عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » الأعداد الشهرية: 01-120 » السنة 5: 48-59 » العدد 53: 2010/11 » زينة المرأة والرجل: معايير مزدوجة

هدى الدهان - العراق

زينة المرأة والرجل: معايير مزدوجة


ضحكات وقهقهات خافتة تتناهى إلى سمعي، مكتومة بالأيدي وبالغمازات، وتلميحات جريئة وبريئة. آثرت أن انهض من على مقعدي وأن ابتعد عن مكان جلوس هؤلاء الشباب اليافعين، وإن كنت نادرا ما أغادر مجاورة الشابات الشباب لأن الساقية اليابسة تستمد من النهر الجاري حياتها. ولكن فضول الأنثى دفعني ألا أتغرب بعيدا عنهم، وبالطبع كلّي يصغي ويحفظ الحروف والكلمات والحوار. عجبت! ضحكت في بادئ الأمر واندهشت في أوسطه.

هل من الممكن أن يشرّح مبضع اللسان لأي رجل النساء هكذا؟ والله قد بزّوا هجاء جرير للفرزدق وهم ينتقدون ويعدون العيوب والنواقص للفتيات والنساء اللواتي يملأن قاعة العرس الذي كنا نحتفل بعروسه الشابة. تساءلت في نفسي كم من فتيات انتظرن ساعات دورهن حتى يحن عليهن الحلاق بنظرة الرضا والقبول، أن نعم جاء دورك فأعتلي الكرسي، فتقوم مغتبطة وتتحمل رائحة الأمونيا في الصبغة وحرارة مجفف الشعر (السـشـوار) ودبابيس الشعر، وكل ظنها أنها رضيت وستبهر الحاضرين.

جاءت إحدى الفتيات تتهادى بشعرها. وحقيقة كنت قد أعجبت أنا به ورأيت أن شلالات من الفضة تخترق شعرها الأسود بخصل بلاتينية، فإذا بهم يشبهونها بحمار الوحش. وعيون أخرى بهرتني بلونها البندقي، ولا أدري كيف اكتشفوا أنها مجرد عدسات لاصقة، وبدؤوا يتندرون عن أي أنواع الصمغ يجدر بهم استخدامه للصق عيون الحاضرات وتركهن يتعثرن وهم يتلقطونهن شفقة ورأفة.

لم يسلم منهم قد مياس، فبين أنهن يلبسن المشد وبين أنهن يحقن السيلكون ويشفطن الدهون ويمتن أنفسهن من الجوع. أحصوا أن لا امرأة جميلة. تلك شعرها احمر كأنها طماطم، وتلك ترتدي البياض كأنها قنينة حليب، وأخرى تضع الأخضر فوق عينيها كأنها الدمية بيغي (1)، وأن الشفاه كلها تشبه إحداها الأخرى: ممتلئة سميكة متورمة، والحواجب مرفوعة كبرياء وإباء ومرسومة بحبر الأقلام. وانتهوا بأن تمنوا أن يقام الاحتفال تحت غطاء السماء وتمطر رحمة مطرا يغسل الشعور والأظافر والعيون الكحيلة، وغير ذلك من التعليقات الجارحة.

وعجبت من هذا الكم الهائل من المعرفة الصحيحة والمغلوطة. وأشفقت على فتياتنا اللواتي يظنن أنهن بهذه المساحيق والخصل يثرن انتباه الرجل، وفي الحقيقة هو ينبهر للوهلة الأولى فقط، ولكن بعدها تعتاد العين النظر خاصة إذا كان مثلها ومعها مهرة وفرس وخيل أصيلة غيرها. وحين تعتاد أكثر، تبدأ —لقلة الحيلة ولقصر الفتيلة— تجد العيوب والنواقص في امرأة تجملت أكثر أو اخفت عيبا بسيطا.

لم تسلم حتى العروس من تعليقاتهم، وكان آخر ما سمعت منهم أنهم يودون لو يغسلون وجوه الحاضرات كلها، وشعورهن، بالذات ويلبسنهن ملابس عادية، ويخلعون عنهن كعوبهن العالية ليروا كيف سيبدين. وحيث إن فارق العمر كبير بيننا فلم أتعرض لعملية السلخ والجلد بلسانهم.

اقتربت منهم، وكلي ثقة بأني لها. دنوت أكثر وسألت أطولهم لسانا وأوسعهم ابتسامة: كيف ستبدو إن لم تشذب ذقنك الرجولية جدا لأسبوع مثلا؟ أو لم تحلق شعرك لشهر واحد؟ وكيف ستبدو بقميص لم تغسله أمك أو أختك وتكويه الخادمة؟ وإذا لم تملأ بطنك بأطايب الطعام فتقوى على الجلوس والقهقهة هكذا؟ ولم تتعطر بأفخر العطور وترتدي أرقى ماركات الساعات؟ وكيف ستبدو بدون حذاءك الملمّع؟ أو بأصابع قدميك الصغيرة الجميلة الرقيقة الناعمة الناعسة؟ تركته ولم انتظر ردا، فأنا متأكدة أنهم وجدوا موضوعا آخر للسخرية يضحكهم أكثر من الذي قبله.

عجيب! لماذا أصبح الشاب قاسيا هكذا؟ أين كلمات الغزل اللطيف التي تلاعب قرطي المرأة استئذانا بالدخول لإذنها؟ ماذا حدث لكلمات المديح التي تربّت على باب القلب؟ أو لكلمات المزاح التي تُضحِك المرأة فتتحرر من همومها وتتبع طائعة من فك القيود؟ لماذا أصبح الجرح والتجريح بلا كلمة اعتذار؟

تركت المكان، فزجاجات الكوكاكولا —التي لا يمل القائم على العرس من ملء الموائد بها— تتبخر سريعا ولا يبقى غير نصف الكأس الفارغ، بعد أن توهمنا ملئه، فإذا بها فقاعات لا تتحمل العيش لثوان لتغادرنا غير آسفة.

ذهبت إلى ركن قصي قرب باب المدخل، ربما خصص لأمثالي، جلست وحدي، طلبت نديمي ورفيقي: فنجان قهوتي السوداء. احتضنته بشفتي، تحدثنا، بقي صامدا وترك لي شيئا من ذكراه في النهاية، أجاذبها الحديث وتخفف عني الصمت حولي وتعزيني وتؤبن حلو الكلام.

= = =

(1) إحدى شخصيات برنامج تلفزيوني بعنوان "استعراض الدمى". الشخصية على شكل خنزيرة مفرطة في الزينة اسمها مس بيغي (Miss Piggy).

D 1 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010     A هدى الدهان     C 0 تعليقات