الألقاب ومعناها واحد. جنونها واحد. والمّلَقّبُ بها كثيرون ليست لهم نهاية واحدة.

تردّدت فيما سأكتب ومن أين سأبدأ.

هل أكتب؟

"وطن عشقناه صغارا وسعينا لتشريفه كبارا رمانا أبناؤه بالحجارة لجرائم ما كنّا نحن مرتكبيها وإنّما آباؤنا الذين خانوا الوطن فخانهم القدر."

أم أسجّل؟

"أبي الذي افتخرت لبضع سنوات أنّه مجاهد كان قد قام بإحراق مخبأ للمجاهدين إثباتا لولائه لفرنسا وتلبية لرغبة أعماقه الشرّيرة."

من أين سأبدأ؟ أمن يوم مولدي الذي صادف انعقاد ايفيان الأولى؟ أم من فجيعة أمي ووصمة العار التي طُبعت على جبيني تاريخ الإعلان عن مفاوضات ايفيان الثانية؟

وُلدت بين ايفيانيتين ومت بين امرأتين. الأولى أمي التي رحلت مرضا، والثانية معلّمتي التي ظننتها يوما أمي. أترك تاريخ ميلادي جانبا فلم "يكن ذلك مهما". قالتها أمي عندما كنت صغيرا ثمّ أضافت: "فكّرت كثيرا في قتلك."

سألتها: "لماذا؟"

أجابتني باكية: "لكيلا تدفع خطيئة والدك."

هل كانت تنوي قتلي حقا؟ أم أنّه كلام وُلد من رحم الحزن والخيبة؟ ماذا لو قلتُ لها إني أريد أن أعيش. ابحثي عن حلّ آخر؟ قد يبدو ذلك غريبا ولأنّه غير منطقيّ أنا أتعلّق به. أريد أن أعيش لأنّ الله قرّر ذلك وليس لأحد أن يسلبني ذلك الحق ما دام مدبّر الشؤون قد قضى ما قضى.

لا يهم.

سأكتب عن البداية الحقيقية لشقائي مع ذكرى والد لا أعتزّ بانتمائي إليه ولا أجيب عن مكالماته إلاّ من باب "وبالوالدين إحسان". فلا أحد على هذه المعمورة يستحقّ أن ننال غضب الرّبّ لأجله.

* * *

كان الوقت ليلا ساكنا جرحته أمي ببكائها عندما سألتها أن تحدّثني عن اللحظات الأخيرة التي رحل فيها أبي المجاهد عن الجزائر مُكرها. بين قوسين ضيّقين جدا. لم أكن أعلما وقتها أنّه كان حركيا.

التفتت إلي: "ما زلت صغيرا لتفهم."

ضغطتُ عليها بعنادي وإصراري فخضعت.

ودون رغبة، تربّعت المرأة على الضفّة الأخرى للذكرى تستحضر أحداث رواية تعدّدت فصولها واختلف أبطالها بين ملائكة وشياطين. ظالمين ومظلومين. لم تقلّب الصّفحات كثيرا. كان ذلك بطلب مني، ولأنّ كثرة التّقليب تعني الغرق في بحر الدّموع ومستنقع التجريم الذي يوازيه التّكفير.

تبدأ في سرد أحداث كانت بداية نفيي من عالم الكيان وتقول: "كان يومها التاسع عشر من شهر مارس اثنان وستون تسع مئة وألف. تاريخ إعلان وقف إطلاق النار بعد مفاوضات امتدّت من السّابع إلى الثّامن عشر من ذاك الشّهر من ذات العام."

استيقظ والدك على صوتي أقول له: "انهض يا حميد لقد أعلنوا عن نتائج مفاوضات ايفيان الثانية. هيا انهض."

وقف مرتبكا. "ما الجديد؟"

كانت الغبطة التي تملأ قلبي كافية لجعلي أتغاضى عن موقفه تجاه شيء كان في صالحه أو بالأحرى شيء ظننته في صالحه.

أجبته بعد زغرودة طويلة: "أعلنوا عن وقف إطلاق النّار وسيجرون أيضا استفتاء لتقرير المصير."

ارتجف جسده، اصفرّ وجهه وسألني بالفرنسية على غير العادة: "Mais…mais comment?"(ولكن، ولكن كيف؟)

اقتربتُ منه: "نصرنا الله."

تأفّف وحطّم مزهرية كانت تتوسّط الطاولة المستديرة ثمّ اقترب مني: "اقتصادنا محطّم، ليس لنا مستقبل هنا. سنسافر إلى فرنسا."

اتجهت نحوك والتفتُ إليه: "إذا كان لا بدَّ من الرّحيل فسترحل أنت. أنا وابني سنظلّ هنا."

بعد وقت قصير خرج من الغرفة مسرعا حاملا حقيبته ومتوجها نحو الباب.

قبل أن يخرج قال لي: "أعدك أني سأرجع."

كان يجب أن أرفض رغم مفاتن فرنسا التي يسيل لها اللّعاب ويذوب أمامها شمع الفقر المصنوع أحيانا من الطّمع.

وجدتُ أنّه من غير المنطقيّ أن أفوّت فرصة رؤية فرنسا تحمل أشلاءها وتغادر الجزائر بعد أن كانت ضيفا ثقيلا اضطررنا إلى طرده من على أراضينا. ثم إنّي لم أكن أثق في كون والدك من منظّمة عسكرية اسمها جيش التّحرير الوطني.

ظننت أنّه حركي ولكني تردّدت في توجيه التهمة إليه والتّحريض على قتله. فلا أصعب من اتهام شخص بالخيانة.

يؤكّد ظني مجموعة سيدي خميسي عندما نادت على نغم واحد: "اخرج يا الكلب. اخرج يا الخنزير ونعتلينا وش تقدر تخدم بلا فرانسا. اخرج."

خرجتُ إليهم بخطى متثاقلة والدّمع يسقي وجنتي: "لقد، لقد، لقد هرب. هرب إلى فرنسا."

نظر الرّجل إلى مجموعته وقال: "فتشوا البيت."

ثمّ التفت إلي: "آسف، إنّه القانون."

قلتُ له: "لا داعي لذلك. هذا واجبك."

ابتسم يبغي التخفيف من وقع الصّدمة علي: "الجميع يثق فيك يا فاطمة ويعلم أنّك رفضت الزّواج من أجل الوطن. كلنا نعلم أنّ الجبل كان بيتك والسّلاح رفيقك."

ضحكتُ دون رغبة: "وعندما اقتنعت بالزواج وأنا ابنة الثّلاثين فجاءني القدر بهذه المصيبة. "

زاد بكاؤها رغم مضيّ السّنين والأشهر عن تلك الحادثة.

"من الممكن أن يغفر المجاهد كلّ شيء ما عدا الخيانة."

تقولها ثم تقبّلني.

كان صعبا عليَّ أن أتقبّل ذلك وكان صعبا أيضا أن أنام بعد أن جعلتها تذرف الدّمع لذكرى سوداء طبعت تفاصيلها في دفتر حياته. اقتربتُ منها طالبا أن تحدّثني عن حياتها في الجبل ففعلت دون تردّد.

حدّثتني عن أزمة حركة انتصار الحرّيات الديمقراطية التي اندلعت ذات اجتماع في الصّيف عام ثلاث وخمسين تسع مئة وألف كان سببها اختلاف المصاليين المنحازين لأحمد مصالي الحاج والمركزيين الشباب حول موعد اندلاع الثّورة وحكت لي أيضا كيف أنّ أعضاء المنظّمة الخاصة –السرّية" التي تأسّست عام سبعة وأربعين تسع مئة وألف سارعوا إلى تقييد الخلاف والتعجيل باندلاع الحرب التّحريرية.

الأهمّ الذي شدّ انتباهي فيما روت اتصالات حدثت في أكتوبر عام أربع وخمسين التي تم الإعلان فيها عن جيش التّحرير الوطني كجناح عسكري وجبهة التّحرير والوطني كجناح سياسي وبقت الأولوية للعمل السياسي على العمل العسكري تجنّبا لمزيد من سفك الدّماء.

كلّ هذا ويقول لي أبي في أحد الاتصالات أن جبهة التّحرير الوطني كانت منظّمة إرهابية لا غير. إذا كان المدافع عن أرضه إرهابيا فبماذا يلقّب مغتصبو الأراضي؟ لم أصدّقه ولن أصّدقه فذلك غير منطقي وشهادة فرنسا دليلي. بحيث تقول جريدة لوموند عن تلك الجبهة العظيمة:

"لقد فرضت جبهة التّحرير الوطني على العالم رمزا هو (FLN) ويُعدُّ أكثر فعالية في وقتنا الحاضر، إنّه رمز رهيب ومريع في الحرب، منظّم وخارق للعادة في الكفاح المسلّح، رابط عضويّ جبّار في أجهزة الإعلام لمجموعات الفدائيين وقوّات المقاومة، حازمٌ في إبراز الحرب الجزائرية على المستوى العالمي."

قالت لي زوجة عمي في إحدى المرّات: "عندما تأتيك شهادة نجاح من عدوّك ارفع رأسك دون تردّد، لا تخجل وقل باعتزاز: أنا جزائري."

نعم، أقولها بكل فخر: "أعـشـق الـجــزائــر وأمــوت فــي هــواهـا كــأغـلــب أبـنــائـهـا. الجزائر لن تكون في يوم Je suis algérien… (أنا جزائري)"

من الأيّام لغير الجزائريين وسنكون بإذن الله دوما "أسياد أنفسنا" ولا أظنّ أنّ هذا العشق سينتهي مع انتهاء جيل الثّورة بل أظنّه سيكبر لأنّ التاريخ أصبح يتحدّث بصراحة أكبر.

الجزائر ستبقى في قلب كلّ جزائري ومن له رأي غير هذا أقترح عليه العودة إلى الأساطير القديمة ولينظر أيّها تحقّق.

