رشيد فيلالي - الجزائر
مقابلة مع بروفسور أحمد جبار (*)
"لولا إسهامات العرب العلمية لما تقدم الغرب"
أحمد جبار: بروفسور جزائري خبير في تاريخ العلوم العربية والمخطوطات والرياضيات. يعمل حاليا أستاذا في جامعة ليل الفرنسية. تولى في الماضي منصبي وزير البحث العلمي ووزير التربية والتعليم في الجزائر. ألقى في الآونة الأخيرة محاضرتين في جامعة قسنطينة بالجزائر.
حل بروفسور أحمد جبار ضيفا على جامعة قسنطينة، عاصمة الشرق الجزائري، بغية إلقاء محاضرتين في مجال اختصاصه. وقد أمتع الجمهور الحاضر من أساتذة وطلبة وإعلاميين بما قدمه من حقائق واكتشافات ومعلومات جديدة حول جملة هامة من إسهامات العرب العلمية التي كان لها عظيم الأثر في تقدم المعرفة والتكنولوجية المعاصرة.
للبروفسور أحمد جبار كتاب بعنوان "العصر الذهبي للعلوم العربية" نشر باللغة الفرنسية عام 2005. وللكتاب أهمية بالغة من حيث الإضافات الاستثنائية التي أنار بها مفكرة القراء الغربيين على وجه الخصوص، لكونهم اعتادوا على طمس حقوق العرب والمسلمين ومحو كل آثار ما قدموه من إسهامات علمية جوهرية. ويعتبر هذا الكتاب للبروفيسور جبار جديرا حقا بالترجمة إلى العربية بالنظر إلى ثقله العلمي والصرامة في معالجة معطياته بعيدا عن أي نزعة عاطفية أو شوفينية مقيتة. وضمن هذا السياق فقد اغتنمت الفرصة للحديث مع البروفيسور أحمد جبار الشخصية العربية الفذة، وسألته عن رأيه في عدد من المسائل.
بداية أكد البروفيسور أحمد جبار على أن استعماله لمصطلح العلوم العربية بدل الإسلامية يعد استعمالا إجرائيا فحسب على اعتبار أن كل المؤلفات التي صدرت على امتداد التاريخ الإسلامي كانت في غالبيتها الساحقة باللغة العربية، وهذا هو السبب في اختياره لهذا المفهوم دون غيره حتى ولو كان هذا التوظيف البريء قد أثار حفيظة البعض من المسلمين غير العرب، سيما الإيرانيين، مع العلم أن العلماء المسلمون عامة بجميع جنسياتهم كانوا في غاية التسامح حيال استعمال أي لغة يختارها أهلها من المسلمين، وبالتالي فان اختيار العربية جاء عن وعي وحرية مطلقة ولم يكن ذلك انطلاقا من نص قانوني أو أمر من سلطة علوية.
س: عُرفت منذ قرون ظاهرة تنكر الباحثين والمؤرخين الغربيين لما قدمه العرب والمسلمون من إسهامات علمية جليلة. هل ما زالت هذه الظاهرة بنفس الحدة؟
ج: هذه الظاهرة آخذة الآن في الانحصار والتقلص والسبب في ذلك ظهور كتب جديدة مبسطة تصدر عن دور نشر محترمة تتطرق إلى تاريخ العلوم ودور العرب الكبير في تقدمه، حيث كان هذا النوع من المواضيع تعالجه النخبة فقط مما جعل عامة الناس تجهل حقائق هامة للغاية في هذا المجال، علما بأن هذا النوع من الاهتمامات العلمية كان محل اهتمام شريحتين مختلفتين من الباحثين، واحدة لها توجه أيديولوجي مفضوح يجتهد في تقزيم الإسهامات العربية و طمسها بكل السبل الممكنة والمتاحة له، أما الشريحة الثانية فهي تنطلق من كتاباتها عن جهل محض ولا تتعمد الإساءة إلى العرب والمسلمين. لكن عندما يكتشفون خطأهم يعترفون به مقرين بجهلهم، حيث يبادرون إلى تصحيح معلوماتهم على الفور وهذا دأب الباحثين الأصيلين.