تقبّلني أمي قبلة أيبستها الأيام: "نم يا حبيبي، غدا لديك دراسة. ما زلت صغيرا لتفهم كلّ حرف قلته لك."

قبّلتها: "تصبحين على خير."

* * *

لا، لم أكن صغيرا يا أمي. كان من السّهل جدا أن أفهم معنى الخيانة فبقاياها أدفعها أنا عندما أشارك أصدقائي اللّعب وآكل طعامها المحترق عندما أختلي بذاتي المنهارة. صحيح أنّهم لم يخبروني بالحقيقة قبلكK لكنهم كان يوحون إليّ بأنّ شيئا ما يجعلهم يفضّلون الابتعاد عني وأظنّ أنّ ذلك من حقّهم. آباؤهم عُذبوا بشرف، وقفوا بشرف، استشهدوا على أرض الوطن. أبي عَذَبَ، قتل، ويعيش في الذلّ بعيدا عن أرض الوطن.

قلت لي ذات مرّة: "يكفيك فخرا أنّ أمّك مجاهدة."

أقول لك: أبدا لن يكفي ذلك يا أمّي وإلاّ لماذا رفضت الذّهاب بفستانك الأبيض عندما وضعتُ عليه نقطة سوداء صغيرة؟

طبعا لأنّ الجميع سينتبه إليها وتظنين أنّك مسخرة.

أنا أيضا في ذات الموقف. على صفحة حياتي البيضاء وضع أبي نقطته السّوداء. لم يكتف بذلك بل سماها:

"ابن الحركي."

هل أغيّر والدي مثلما غيّرت فستانك؟

كيف ذلك؟

* * *

ربّيتني على حبّ الدين والوطن فعملت بمقولة "عدوّ صديقي عدوي". كيف؟ كرهت أبي قبل رؤيته وكرهتُ كلّ رجل يصلني خبر من أنداده أنّه كان حركيا وتاب، في ذات الوقت أشفق على أبنائهم الذين أنتمي إليهم. لماذا يدفعون خطأ آبائهم وقد أعلنوا مسبقا عن تطوّعهم لحماية أراضي مصر؟ أحيانا تجد البعض يُلقبُ بابن الحركي ووالده يدعى "سي فلان". أليس هذا ظلما وتناقضا؟

في وقت سابق كان الحلم مشتركا، الألم متقاسما واليوم كلّ شيء منقسم. وفي وقت سابق أيضا كان الجميع يبدي رأيه بصراحة تجاه أيّ موقف من المواقف أمّا اليوم فلا. كلّهم متردّدون وبعضهم منقسم في إعلان رفضهم لما يسمى الحركي وإعلان استعدادهم لمساعدة أبنائهم من أجل الاندماج وتجاوز الصّدمة.

أظنّ أنّ هذا يجعلهم متواطئين معهم تحت ستار الأُخوة و"اللي فات مات".

لماذا لا يذهبون إلى فرنسا ولتطعمهم ما يريدون ولتلبسهم ما يشتهون؟ ألم يعيشوا معها قبلا شيئا اسمه "الدّلع"؟

آه، للأسف هي أيضا لن تقبلهم ولو كنت مكانها لفعلتُ الشيء ذاته فمن الخطأ أن تُدخل الجواسيس إلى أرضها لأنّهم قد ينقلبون عليها إذا أخطأت في حقهم دون قصد ولهذا أنا من رأيها ولكنتُ قلتُ لهم "ضربة يديك ما توجعكش ". مصلحة الدّولة فوق كلّ شيء. أظنّهم يشكّلون عليها خطرا أكثر من الإسلام. هذا إن كان الإسلام يشكّل خطرا.

= = =

الرّفض في الجزائر كان شعارا قبل أن يكون موقفا وربّما كان عادة جزائرية بامتياز.

الرّفض ذات يوم كان الأكلة المفضّلة وما زال ليومنا هذا.

للأسف لم يوجّهوه ضدّ الحركيين بل ضدّ أبنائهم.

* * *

كنت في سنّ الثانية عشر عندما فارقت أمي الحياة وفي الخامسة عشر عندما حدث فجأة وناديت معلّمتي "أمي". كانت تشرح الدّرس عندما قلتُ لها ذلك. ضحك بعض التّلاميذ وتأسّف البعض الآخر. ربّما كان السّبب أنّ الأمر لم يكن مسطّرا لحدوثه من قبل.

الأشياء التي تحدث فجأة يكون لها وقعها الخاص بين الأطفال خاصّة الأمر الذي وقع معي. أحسست بجسمي ترتفع حرارته والدّموع تصارع لتنهمر، انقدني منهم الجرس عندما دقّ.

اقتربت مني الأستاذة وكانت تحمل جنسية فلسطينية: "محمّد. سعيدة جدا لأنّك ناديتني أمي."

لم أنطق بكلمة، قالت: "أعلم كم هو صعب أن يفارق برعم صغير أمه وكيف يعاني عندما يواجه حقيقة والده لكن لا أظنّ أنه من حقك ظلم نفسك التي لها عليك حقا، الحياة جميلة بقسوتها."

أردت الابتعاد عن شيء اسمه الحزن فدخلتُ معها في نقاش لم أكن أتوقع حدوثه.

سألتها: "هل صحيح أنّك فلسطينية؟"

أجابت: "نعم، وأنا من نابلس. هل تعرفها؟"

قلتُ لها: "نحن لا نملك تلفازا في بيتنا فقط مذياع عتيق وكتب تاريخية يرفض عمي أن يلمسها غيره."

سألتني: "علمت أن أصلك ليس من هنا فهلاّ أخبرتني من أين أنت بالضبط؟"

"أنا من منطقة تدعى سوق أهراس."

ابتسمت: "الاسم غريب نوعا ما."

"تعني بالأمازيغية سوق الأسود."

"هل تحبّها؟"

أخذتُ نفسا عميقا: "كثيرا وأنا أنتظر العطلة لأذهب إليها وأنت؟ أكيد أنّك تحبين نابلس ولكن لماذا تركتها؟ ألا توجد بها مدارس؟"

طأطأت رأسها: "لو لم أكن هنا لما كنتَ درستَ العربية."

وقفتُ من مكاني غاضبا بعد إحساسي بأن المرأة تريد استفزاز مشاعري: "شكرا على كلّ شيء ولكننا ندفع حقّ ذلك أم أنني مخطئ؟ لو لم تكوني هنا لكان غيرك." ثمّ اتجهتُ نحو الباب مسرعا.

أمسكت ذراعي: "صغيري أنا لم أقصد شيئا بما قلت."

ألتفتُّ إليها: "آسف."

ضمّتني إلى حضنها باكية: "صغيري أنا حقا لم أقصد شيئا".

ابتعدت عني قليلا: "شكرا على كل شيء ولكننا ندفع حق ذلك أم أنني مخطئ؟ لو لم تكوني هنا لكان غيرك. عبارة رائعة عليك استعمالها مع كلّ من يحاول استفزازك. أنت محق فأنا شخصيا لم أسمع بأستاذ من جنسية عربية يعمل هنا دون أجر من أجل إحياء هذه اللغة، كلّهم يتقاضون أجرا. أليس كذلك؟"

"بلى."

ضحكتها، حنانها وطريقة كلامها. تتفهّمني وتنصحني كأمي، ذاك ما جعلني أتعلّق بها أكثر. تطوّرت علاقتنا إلى أن صرت أناديها أمي دون عقدة والسّبب في ذلك احترامها لوضعيتي الاجتماعية إذ أنها لم تكن تتحاشى السير معي في شوارع عنابة رغم مظهري الوسخ وأسمالي البالية. اشترت لي في أحد الأعياد ملابس جديدة اعتذر عمي عن قبولها تعفّفا وليس تكبّرا.

قال لها: "نعم أنا فقير ولا أوفر لابن أخي اللّباس الكافي ولكن سأكافح لتحسين وضعيتنا عما قريب دون اللّجوء لأحد ثم إني غادرت سوق أهراس لأجله."

نظرت له زوجته مبتسمة ثم اصطحبتني إلى الغرفة وقالت: "محمّد وليدي نوصيك. ما تهبطش نيفك لحتى واحد."

هل في منظور الجزائريين تعتبر الهدية تنازلا عن "النيف" والصّدقة احتقار؟ لا ألومهم، سياسة الاستعمار علّمتهم ذلك: "لا ثقة في الغريب." يقول مصالي الحاج مؤسس حزب نجم شمال إفريقيا لفرحات عبّاس مؤسس حزب فيدرالية المنتخبين الجزائريين الداعي للاندماج مع فرنسا شرط التساوي في الحقوق والواجبات:

"أنا لا أثق بتاتا في فرنسا، فرنسا لن تعطيك شيئا. هي لا تنقاد إلاّ للقوّة ولن تعطي إلاّ ما ننتزعه منها."

ليته قال ذاك الكلام لأبي.

عادة ما يرفض الجزائريون أن يشفق عليهم أحد خاصّة إذا كان غريبا، يعتبرون ذلك خطوة أولى ليكون سيّدهم وذلك مرفوض تماما وقالها المجاهد المغتال عام اثنين وتسعين تسع مئة وألف محمّد بوضياف: "هذه المرّة سنكون أسياد أنفسنا."

الجزائر كادت تضيع منا مرّة ولا يجب أن تكون هناك مغامرة ثانية. من غير العدل أن نقامر بالوطن. الجزائر أمانة وعلى المؤتمن أن يحفظها لكن دون تشكيك في الغريب أو تجريمه، قد يكون من المستحسن أن نتعامل معه بحذر ليس إلاّ.

وهبتني تلك الفلسطينية أمومة فارقتني صغيرا، ومنحتني سعادة حُسدتُ عليها كثيرا. لاموني عندما قلت لهم إني أنوي الابتعاد عنها كون الحياة رفقتها أصبحت تتطلّب مني مغادرة الجزائر بعد عامين وسخروا عندما قلت لهم إني لا أقوى على فراق ثان. ما الذي يرضيهم؟

تقول لي: "إرضاء الناس غاية لا تدرك."

أقول لها: "وهل إرضاء النّفس أيضا غاية لا تُدرك أيضا؟ "

تركتني وانصرفت.

استأذنت عمي أن أسافر مع المرأة الأم إلى سوريا فرفض، خضعت له دون نقاش، فقد كنت أعلم مدى تعلّقه بي رغم أنّ له ثمانية من البنات وولدين. كان يحبّني لأني أشبهه كثيرا وحبّ المطالعة كان قاسمنا المشترك.

قال لي: "تريد الذهاب معها لأنها ستطعمك؟ هل تطعم فرنسا والدك الحركي الآن؟ إن كانت الجزائر قد خسرت والدك فإنّه لا يحقّ لها أن تخسرك أنت. إنّها تعرف مدى إخلاصك وتعطّشك لخدمتها، صغيري، إنّ الإيمان بأنّ الاعتماد على النّفس شرط أساسي في أيّ تنظيم."

كان كثير الحبّ وشديد الإعجاب بالشهيد زيغود يوسف وما قاله كان لذاك البطل حين قال بعد اندلاع أزمة حركة انتصار الحرّيات الديمقراطية:

"لئن خسرنا مصالي فإنّه لا يحقّ لنا أن نخسر المناضلين الذين انحازوا إليه، فإنّي أعرف مدى إخلاصهم وتعطّشهم للعمل الثّوري"

هل يحق لعمي أن يذكر اسم أبي مكان مصالي واسمي مكان أتباعه؟

أحمد مصالي الحاج من عائلة بسيطة تدمّر من السياسة الكولونيالية في الجزائر فدخل المعترك السياسي لأجل الوطن مرورا بنجم شمال إفريقيا والحزب الشيوعي الفرنسي إلى حزب الشّعب وحركة انتصار الحرّيات الديمقراطية. كان شخصية كاريزمية امتدّت إلى عامّة الناس والفقراء في الجزائر، وطني متشدّد عانى من السّجون والإقامة الجبرية. محبّ للزعامة وسجين هذا الشّعور. أبي خرّيج مدرسة فرنسية، كره الكرامة واعتنق الذلّ دينا وبقي سجينا له. هل يستويان؟

آسف عمي أخطأت. أبي خائن ومن العيب أن تشبّهه بمناضل. أبي ممن قال عنهم فرانس منديس رئيس الحكومة الفرنسية في ذاك الوقت "هناك مواطنون شنوا حربا على وطنهم لكن الشعب لم يتبعهم." أبي شنّ حربا ضدّ الجزائر وأنت تقول إنّها خسرته.

أقول لك: "تخلّصت منه، الجزائر ارتاحت من "فيروس" اسمه "حميد" رجل كان ذات يوم أخاك."

أخطأت حقا. لمحتُ على وجهه صفرة اليأس. اقتربتُ منه: "عمي قرار رحيلي لم يكن جديا."

ابتسم: "حتى إن كان جديا فهو من حقّك. لماذا قد تفضّل العيش مع رجل فقير؟"

دخلت زوجته: "أنت ترفض تقديم وثيقة تثبت أنّك مجاهد ووالداك شهيدان على الأقل كنت ستوفّر قليلا من المال."

نظر إليها: "أرفض أن يكون حبي لبلدي وثيقة تُستخرج كلّ ثلاثة أشهر أمام مكتب المنح."

ضربت بكفّها اليمنى سطح يدها اليسرى: "الرّاس لخشين هذا ما نعرف مين جبتيه."

وقف غاضبا: "من عند باباك. قتلك ما تزيديش تهدري على هاذ الموضوع خير ليك."

رجعتْ خطوتين إلى الوراء: "هدرت حصلت."

كان عمي غليظا عندما يغضب، وجد حنون لمّا يرى خالتي سكينة تبكي، لكنّ مشكلته الوحيدة أنّه لا يعرف كيف يطيّبُ خاطرها فحياته رفقة السّلاح علّمته كتم المشاعر.

لبس لبسته الشاوية وقبل أن يخرج قال لها: "جهّزي نفسك والبنات سأصطحبكن في نزهة."

مسحت دموعها: "والأولاد؟ ألن يذهبوا؟"

ابتسم: "لا داعي، حياتهم كلّها نزهة."

كان محبّا للبنات كثيرا. رافضا للمعتقدات السائدة بين المجتمعات بأنّ المرأة خُلقت للمطبخ وأن تكون عبدة لإخوتها الذّكور. أذكر أنّه في أحد المرّات قام علي بضرب أخته الصّغرى زينب لأنّها لم تغسل ثيابه، فقام عمي بطرده من المنزل ثلاثة أيام حتى قبّلت البنت يده ورجته أن يرجع أخاها إلى البيت وإلاّ ستفقد حياتها دونه.

قال لها في ذاك اليوم على مرأى مني: "يهون عليَّ كل شيء إلاّ فراقك يا غزالتي."

كان دوما يدعوها غزالتي ولكلّ واحدة منهن لقب. كان يناديني "سي محمّد" وعندما يضيف أحدهم على اسمك كلمة "سي" يعني أنّك إنسان جد محترم ولك مكانتك.

سألتُ زوجته: "خالتي سكينة لماذا الجميع هنا له تاريخ مشرّف في الثّورة إلاّ أنا؟"

سكتت ونظرت إلى الأرض ثمّ قالت: "دعك من هذه الأسئلة يا صغيري. هناك أشياء لا يجب أن نقيم لها وزنا في حياتنا. ثم أنت لم تخبرني لماذا أردت الذهاب مع تلك الأستاذة إلى سورية؟"

أجبتها مباشرة: "أبحث عن أمي."

كانت جدّ حسّاسة ولذلك كان عمي يتجنّب الدّخول معها في مناقشات يعلم أنّ نهايتها ستكون ببكائها. انهمرت العبرات على وجنتيها: "ألست أنا أمّك؟"

أجبتها: "بلى يا خالتي. بلى."

"إذن لماذا تناديني خالتي وتفضّل الذهاب معه؟"

"خالتي كان هذا مجرّد كلام ليس إلاّ."

ضمتني إلى حضنها: "عدني أنّك لن تتركني."

* * *

تعلم الأستاذة من زميلي علي أني لن أرافقها إلى سوريا فتزور بيتنا وتقول لي بعد تحية باردة: "صغيري، كان على أحدنا أن يتنازل للآخر ولهذا سأكون أنا المتنازلة اليوم. سأظل هنا."

اجتاحتني فرحة كبيرة. المرأة تعجز عن تركي وتعلم كم سأكون حزينا لفراقها.

ابتسمت خالتي سكينة: "الولد جد متعلّق بك ولو لم تقدمي على هذا القرار لجُنَّ جنونه وهذا ما لن أتحمّله."

قبّلتني: "صراحة لم يكن الأمر من أجل محمّد بل. . لأنني أصبحت مخطوبة لجزائري ورأيت أنّه لا داعي للسفر. الجزائر هي فلسطين الثانية والعيش هنا شرف لي."

أخذتْ خالتي نفس عميقا: "كلشي مبروك."

دخلت مريم أكبر بنات عمي ووضعت صينية القهوة: "تفضّلي."

أشبعت عينيها بالنظر إليها ثمّ قالت مبتسمة: "شكرا لك، تشبهين أمي كثيرا."

ضمّتها إلى حضنها وبدأت بالبكاء: "تشبهينها كثيرا."

هل تبحث الأستاذة أيضا عن أمّها؟ هل ستتعلّق بمريم لأنّها تذكّرها بأمّها مثلما تذكّرني هي بأمي؟ وهل ستكون لي فرصة لمكالمتها بعد الزّواج؟ لم أكن أحبّها كأستاذة أو أم. كنت متعلّقا بها كملامح امرأة هجرتني صغيرا ليس إلاّ. حفل زفافها يقترب والجيب عاجز عن توفير دينار من أجل هديّة أقدّمها لها في فرحة قد لا تتكرّر وعمي المسكين منشغل بمزرعته في أحد قرى سوق أهراس.

"ماذا سأفعل؟"

أجابتني خالتي سكينة: "اسأل البنات، أنا لا أهتم بهذه الأشياء."

سألت جميلة فقالت: "سأنسج لها من الصّوف شيئا وأنت تكتب لها رسالة تعبّر فيها عن سعادتك لأجلها وإن أردت سأساعدك في كتابتها."

"شيء رائع ولكن هذه هدايا تقدّمها النّساء."

قالها مروان الابن الأصغر لعمي ثمّ خرج من البيت.

دخل عمي: "ما بكم؟"

أجابته زوجته: "محمّد يريد أن يهدي شيئا لأستاذته بمناسبة زواجها."

اقترب مني: "يا سي محمّد. أنت كتبت أشعارا وقصصا بالعربية قبل الآن، لماذا لا تجمعها في دفتر وتقدّمها لها في غلاف منسوج من الصّوف بيد جميلة؟"

"فكرة رائعة."

حملت قلما وبدأت في نقل كل ما كتبته قبلا من قصص وخواطر على الدّفتر. استغرق ذلك مدة أسبوعين بسبب الامتحانات وكثرة الوظائف. كانت كلّ كلمة كتبتها معرّبة عروبة بن باديس وظننتني أوّل معرّب في الجزائر يدوّن كلمات يعزف حروفها الفرح، الحب وأيضا شيئا اسمه الألم.

ستفرح عندما ترى مجموعتي المعنونة بــ"منسيون" ستفتخر وتقول: "أنظروا ماذا جنيت من اجتهادي في العمل."

على الأقلّ ذلك ما كنت أظن. كان يومها السابع والعشرون من شهر أكتوبر عام سبعة وسبعين. دخلت القسم مبتهجا على غير العادة وكثير الحركة.