- غلاف: أحمد جبار
س: يرى البعض أن الترجمة ترف فكري. هل تراها كذلك؟
ج: كل شعب يتطلع إلى المساهمة في إثراء حضارة معينة فانه لا يقدر على الاستغناء عن مساهمة الآخرين، ومعلوم أنه عبر مختلف أطوار تاريخ الحضارة العربية الإسلامية كان للترجمة دورا رئيسيا في إثراء الرصيد المعرفي وتعميقه وكانت لعملية نقل الكتب العلمية اليونانية والهندية والسريانية فائدة كبرى في بناء التقاليد العلمية العربية وترسيخه، ومن هنا فإننا على غرار كل البلدان النامية والمتقدمة لا ينبغي أن نتوقف عن الترجمة على الأقل من باب الاطلاع عما يفعله الجيران والآخرون والتجسس عليه لكن بالنسبة لنا نحن سلمنا في كل شيء ولا ندري ما الذي يحدث في الخارج، خارج حدودنا المتزمتة، من هنا فان الترجمة لها فوائد بصعب حصرها ضمن هذه العجالة فهي أي الترجمة عبارة عن نفخة أوكسجين كما أنها تسمح بمعرفة ما ينتج من طرف الآخرين ولا نعلمه نحن إذ من المستحيل أن ننتج كل شيء فضلا عن أن معارف الشعوب تتمم بعضها البعض، وللترجمة وظيفة هامة أخرى هي أنها تسمح لنا بهضم منتوج الآخرين ليصبح من مكتسباتنا وملكيتنا الخاصة كون المعرفة حق مشاع للجميع بمجرد طرحه للعلن، وهنا أيضا في هذا السياق مسألة إثراء لغتنا العربية عن طريق الاحتكاك بلغة الآخر، عبر إبداع وابتكار مفاهيم ومصطلحات جديدة لم تكن معروفة لدينا كعرب بهذه الطريقة طور أجدادنا القواميس العلمية خاصة قواميس الرياضيات والميكانيكا من القرن التاسع إلى الخامسة عشر ولكونهم في حاجة إلى تدريس هذه العلوم بكل ما تحمله من جديد فقد كانوا في حاجة إلى مثل هذه القواميس التي تحتوي على مفاهيم جديدة ولهذا كله فننا اليوم مجبرون أيضا في حال تطويرنا لحصيلتنا المعرفية الآتية من الغرب المتقدم أن نكثف من عملية الترجمة من اللغات الأجنبية مما يسمح لنا ذلك بخدمة العربية ومن ثمة خدمة المواطن الباحث عن وسيلة لغوية لتطوير مداركه العلمية،
س: هناك كتاب شهير للمستشرقة الألمانية زيغريد هونكه "شمس الله تسطع على الغرب" الذي ترجم إلى "شمس العرب تسطع على الغرب" وعن ذلك.
ج: هذه الترجمة هي اجتهاد من الناشر فقط، حيث أراد الناشر أن يلفت انتباه القارئ الغربي إلى مساهمات العرب العلمية ولم يأخذ عمل المؤلفة كظاهرة دينية يمكن أن تؤخذ بحساسية مسبقة تنفر هذا القارئ عوض أن كسبه وإقناعه، حسب البروفيسور جبار فان هذا الكتاب رغم أهميته يظل يعبر عن مرحلة معينة ولذلك فان الزمن الراهن تجاوزه وبالتالي لا ينبغي للقارئ العربي أن يظل حبيس أفكاره رغم أهميتها وجاذبيتها علما بأن في هذا الكتاب مبالغات لا يمكن التسليم بها على نحو مطلق، صحيح أن الكتاب ممتع ومجامل لكن علينا أن نكون حذرين من هذا النوع من القراءات على اعتبار أن مثل هذه المبالغات تضر أكثر مما تنفع.
- غلاف كتاب
س: يتحول دور الأكاديمي إلى سياسي أحيانا، والعكس بالعكس. لماذا يحدث خلال هذا التحول نوع من الازدواجية في السلوك والمواقف؟
ج: هذا الحكم يبقى نسبيا ولا يمكن تعميمه، فهناك سياسيون يتميزون بالواقعية السياسية، ولهم بيداغوجية سياسية تعد أخطر من بيداغوجية تدريس العلوم على اعتبار أن المتلقي إنسان مثقف وله مستوى علمي يضبط سلوكه ومواقفه، بينما الأمر يختلف بشأن الرأي العام الذي يظل غير محضر وأسير نزعاته العمياء. لكن هذا لا يمنع من القول أيضا إن هناك سياسيين غير مؤهلين وهم يميلون مع الريح وليس لهم مستوى من الحنكة وحسن التدبير، وحتى درجة الشجاعة المطلوبة.
س: ما رأيك في الزعم القائل بأن العقلية العربية تميل بطبعها إلى العاطفة على نقيض العقلية الغربية مثلا؟
ج: إن ذلك راجع إلى المراحل التاريخية حيث كانت عقلية العربي والمسلم تتميز من القرن التاسع إلى غاية القرن ثالث عشر بالهجومية وحب المبادرة والتطلع إلى الابتكار والاختراع. لكن مع مرور الزمن وتغير الأحوال ووقوع هجمات خارجية واضطرابات داخلية وفتن ماحقة اقتصادية وسياسية وإيديولوجية فإن الوضع السيكولوجي للمواطن العربي والمسلم تحول إلى الانطواء والدفاع وبالتالي الخوف من كل شيء بغية المحافظة على كل مكتسب.
س: ماذا تطالع هذه الأيام؟
ج: أقرأ بمتعة مخطوطا من القرن الثالث عشر حول تدخل الرياضيات في حل المسائل اليومية للمجتمع الأندلسي، وهو مخطوط فريد من نوعه ومجهول المؤلف لكن مادة الكتاب هامة من حيث كونها تخبرنا عن حيوية المجتمع الأندلسي والمغاربي في تلك الفترة، وكيف أن الرياضيات كانت متفاعلة مع المجتمع أكثر مما هو حاصل الآن، وهو ما يعني أن المجتمع الأندلسي كان مستواه الثقافي أعلى منه الآن في مجتمعاتنا العربية وهي مفارقة مثيرة وغريبة أيضا.
◄ رشيد فيلالي
▼ موضوعاتي