سألتني: "محمّد، أراك سعيدا، ما جديدك؟"

أجبتها: "سعيد جدا لأني سأقدّم لك هدية."

خُيّلَ إليّ أنها سعيدة رغم أن البسمة لم تجد مكانا على شفتيها، أرجعتُ ذلك لإرهاقها.

"أستاذة، تفضّلي: هذه مجموعة أشعار وقصص معرّبة أهديك إياها بمناسبة حفل زفافك."

أخذتْ الدّفتر مني وفتحته ببطء متعمّد ثمّ راحت تقرأ بصوت عال الأسطر الأولى من قصّة كان عنوانها "الجزائر: أسطورتي الخالدة":

"لا يهمّ أن أغتالك برصاصة أو نظرة. المهم أن أغتالك."

ظننتها بعد القراءة ستطلب من التلاميذ أن يصفّقوا لكنها لم تفعل بل رمت القّصة كأنّما ترمي تهمة ألصقتها بها.

قالت: "محمّد ما هذا الهراء؟ لم كلّ هذه العدوانية في الكتابة؟ هل ربيتك على هذا؟"

أجبتها: "لا ولكن أنت لم تكملي القراءة لتحكمي على ما كتبت."

ضحكت باستهزاء: "ليس لديَّ وقت لتفاهاتك."

دخل الأستاذ "دافيس" وهو من جنسية فرنسية إلى القسم وقال لها بعربيّة متقنة: "وهل ربّاك أهلك على رمي الهدايا؟ من تظنين نفسك لتهيني تلميذا أمام أصدقائه؟"

أجابته: "آسفة ولكن ..."

حمل قصّتي من على الأرض ثم التفت إليها: "ستندمين."

ركضتُ نحوه فضمّني إلى حضنه واصطحبني بسيّارته نحو شاطئ البحر. اشترى لي في طريقنا بعض الحلوى علها تسكتُ حزني وخيبتي، وضع يده على كتفي ونظر إلى البحر:

"لماذا تبكي؟"

أجبته: "لاحظت أنّ معاملتها تغيّرت منذ أشهر ولكن ليس لهذا الحد. قد تكون فعلت ذلك لأنّ أبي حركي."

ثمّ وقفتُ صارخا: "أكره أبي. أكرهه."

أعادني على هيئتي الأولى وقال مبتسما:

"محمّد بإمكانك اختيار أصدقائك ولكن لا يمكنك اختيار أهلك. إنّهم مفروضون عليك."

"ما العمل؟"

يبتسم: "أن تواجه. قل لهم نعم أنا ابن حركي ولكني لستُ حركيا، مثلما أنتم أبناء شهداء ولكن لستم شهداء مثلما تنتمي فاطمة لعائلة النبي وليست نبيا."

"عليه الصّلاة والسّلام. أستاذ، هل أنت مسلم؟"

ابتسم: "ربّما، ما زلت أحاول الاقتناع بهذا الدين؟"

بفضول: "إلى أين وصلت؟"

يجيب: "وصلت إلى أنّ غالبية المسلمين لا يمثّلون الإسلام، إذ أسلمتُ فليس من أخلاق المسلمين وإنّما من أخلاق خاتم المرسلين."

وصادفني على صفحات جريدة جزائرية أنّ أجنبيا قد أسلم قال: "الحمد لله أني عرفتُ الإسلام قبل أن أعرف المسلمين."

ألهذا الحدّ شوّهنا الدين وصورته لدى الغرب؟ ألهذا الحدّ خنّا وفاء النبي صلى الله عليه وسلم لنا ورحنا نرقص ونقامر؟ إلى أين نريد أن نصل؟ إلى ذلّ لم يرغب الدين أن نصل إليه أم إلى شيء آخر أكثر عهرا؟

تبا لنا! ما أغبانا! وما أوقحنا! ثم نقول بسفالة: "لماذا يحتقرنا الغرب؟"

"لأنّنا الأقزام والجهلة."

هم لا يحبّون الخونة ومستواهم عال بكثير على أن يقيموا لنا وزنا. تماما مثلما لا يحبّون والدي وأمثاله في فرنسا.

قال لي أبي ذات مرّة عندما حدّثته عبر الهاتف: "سامحني يا بني، فرنسا هي التي خانتكم وليس أنا. محمّد إنّهم يقيمون وزنا لمن قتلوا جنودا فرنسيين ولا يقيمون لنا وزنا نحن من ساعدناهم وقبلنا وجودهم على أرضنا."

قلتُ له: "معهم حق. فمن خان دينه لا خير فيه ومن يحرّض على عرض وشرف ابنة بلاده أيضا لا خير فيه."

"لكن جبهة التحرير أيضا مجرمة."

"لا تقل هذا الكلام رجاء. جبهة التحرير أشرف مما تظنُّ أنت وأتباعك."

بعنادنا وتباهينا باللاشيء أصبحنا مسخرة الغرب ونكتهم في لحظات الفراغ. شكرا لهم. عليهم أن يواصلوا نبذنا فلعلّنا نستفيق وترجع المرأة لحجابها والرّجل إلى وعيه.

يفتح الأستاذ دفتري ويقول لي: "أحسّ أنّك ستكون أديبا كبيرا، ملامحك تقول هذا. سأقرأ ما كتبتَ وأعطيك إياه غدا."

أرجع إليَّ الدّفتر بعد أسبوع كامل. سألته: "أستاذ، لماذا كلّ هذه المدة في القراءة؟ كان من الممكن أن تقرأه في ليلة أو ليلتين."

ابتسم: "اسمع يا صغيري هناك شيء اسمه فن القراءة، أي عندما تقرأ يجب أن يكون ذهنك صافيا ونقيا من كلّ شيء، ويجب أن تجلس جلسة مريحة لا تعكّر صفو مزاجك عندما تتعمّق في تفاصيل ما تقرأ. ثمّ إنّ للكاتب عليك حقا في أن تفهم مغزى ما يكتب وتعرف ماذا يقصد بكلّ كلمة كتبها. القراءة يا صغيري فنّ تمنيت لو أنّهم جعلوا له مكانا في الوطن العربي ولكن للأسف ليس هناك قُرّاء."

نظرتُ إليه: "ولكني لست أديبا لتقرأ ما كتبتُ بتأن."

"أنتَ لست أديبا ولكن ما كتبتَ كلمات تريد أن تصل إلى الذّهن. الكلمة أيضا لها علينا حق. أوَ لسنا نحي ونميتُ أناسا بكلمة؟"

"القراءة يا صغيري فنّ تمنيت لو أنّهم جعلوا له مكانا في الوطن العربيّ ولكن للأسف ليس هناك قرّاء."

لو قلت لي هذا الآن لقلتُ لك:

"عذرا أستاذي هنا لا أوافقك الرّأي. نحن في الوطن العربيّ نملك قرّاء يتأثّرون بما يقرؤون حدّ البكاء والجنون. قد تسألني ولماذا إذن نسبة القراءة غير مرتفعة؟ أجيبك أنّ نسبة الكُتاب الحقيقيين هي القليلة. لن أتحدّث عن العرب بصفة عامّة وإنّما سأتحدّث عن الجزائريين كوني منهم ولي عقليتهم.

"الجزائريّ إنسان مرّ بأصعب المواقف وإنّ الأغلبية فيهم قد عاشوا أصعب مراحل العمر من الحرب التّحريرية التي فقدوا فيها أحبابهم وبعض أعضائهم إلى تأزّم الأوضاع السّياسية التي كان أبرزها العشرية السّوداء التي سوّدت وجه الوطن وجعلت أبناءه يفرّون مجبرين إلى الخارج هم الذين عاشوا فيه أشدّ اللّحظات مأساوية منذ حرب التحرير وحظّ أغلبية من لم يسافروا إلى الخارج أن جُنوا وأصبحوا جسدا بلا روح وآخرون قُطّعت جثثهم إلى أجزاء مترامية هنا وهناك يراها أهلهم وكلّ أبناءهم أمّا النساء فقد نلن النّصيب الأكبر من الألم.

"أجبني أستاذي. كيف لإنسان غلّف جسده الدّم وقلبه الألم أن يقرأ قصصا تافهة تحدّثه عن رجل أحبّ امرأة وقطع أذنه لأجلها؟ كيف له أن يقرأ قصصا مفرحة عن أوطان أخرى وهو ما زال يعيش على وقع الصّدمة؟

عذرا، الخطأ ليس خطأ القارئ الجزائري كما يدّعي البعض إنّما هو خطأ الكُتاب الذي لم يعرفوا طريقة يساعدون بها.

المواطن على تجاوز الصّدمة التي جعلته عصبيا ومن ثَمّ تدويخه بروائع ما يكتبون ثمّ ما الذي يدعو الجزائري لقراءة القصص وحياته فيلم لو وجد طريقه للتجسيد لفاز بأرقى الجوائز المخصّصة للأفلام الدّامعة الممزّقة للقلوب.

إن أرادوا القول بأنّ الجزائريين يعادون شخصهم كأدباء أقول لهم أنا أنظروا أنتم ما تكتبون. (...). النّقاط ما بين قوسين تعبّر عن انحطاط ما يخطّون وتفاهة ما هم عليه يتنافسون، الأمر الذي جعل الشّعب ينبذهم ولا يؤمن بوجودهم. تماما مثلما لم تؤمن بعض الصّحف الجزائرية بوجودي في أوّل ظهور لي كأديب معرّب فقد عنونت أحد الجرائد مقالها عني بـ"ابن الحركي يريد تعليمنا درسا في الوطنية من روايته الأولى" وصحافيّ حاورني مجبرا قال لي على هامش الحوار: "رجاء لا تقل الوطن. أنت تُعهّرُ هذه الكلمة."

سألته: "أليست الجزائر وطني أنا أيضا؟"

قال لي: "وطنك هو L’Algérie française (الجزائر الفرنسية) التي انقضى عهدها عام اثنين وستين. أمّا الآن فهو عهد الجزائر المستقلّة. ألم يخبرك والدك بهذا؟ نحن يا صديقي في عهد الجزائر الجزائرية، آسف لكنها الحقيقة."

قلتُ له: "هل على الأبناء أن يدفعوا ثمن أخطاء آبائهم؟"

ضحك باستهزاء: "ربّما، نعم. في الجزائر كلّ شيء ممكن."

سكت قليلا ثمّ سألني: "أتعرف أنّي فقدتُ والداي بسبب رجال مثل والدك؟"

أجبته بسؤال: "أتعرف أني فقدتُ أمي بسبب والدي؟ إنّكم تظلمونني بتفاهة طريقة تفكيركم."

كان صعبا جدا أن أواصل العيش في مجتمع لا يؤمن بوجودي ولا أؤمن بطريقة تفكيره، إنّهم يجرّمون البريء ويصوّبون نحوه رصاص الاتهامات القاتلة دون دليل على جرمه، لم يكونوا جميعا كذلك ولكنّ الأقلّية كانت هي الأقوى والأشدّ تأثيرا.

همّشوني، انتقدوني بسخرية وقاطعوا مؤلّفاتي المعربّة، شجّعوني بظلمهم على شدّ الرّحال إلى فرنسا وأنا في سنّ الخامسة والعشرين، كان ذلك عام سبعة وثمانين تسع مئة وألف أي ثلاث سنوات بعد أن أصبحت سوق أهراس ولاية مستقلّة بذاتها فقد كانت قبلا تابعة لعنّابة ثمّ قالمة، كانت تلك الرّقعة الجغرافية المجاورة لتونس قد أَوَت زوجة عمي التي بقت رفقة ابنها مروان بعد زواج كلّ البنات ورحيل علي إلى سوريا من أجل مواصلة دراسته.

قالت لي ليلة الرّحيل: "كان عمّك سيحزن كثيرا لوضعك."

ابتسمتُ: "لماذا؟ ألم يكن يريد أن يراني شخصية كبيرة ترفع اسم الجزائر عاليا؟"

أخذتْ نفس عميقا: "بلى ولكن ليس في فرنسا وبلغتها يا صغيري، بلى ولكن ليس في بلد غير الجزائر."

"لم يبق لي خيار آخر ثمّ إني برفقة الأستاذ دافيس وهو سيساعدني على التأقلم."

مسحت دموعها: "أعلم، أعلم ولكني لا أقوى على فراقك ثمّ لماذا لا تؤجّل السّفر حتى تتزوّج من جزائرية ومن ثَم تسافر."

وقفتُ من مكاني: "الزّواج فكرة رائعة ولكن ليس بالنسبة لي. ابن الحركي يجب أن يموت كي لا يعاني أبناؤه مثلما عانى هو، يجب أن تموت سُلالة والده."

وقفتْ: "زهرة، زهرة أيضا ابنة حركي. أطلب يدها ولن ترفض."

قلتُ لها: "ولماذا أفعل؟ أنا لا أريد أن يتعذّب أولادي مثلما تعذّبت. رجاء افهميني. لا أريد أن يكون لي أبناء أو أسرة."

"إذن تبقى هكذا؟"

أجبتها: "نعم."

خطوتُ بضع خطوات نحو النافذة: "سأبقى هكذا حتى لا أرتكب خطأ أبي، هكذا أحسن."

ثمّ انصرفتُ إلى الغرفة لأنام.

سافرتُ إذن رفقة الأستاذ دافيس إلى فرنسا، إلى البلد الذي أنجب ريموند بيشار ومارسيل بيجار. إلى البلد الذي أنجب الملائكة والصّعاليك. وجدتُ في استقبالنا بمنزل الأستاذ فتاة عرفتُ فيما بعد أنّها ابنة رجل من طينة هنري مايو وموريس لابون. رجال فرنسيون ضحّوا من أجل جزائر مستقلّة ومن أجل مهمّة إنسانية.

ابتسمتْ: "Bienvenue en France. . . monsieur." (مرحبا بك في فرنسا سيدي).

بادلتها الابتسامة: "Je m’appelle Mohammed." (اسمي محمد).

أجابت بسرعة: "C’est le nom du prophète de l’islam. (هذا اسم نبي الإسلام)

التفتَ إليَّ الأستاذ دافيس: "إنّها مهتمّة بالحضارة العربية كثيرا خاصّة المغاربية منه. إنّها كريستين التي حدّثتك عنها ذات مرّة هي ابنة أختي، تفضل اجلس."

نعم، حدّثني عنها قبلا. إنّها تعاني نبذ بعض المتعصّبين في فرنسا بسبب مناهضة والدها للاستعمار في الجزائر. تماما مثلي، ولكن ليس بالمعنى نفسه، فوالدها إنسان دافع عن قضيّة عادلة بمهنته النبيلة وأبي خائن باع الوطن بعمالته العفنة.

سألتها: "هل حدّثك عني الأستاذ دافيس؟"

أجابتني: "كثيرا وقد عرفت من خلاله أنّك إنسان ذوّاق للأدب والفن. ربّما لن تطول رحلة بحثك عن الأصدقاء فأنا هنا نسختك وأيضا هناك صديق تونسي يدعى رضا هو لا يشبهك ولكن الأكيد أنّه سيعجبك."

قلت لها: "لستُ هنا في رحلة للبحث عن أصدقاء أنا هنا في رحلة البحث عن الراحة وإثبات وجودي ليس إلاّ."

احمرّ وجهها: "لكن الحياة صعبة دون أصدقاء."

قلتُ لها: "ليس بالنسبة لي. أنا متعوّد على الوحدة في الوطن."

ابتسمت: " لا شيء اسمه وحدة في الوطن…أسبوع واحد سيكفي ليثبت لك صحّة ما أقول."

ثلاثة أيام كانت كافية لتثبت صواب رأيها، الوحدة الحقيقية هي تلك التي نعيشها في بلاد الغربة وفي ديار غير ديارنا خاصّة إذا كان أهل المنطقة يستعملون لغة غير لغتك ويدينون بدين غير دينك.

مضى الأسبوع كما توقّعته البنت. في المساء دخلت رفقة والدتها إلى المنزل وقالت بصوت منخفض ونظرة ساخرة:

"Comment vastu mon ami" (كيف الحال أيها الصديق؟).

أجبتها: "ما قلته صحيح، لا شيء اسمه وحدة في الوطن."

ابتسمت وكأنّها انتصرت في معركة حربية أو ما شابه ثمّ التفتت إلى أمّها: "إنّه محمّد الذي حدّثتك عنه."

ثمّ التفتت إلي: "هذه أمي وتدعى سيمون. كانت أستاذة في الأدب الفرنسي وهي الآن متقاعدة."

مدّت يدها لتصافحني ثمّ قالت: "أتمنى أن تكون تماما مثلما حدّثني عنك دافيس."

انتقلتا للعيش معنا بعد أن تركتا منزلهما بباريس وانتقلتا إلى سانت تروبيز حيث يوجد منزل الأستاذ دافيس. كانوا عائلتي المثالية التي علّمتني كيف أحترم الرّأي الآخر وإن كان لا يعجبني وكيف بإمكاني التّعامل مع أناس كثيري المعارضة والنّقد.

قلتُ للسيدة سيمون في أحد جلساتنا: "كيف استقبلت خبر اعتناق أخيك للإسلام؟"

أجابت: "بدءا كنت معارضة لهذه الفكرة تماما ولكني فيما بعد تقبّلتُ الأمر كوني وجدتُ أخي أصبح أكثر سعادة من ذي قبل، متمسّكا بالحياة ومتطلّعا لغد أفضل، ربّما فرحته هي التي ساعدتني على التقبّل."

"هل بإمكاني إضافة سؤال؟"

ابتسمت: "طبعا."

"كيف كان ردّ فعلك عندما أخبرك زوجك أنّه سيدافع عن الجزائريين المغتصبة حقوقهم أثناء الثّورة التحريرية؟"

تذرف العبرات شوقا إلى ذاك الزّمن وإلى ذكرى الرّاحل: "كنت أعلم بمساندته لقضيتكم العادلة قبل الزّواج لذلك لم تحدث أيّ مشكلة، كان إنسانا رائعا رافضا لعبودية البشر في أيّ بقعة من العالم. كان همّه الوحيد تحقيق شيء اسمه المساواة رغم الانتقادات الموجهة إليه …"

كانت كريستين تستمع لكلام أمّها بكثير من الاهتمام.

"كريستين. هل هذه أوّل مرّة تسمعين أمّك تتكلّم عن والدك؟"

أجابت: "لا، كل ما في الأمر أني لا أشبع منه. إنّه الرّجل الأجمل والأروع. أحبه حدّ التطرّف."

كنت مسكونا بأسئلة فضولية رفضت طرحها جميعها لكيلا أحيي التفاصيل الأليمة في قلوب عائلة وهبتني شيئا اسمه الطمأنينة.

* * *

كان يجبُ أن أكتب باسم مستعار لكي أجد لحرفي صدى وكان يجب أن أعلن عن هويتي الحقيقية في حفل توقيع روايتي La preuve (الدّليل) تماما مثلما فعلت الشّخصية الرئيسية فيما كتبتُ. كلّ ذلك من أجل مواجهة المجتمع. وكان أيضا يجبُ أن أهدي الجزائر قبلة حبّ عندما بدأت تغرق في أزمتها الدّمويّة. أهديتُها رواية لم تكن في مستوى معزّتها على قلبي. كان عنوانها Je t’aime (أحبك)، تحدّثتُ فيها عن آلام شعب أهداني ذات يوم صفعة قويّة نفتني إلى بلد رفضته أمي على أرض الوطن.

قالت لي كريستين بعد حفل توقيع الكتاب: "الصّمت هو أزمتك."

قلتُ لها: "إطلاقا، الصّمت لم يكن يوما أزمتي بل هو السّبيل الذي اخترته للإبداع. ما فائدة أن أقول كلمات أعلم أنّ الريح سيأخذها في مهبّه؟ أظنُّ أنه من المستحسن أن نكتب لنخلّد وجهة نظرنا تجاه أي موقف من المواقف."

أشعل صديقنا التونسي رضا سيجارته وقال: "الكتابة لا تعبّر بالضّرورة عن الكاتب، أتعرفان؟ أكرهُ الأشخاص عندي الأدباء."

سألتُه: "لماذا؟"

أجاب: "ربّما لأني أراهم منافقين."

ضحكت كريستين: "لكنك تقرأ لهم."

أجابها: "أحبّ قراءة كذبهم الجميل، أكره شخصهم ولست أكره كلماتهم."

توقفتُ في الطّريق: "إذن لماذا نحن أصدقاء؟"

ابتسم: "أحبّ العيش مع أناس لا يشبهونني فعندما أعيش مع أشخاص يماثلونني في شيء بسيط أحسّ أني أرى نفسي في المرآة وأنا أكره ذلك. أتمنى أنك فهمت قصدي."

قالت كريستين: "رائع، تعجبني طريقة التفكير هذه."

سألتها: "هل تشاطرينه الرّأي؟"

"ليس كثيرا، أنا أحبّ أن أصادق أشخاصا يشبهونني لكي أتمكّن من التّواصل معهم بطريقة أفضل ولا مانع لديّ إن كنتُ أملك صديقا مثل رض. إنّه يدهشني في كلّ مرّة يتحدّث فيها عن ذاته الداخلية، أكتشف فيه إنسانا جديدا يوما بعد يوم. أحب كلّ ما هو جديد."

"ماذا عني؟"

أجابت: "أنت غامض كثيرا وتحرّك فيَّ نوعا من الرّغبة لاكتشافك لكني أفشل في كلّ مرّة، أبواب قلبك مغلقة وأنا مللت الدّخول من النّوافذ."

ضحكتُ أنا ورضا لطريقة كلامها بينما كان الوطن يستعيد الجوّ الأمني سنة بعد سنة ويوما بعد يوم.

* * *

كنتُ في المنزل وحيدا عندما دخل الأستاذ دافيس وقال لي: "هناك شخصٌ يريد مقابلتك."

ظننته يقصد كريستين التي سافرت رفقة والدتها إلى الجزائر أو رضا الذي غادر إلى بلاده لقضاء العطلة الصيفية هناك. قلتُ له: "ليدخل، أهلا به."

"هل أنت متأكّد؟"

"نعم."

دخل الشّخص الذي كان يريدني بخطى متثاقلة وقال: "مرحبا."

نظرتُ إلى الأستاذ: "من يكون؟"

اقترب مني: "هذا الشخص يكون والدك."

إنّه الشيء الأكثر جرحا، الأكثر عمقا والأكثر ألما.

أنا الآن أقف أمام الرّجل الذي حرّض الوطن على قهري، أمام الرّجل الذي جرح أمي وباع عرض أخواتي بنات بلدي، رجل على عتبة الستين يقف أمامي منتصبا ينتظر أن أبتسم وأفتح ذراعي لاستقباله، هل أقول له أبي؟ أم أقول أكرهك؟

ماذا أفعل؟

أن أحبّ الوطن والدين يعني أن أكره خائنهما وأن أطرد أبي من المنزل يعني أني قليل أدب.

وقفتُ من مكاني: "مرحبا."

ابتسمَ: "دعني أضمّك إلى حضني فأُشبعك من أبوّتي."

دعاه الأستاذ دافيس أن يجلس على الأريكة ففعل ثمّ التفت إليَّ ينتظر مني حركة، قلتُ له: "لا داعي لذلك، عمي وهبني من الأبوة ما يكفيني لعمر كامل. قلتُ لك هذا في آخر اتصال بيننا قبل سنتين وقلت لك أيضا تفكّر في زيارتي لأني غير مستعدّ لمقابلتك."

تأفف: "لماذا قد لا تستعد لمقابلتي؟"

كيف تجرّأ وطرح ذاك السّؤال؟ إنّ من يجرؤ على خيانة وطنه يجرؤ على فعل كلّ شيء.

أجبته: "ربّما لأني عندما أراك بلباسك المحترم والرّاقي هذا أتذكّر من هم بمثلك سنّك في الجزائر، البعض دون ذراع والآخر دون قدم ومن سلم جسمه لم يسلم عقله. الأغلبية يعيشون هكذا. الفقر، الألم، والهم."

تكلّم الأستاذ دافيس: "أنا عليَّ أن أذهب الآن."

نظر إليه أبي: "شكرا لك."

هل كان يريد طرده أم ماذا؟ شكرا لك. هل كان يعني أنّ الأستاذ قد جلس في المكان غير المناسب وأن عليه الرّحيل لأنّه ليس فردا من الحوار؟

"أستاذ لا داعي لأن تذهب، أنت لست غريبا هنا."

"محمّد، الحوار عائلي وعليَّ أن أترككما على راحتكم."

قبّلت جبينه: "أنت عائلتي وليس أحد غيرك."

بدا الحزن على وجه أبي الذي لم أستطع بحكم الدين لكمه أو طرده.

ليحزن إذن مثلما حزنت أمي وليبكي مثلما بكيت، إنّ الحزن الذي عشته في سنواتي الثّلاثين كان أكبر بكثير من حزنه، وصرخة المنفيّ في أعماقي كانت أعلى بكثير من صرخة الأبوة في عواطفه.

أعلم أنّه يحبّني وأنّه مستعدّ لفعل المستحيل لأجلي ولكن أظنّ أن عليه العلم بأني لن أسامحه أبدا على ما فعل، أبدا.

أمسك الأستاذ يدي: "لا تعاند، ابق هنا مع والدك."

تأففت واتجهتُ مسرعا إلى الخارج دون مقصد معيّن، فرؤية الخونة مهما كان قربهم إليك يجعلك تفقد أعصابك وتخرج عن طاعة رجل اعتبرته ذات يوم والدك.

سامحني أبي، كنتُ دوما أبدي رفضي لموقفك تجاه جبهة التّحرير الوطني والمجاهدين في الجزائر وكنت دوما أخفي رفضي لك كوالد لا أعتزّ بانتمائي إليه، حقيقة، أنت الذي أجبرتني على قول وفعل ما لا أريد بحضورك. أخبرتك قبلا أني غير مستعدّ لمقابلتك لكنّك لم تسمعني وفعلت ما يجول بخاطرك.

إذن تحمّلني قليلا من باب الرّحمة مثلما تحمّلت صوتك من باب وبالوالدين إحسانا، أنا أحبّك ولكن ليس أكثر من حبّ الإسلام والجزائر اللذان خنتهما وبعتهما بأبخس ثمن.

لماذا أتيت وقد قلت لك لا تحاول البحث عني؟

مشيت في الطريق كمجنون لا يعرف أين يذهب، اقتربَ مني ياسين وهو أحد معارفي الجزائريين، يملك مطعما رائعا في هذه المدينة الرائعة التي أسعدتني وأحزنتني، أضحكتني وأبكتني. قال مبتسما:

"أهلا محمّد، أتيت لزيارتك بالأمس فلم أجدك. قلتُ ربّما ذهب إلى الجزائر."

جلستُ على مقعد كانت الحكومة قد وضعته مسبقا على الرّصيف:

"ليتني ذهبت قبل رؤيته."

جلس بجانبي: "والدك؟ هل أتى لزيارتك؟"

أجبته بحزن: "نعم، آه يا رب إنّ لي همّا كبيرا، همّا كبيرا جدّا."

ضحك ياسين: "قل يا همُّ إنّ لي ربّا كبيرا، مهما عظُمت الأشياء وكبرت لن تكون بعظمة الإله. مخطئ من يقول غير هذا."

"معك حق."

"لنذهب إلى المطعم، السيّدة عقيلة تريد رؤيتك."

"من تكون؟ أنا لا أعرف امرأة بهذا الاسم."

"لا تعرفها لكنها تعرفك، طلبت مني أن أبحث عنك لأمر مهم جدا."

نسيتُ قضيّة والدي، اتجهتُ معه إلى المطعم على عجل، تُرى من تكون هذه المرأة ولماذا تبحث عني؟ أهي صحفية تريد إجراء مقابلة معي أم امرأة عابرة ستضيف فصل حزن جديد في حياتي؟

ابتسمت عندما رأتني أقتربُ منها ثمّ وقفت من مكانها: "شكرا ياسين، ظننتُ أن حلمي لن يتحقق."

ابتسم كعادته: "لكنك لم تخبريني لماذا تريدين التحدث إليه."

أجابته: "أمر خاص، دعنا بمفردنا على الطاولة لو سمحت."

التفتَ إلي: "إن احتجتَ شيئا استدعني."

دعتني إلى الجلوس ففعلت، كانت بعمر أبي تقريبا. نظرت إليَّ بحزن ثمّ قالت:

"أنت أديب، والأديب يجب أن يجعل من كتابه منبرا للمقهورين في هذا العالم."

سكتت قليلا ثمّ واصلت: "أريدك أن تكون صاحب قصّة أنا بطلتها وكاتبتها، بمعنى "تقول إنّ القصّة لك". لا أحد سيشكّ بذلك."

ضحكتُ ظنا مني أنّ المرأة على عتبة التخريف أو الهلوسة، لماذا قد تطلب مني كتابة اسمي تحت قصّة هي صاحبتها وأيضا بطلتها ثم إنّها سيرتها الذاتية.

"سيّدتي هذا الطّلب مرفوض، أنا لستُ من زنادقة الأدب. فقط أوقّع اسمي تحت ما أكتب أنا لا غير. ثم لماذا قد تطلبين هذا الطلب؟"

انهمرت العبرات على وجنتيها: "لأني ضحيّة رجال كوالدك."

"مستعد لسماعك وإن كان الأمر يتطلّب سأخضع لطلبك أو إيجاد حلول أخرى."

تكلّمي يا امرأة وهبتني حرّيتي مثلما تريدين، بالقدر الذي تريدين وفي المكان الذي تريدين، فلستُ أنا من يملك حقّ إسكاتك أو إذلالك، ربّما لا أحد يملك ذاك الحق.

بعد صمت طويل وحوار داخلي قالت: "إنّ هذه القصّة ستؤدي إلى تحريك أوتار طال سكونها، ستزلزل الذاكرة مثلما يتزلزل جسدك عندما تذكر أنّ لك أبا حركيا."

أقول لها: "تكلّمي ولا تفكري فيما قد يحصل، تعودتُ على الزّلازل."

"إنّها قضيّة شرف بنات بلدك اللاّتي باعهنّ أمثال والدك إلى المستعمر بأبخس الأثمان."

تمتنع خجل تبادلَ النّظرات معي وتقول بصوت منخفض: "أليس من المخجل أن أشتكي عاهة الثورة إلى شاب في عمر الاستقلال؟"

ابتسمتُ: "لا أظنّ ذلك فالشاب الذي يقف أمامك أيضا يحمل عاهة ثورة. ليست عاهة وإنّما وصمة عار."

وعيناها تهربان مني قالت: "إنّ الجزائر مثلما أنجبت الملائكة أنجبت الشياطين وإنّنا معا نعاني بسبب مجرميها."

قضيّتها دعتها إلى الارتباك عند سرد قصّتها فجعلتها تبدأ بمقدّمات عادة ما لا أرغب في سماعها.

قلتُ لها: "أدخلي مباشرة في صلب الموضوع ولا تخافي."

تشجّعت ونظرت إلي: "هل أحكي قصّتي؟"

أجبتها: "هذا ما طلبته منك."

عبراتها تصارع لتنهمر وشجاعتها تدفعها للكلام بينما شمس الحياء سطعت على وجهها:

"كان الجوّ ماطرا عندما اقتحم أحد الحركيين بيتنا قائلا:

"أخرجوا أمامي، كلّكم ودون استثناء."

خرجت أمي وأخي الأصغر عبد الله بينما بقيتُ أنا في غرفتي.

سألتُها: "كم كان عمرك وقتها؟"

أجابت: "لم أتعد العشرين."

"أكملي."

كان من عادة أهل القرية أن يخبئوا بناتهم إذا علموا بقدوم الجنود والعملاء لاجتناب أي حادث مأساوي محطم للقلوب وكانت عائلتي أحدهم، لم يكن من عادتي أن أتدخّل إذا ضربوا أخي أو داسوا على جسد أمي. كان ذلك بأمر من أبي المجاهد الذي تركنا لتلبية النداء الوطني، تلك العادة تغيّرت بعد أن أحسست بأن أمي قد ملّت التعذيب لكي تشي بمكان أبي وأتباعه. لقد ضربها بالسوط في أنحاء متفرّقة من جسدها وهي حامل. خرجتُ إليه:

"يا ابن الكلب، أنت تعلم بغياب أبي فلماذا أنت هنا؟ أخرج من هنا يا قليل الشّرف والعفّة. أخرج لعنة الله عليك."

ضحك بوقاحة: "شكون لي علمك الكلام؟"

أجبته: "ألا تخجل من حالك؟ رجل في الخمسين يعيش حياة الذلّ دون أدنى حياء وماذا أيضا؟ يعذّب امرأة حاملا في عمر ابنته. أين إنسانيتك؟ أين شرفك؟"

اقترب مني: "سأجيبك."

ثمّ غادر البيت مسرعا، ظننت أنّ كلّ شيء معه قد انتهى فقمت بمناداة جارتنا العجوز فاطمة لكي تعتني بأمي بينما أقوم أنا بتحضير شيء يؤكل لأخي محمّد.

تمسح عبراتها المنهمرة ثم تواصل: "رجع ذاك العميل بعد صلاة المغرب رفقة ثلاثة جنود فرنسيين وأمروني بالخروج من المنزل، راحت أمي تلطم وجهها كونها كانت تعلم المصير الذي ينتظرني بينما اقتربت خالتي فاطمة من الحركي وقالت له باكية: ’استر عرض بنت بلادك الله يسترك، اشفع ليها عندهم الله يعيشك.’"

دفعها وقال: "ربوها ومن بعد اهدروا معايا."

بصقت عليه العجوز وقالت: "الله لا يربحك يا ولد الحرام، الله لا يربحك."

وبقيت تردّد هذه العبارة إلى أن ابتعدت السّيارة التي كنتُ على متنها، كانت أصعب اللّحظات، فقد كنت أسير إلى ما لا أشتهي.

ثمّ سكتت وبدأت تسمح عبراتها، قالت لي: "الاعتذار لن يكفي، أبدا لن يكفي."

سألتُها: "وبعد تلك الحادثة مباشرة غادرت الجزائر؟"

ضحكت بثقل: "لا يوجد في قاموسي كلمة اسمها الهروب من شخص دنّسني وتلاعب بي، حملتُ السّلاح وصارعت في سبيل الوطن. كانت نهاية ذاك الحركي النّذل على يدي، أذكر تلك اللّحظات كأنّها مرّت على دفتري بالأمس."

تبتسم: "هذا هو موضوع قصّتي، هل تقبل طلبي؟"

أجبتها: "ضعي عليها اسما مستعارا أو تشجّعي مثلما تشجّعت مواطنتك لويزة إحريز إيغيل واكسري جدار الصّمت بمواجهتك لمن ظلموك."

وقفتْ غاضبة: "حقير كوالدك، جعلتني أتكلّم وأنتظرك وقتا طويلا لتجيب هكذا؟ ابن قليلة الشّرف التي لم تعرف تربيتك، قد تكون أمّك مثل والدك. هذا أكيد وإلاّ كنت عاديا، لقيطا."

وقفتُ لوقوفها: "ضميري لا يسمح لي بخيانة القارئ، وفخر لي إذا كان حبي لقرّائي يجعلني حقيرا، بهم أنا موجود."

* * *

أبي، ماذا سأقول لك؟ صراحة لم أكن أنوي مسامحتك أو مكالمتك وزاد إصراري على موقفي ذاك ما روته لي تلك المرأة عن رجال يشبهونك، أوغاد بلا كرامة يعتنقون الذلّ دينا ويهلكون الأنفس تحت شعار "الذلّ أو الموت"، آسف حقا، أنا أكرهك، أكرهك كثيرا.

تتصلُ بي كريستين عشيّة ذاك اليوم وتقول لي: "أهلا محمّد، كيف حالك؟"

أجيبها: "الحمد لله."

تقول لي: "صوتُك لا يوحي أنّك بخير، هل حصل شيء لك أو لخالي؟"

أجبتها: "لا تقلقي خالك بخير."

تسألني: "إذن شيءٌ ما قد حصل معك أنت، أخبرني ماذا هناك؟"

قطعتُ الاتصال، لم أكن مستعدّا لسرد تفاصيل ألمي على سائحة في بلاد الثُّوار والشّهداء الأبرار.

لم يكن في ذاك اليوم شيء رائع يدعوني للتعلّق به بل إنّي كنت أعدّ الثواني حتى يرحل، لم أرجع إلى بيت الأستاذ دافيس لأنّ فيه رائحة خيانة ولم ولم ولم، فقط لأني رأيته وسمعتُه.

أمّي، أيّتها النائمة تحت تُراب الوطن لا تحزني عليَّ ولا تخافي لأني سأقاوم لكيلا أموت على يد ذاك الحركي مثلما متّ ومات غيرك، مثلما تعذّبت وتعذّب غيرك.

سأظلّ في أعين الكثيرين مذنبا لأني أنتمي إليه ولكنّ ذلك لا يعني أنّي سأتحالف معه تحت الضّغط أو أؤيّد كرهه لهؤلاء، بالعكس. سأظلّ أنتمي إليك أنت وحدك أيّتها الرّائعة التي وهبتني في صغري فائض حبّ ما زال ينبض في قلبي إلى حدّ هذا اليوم الأسود سواد تلك اللّيلة التي عرفتُ فيها حقيقة ذاك الرّجل.

في صباح اليوم التالي تأتي تلك المرأة إلى مطعم ياسين وتجلسُ في الطاولة التي أجلس فيها ثمّ تقول: "آسفة."

سألتها: "على ماذا؟"

ابتسمت: "على ما قلتُه البارحة، آسفة حقا يا ولدي. ربّما الغضب هو الذي دعاني لأفعل ذلك."

قلتُ لها مبتسما بمثل ابتسامتها: " تعوّدتُ على أناس مثلك."

أرادت أن تخرُجَ من الموضوع بذات السّرعة التي دخلتْ بها إليه: "لقد فكّرت في اقتراحك ووجدتُ أنّه الصّواب."

"جيّد ولكن لماذا تخبرينني بهذا؟"

احمرّ وجهها: "لأنّك صاحب الفكرة، رجاء افهم أني لم أقل ما قلتُه إلاّ لأني كنتُ غاضبة."

قلتُ بحزن يمزّق قلبي: "لي صديقة اسمها كريستين توفي والدها في سبيل الجزائر وصديق اسمه رضا كافح عمّه لذات الهدف ووالد ياسين استشهد قبل الاستقلال بسنتين بينما عانت أمّه ما عانيته، مررت معهم بمشاكل عدّة لكن لم يجرؤ أحدهم على وصفي باللّقيط أو جعلي أعتذر عمّا اقترف أبي من جرائم، أمّا أنت فقد تجرّأت وفعلت ما لم يخطر ببالي ثم أتيت اليوم لتكلّميني ببساطة."

"لكن ... "

قاطعتُها: "كان بإمكاني جعلك تنزفين الدّم الذي لم تنزفيه أثناء الثّورة وكان بإمكاني أيضا جعلك جثّة هامدة على أرض هذه البلاد. أتعرفين لماذا لم أفعل ذلك؟ فقط لأنّ أمي التي وصفتها بقليلة الشّرف ربتني على احترام الكبار والرحمة بالصّغار، أتمنى أنك قد فهمت ما أقصد."

"سامحني رجاء."

"كان من الممكن أن أسامحك لو لم تقومي بإهانة كرامة أمي."

"أرجوك."

"أنا ذاهب."

أحببت تلك المرأة كمجاهدة، أشفقت على تلك المرأة كضحيّة وكرهت تلك المرأة لأنّها شتمت الذّكرى الأروع والأغلى على قلبي. أرجع إلى البيت بخطى كسلى وأدخله دون تحيّة، سمعتُ صوتا لم يكن غريبا علي، صوتٌ ارتجفت له حواسي، أسرعتُ إلى حيث مصدره:

"خالتي سكينة، خالتي سكينة اشتقتُ إليك."

أرجعني لقاؤها ذاك سنوات إلى الوراء، عندما كنتُ أبكي فأجدها أمامي تضمّني إلى حضنها وتقول لي: "اصبر يا وليدي. هاذي هي الدنيا. فرْحْ وبكاء."

ضمّتني إلى حضنها: "توحشّتك يا وليدي، توحّشتك."

قالتها باكية ثمّ ابتعدت عني: "آه لو كانت أمّك على قيد الحياة، كانت ستفرح عندما تراك هكذا."

ابتسمتُ: "لا أظن، لا أظن."

مسحت دموعها: "هل حصل شيء؟ ما بك؟"

طُرقَ البابُ فذهب الأستاذ دافيس لفتحه بينما بقيتُ أنا أضمّ علي إلى حضني وأستنشق في كلامه هواء البلاد التي لم أعد إليها من يوم خرجتُ منه.

تنقطع خالتي سكينة عن الكلام فجأة وتركّز نظرها خلفي، التفتُ إلى حيث تنظر فوجدتُ ذاك الرّجل الذي احترف إفساد فرحتي "أبي".

قالت لي: "كأني رأيتُ هذا الشّخص من قبل."

"إنّه حميد أخ زوجك، أقصد أبي."

التفت إليه علي: "هذا هو؟ ماذا يفعل هنا؟"

أجبتُه: "يريدني أن أسامحه."

قالت خالتي سكينة: "وماذا ستفعل؟"

أجبتها: "أنا لن أُسامحه أبدا."

ثمّ قلتُ له: "تريديني أن أحدّثك؟"

قال: "نعم."

قلتُ له: "سأفعل ولكن لا تطلب مني أن أسامحك لأنّ هذا لن يحصل أبدا."

وكأنّه اليومُ المُخصّص للقاءات، دخلت كريستين ووالدتها رفقة السيّدة عقيلة.

اقتربتْ البنت من خالها: "خالي ماذا يحدث هنا؟"

أجابها: "الذي يجب أن يحدُث يا صغيرتي."

اقتربتْ مني: "محمّد، من هؤلاء؟"

أجبتها: "هذه خالتي سكينة التي حدّثتك عنها وهذا ابنها علي وهذا ..."

لم أستطع إكمال الحديث، أخجل أن أسميه أمام الجميع خاصّة أمامه.

"هل هو والدك؟"

"كيف عرفت؟"

أجابت: "أخبرني خالي أنّه قدم إلى منزلنا رغما عنك."

اقتربتْ السيّدة سيمون: "محمّد، هنا شخصان يريدان أن يستسمحاك."

"هل تعرفان السيّدة عقيلة؟"

أجابتا: "نعم."

هل أسامح تلك التي أهانت أمي على مرأى الجميع أم ذاك الذي خان أمي والوطن؟ أم أسامح كليهما؟

لن يحدث أيّ من ذلك.

أقول بأعلى صوتي: "لن أسامح من خان الجزائر ومن أهانت أمي عزيزة قلبي."

يسألني الأستاذ دافيس: "هل هذا آخر كلامك؟"

أجيبه: "نعم، آخر كلام ورجاء اطلب منهما الرّحيل."

مضت الأيّام روعة فقد حدث فيها ما ينسيني مؤقّتا بما حدث، كريستين اعتنقت الإسلام رفقة والدتها بعد أن اقتنعتا به، خالتي سكينة ستظلّ معي شهرا تعويضا لما فات من سنوات الفراق،

أحببت تلك الأيام وتمنيت دوامها وكاد أن يحدث ذلك لولا أن رنّ هاتف المنزل ليعلمنا بوفاة أبي في حادث سيّارة، كان ثملا.

اقتربت مني خالتي سكينة: "هل ستذهب لجنازته؟"

أجبتها مباشرة: "أبدا."

ابتسمت السيدة سيمون: "محمّد يبقى هذا الرّجل والدك."

أكملت كريستين: "رجاء اذهب."

ضمّني علي إلى حضنه: "لو كان أبي على قيد الحياة لقتلك بسبب موقفك هذا، أيضا أمّك كانت ستغضب."

ابتعدتُ عنه: "أبدا، أبدا، أبدا."

ورحتُ أضرب الجدار وأركلُ الأريكة: "لن يحدث هذا إطلاقا، أنا أكرهه."

لم يكن أحد ليقنعني لولا الأستاذ دافيس الذي عرف كيف يتسلّل إلى قلبي بكلماته الرّائعة ونصائحه الأروع التي جعلتني أذهب إلى جنازة أبي وألتقي بأختي منه والتي قالت لي باكية: "كان يحبّك كثيرا."

قلتُ لها: "للأسف لم أبادله ذات الشّعور."

تركتني وانصرفت غاضبة كأنّها تؤيّد موقفه تجاه الجزائر، كيف لا وهي ابنة مستوطنة يهودية تزوّجها أبي ليزيد إلى قائمة أحزاني أحزانا أخرى.

كم من الأنفس عذّبت يا أبي؟ وكم من العبرات جعلتني أذرف بسببك؟

* * *

ها أنا كتبتُ بعض الصّفحات بالعربية يا كريستين كمحاولة أولى للرّجوع إلى الأصل وها أنا أكتب ما قلته لي ذات مرّة عندما كنتُ في مكتبي:

لا أجمل من صبّ الآلام على الورق كما يُصبُّ الماء في الأكواب ولا أروع من شفة تبتسم عندما يموت من كان سبب تعاستها لتحي بموتها حياة جديدة في عالم طال انتظاره لنا.

وأكتب أيضا ما قاله لي رضا: "كان يجب أن تكتب بالعربية ليُخصّص لك المكان الأكبر في الجرائد الجزائرية."

أجبته: "هل تموتُ روحنا الجزائرية عندما نتكلّم أو نكتب بلغة غير العربية؟"

لا أظن أنّ روحي الجزائرية ستموت عندما أكتب بلغة غير العربية. نعم، لن تموت مثلما لم تمت "نجمة" لكاتب ياسين، وسأقول في النهاية ما قال كاتب ياسين:

"Jécris en français pour dire en français que je ne suis pas français"

(أكتب بالفرنسية لأقول بالفرنسية إنني لست فرنسيا).

رجعتْ إذن خالتي سكينة وابنها علي إلى الجزائر بعد أن قضيا معي أيّاما رائعة. وأصبحت خالتي تصرّ أن أعود إلى أرض الوطن الذي يرسل إليّ قبلاته. تقول لي عبر الهاتف:

"إنّ الوطن تماما مثل الأم، يحسُّ بفراغ داخلي إذا ابتعد عنه أبناؤه، وانظر في قلب الجزائر كم من فراغ."

أسأل رضا وكريستين عن الأمر فيجيب رضا: "ربّما عليك أن ترجع، خاصّة أنّك حقّقت ما تريد، فأنت أصبحت حديث الصّفحات الثقافية في الجرائد الجزائرية، ثمّ أنا أيضا سأعود إلى تونس بعد أن مللت العيش هنا. سأفتح هناك محلاّ تجاريا وأبني أسرة ملؤها المحبّة."

وتقول كريستين: "رغم أني سأشتاق إليكما إلاّ أنّي أشجّعكما على الذهاب، فالوطن رغم كلّ شيء يبقى هو الأحبّ إلى القلب."

"وأختي التي تسكن هنا؟"

ابتسم رضا: "إنّها تعيش مع والدتها على أحسن ما يُرام، لذا أظنّ أنّه يجب أن تُعلمها برحيلك."

أكملت كريستين: "صحيح وعدها أنّك ستزورها عندما تأتي إلى فرنسا مرّة أخرى. لا تنس تزويدها برقم هاتفك."

قرّرتُ وانتهى الأمر. الجزائر وطني الذي سأظلّ فيه إلى الأبد بعد أن استعدتُ ثقة المجتمع بي.

دخلتُ أرض الثّوار ثائر العواطف أقول:

عليك منّي السّلام يا أرض أجدادي

ففيك طاب المقام وطاب إنشـــادي

فقالت لي بلغة لا يفهمها غير المغتربين:

"سلامي إليك أيّها الغالي. حبيبي، أهلا بعودتك إلى وطن عشقك منذ كنت صغيرا. أهلا أيّها الغالي" ... وكلمات كثيرة جعلتني أبكي وأسجد، أبكي وأقبّل التّراب الذي أتمنى أن أُدفن تحته.

* * *

دخلتُ منزل خالتي سكينة فكان أوّل ما سمعتُ من مذياع عمّي العتيق:

"يا رايح وين مسافر تروح تعيا وتولّي." (**)

= = =

(**) أغنية شعبية جزائرية هي في الأصل للفنان دحمان الحراشي، وغناها مطربو الراي. استمع للأغنية بصوت المطرب الأصلي في فيديو ترد فيه كلمات الأغنية وشرح لمعاني بعض كلماتها (فيديو من يوتيوب).

D 1 تشرين الأول (أكتوبر) 2010     A صفاء صيد     C 0 تعليقات