عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

إبراهيم يوسف - لبنان

النساج الضرير


أخي، إن عاد بعد الحرب جنديّ لأوطانه

وألقى جسمه المنهوك في أحضان خلاّنه

فلا تطلب إذا ما عدت للأوطان خلاّنا

لأنّ الجوع لم يترك لنا صحبا نناجيهم

سوى أشباح موتانا

ميخائيل نعيمة

.

"البيلسانة" وزهرها العطريّ الأبيض، ملجأ السنونو والنحل وعصافير الدوري، وفراش "الحواكير". تقوم في زاوية من زوايا الدار، قريبا من البئر؛ بجانب مستودع الحبوب، وكان يتّسع لبضعة "أطنان" من القمح ومختلف الحبوب الأخرى؛ على حساب اليوم.

هذه البئر تموّلها عبر الميزاب مياه الأمطار المنحدرة عن السطوح. تعيد إلى الأذهان ذكريات أليمة عن المجاعة وأعمال السخرة، وانتشار الجراد والأمراض لتكتمل المأساة.

تستخدم مياه البئر لريّ أحواض الزهور، "ومساكب" البقول، وتستعمل لسقي المواشي وكافة الأغراض المنزليّة الأخرى. أمّا مياه الشرب فمن "حاووز" في وسط القرية. تقف النسوة بالدور لملأ جرارهن، وتؤدّي غالبا قسوة الانتظار، إلى خلاف على الدور، واشتباك بالأيدي وشدّ الشعر، وتحطيم الأواني، والتّمرّغ في الوحل، والمشهد إذا استفحل لا يسلم من التّعرّي والإثارة.

تلك العين غيّبتها الصنابير اللامعة في المطابخ والحمامات، وتحوّلت إلى أثر بعد عين، فاختفت كما اختفى السنونو، صديقها ورفيق صباحاتها والمساء.

البئر حفرها في الصخر، هاربون من الجوع من قرى الجبل، إبّان الحرب الكونيّة الأولى، حينما كان الناس يفتّشون في روث الحيوانات، عن حبوب تساعدهم على بقائهم أحياء، وحينما كانت الأمّ تتخلى عن رضيعها على قارعة الطريق ليتولاّه نصيبه والقدر.

مات الناس جياعا، على حافة الطرقات حفاة عراة وبلا مأوى، أو متسوّلين في أزقة المدن في زمن لا يعرف رجاء ولا رحمة. يقول من شهد على المجاعة، أنّ المرأة كانت لا تتردد "تبيع" نفسها ثمنا للطعام، وهناك من يشتري بطبيعة الحال!

الموت جوعا ليس عملا بطوليا، كما الموت بالقنا على صهوات خيل لا تضام، أو في ساحات الوغى؛ رميا برصاص تتلقاه الصدور، أو بطولة يتمرد فيها الشّهداء على أعواد المشانق. الموت جوعا شكل من الخنوع، أو الرفض؛ دفع بموجات من المهاجرين المهزومين في بلدانهم؛ إلى دنيا الاغتراب.

أمّا سكّان الجبل؛ من "بني معروف" فقد لجأوا إلى إخوان لهم، في جبل حوران من سورية الشام. منطقة غنيّة بإنتاج الحبوب، والقمح أهمّها، واستمروا هناك طيلة الحرب، ومن بقي ممن تعذّر رحيلهم أو هابوا السفر فآثروا الجوع على الاغتراب، كانوا يتوسّلون شتى الأعمال لقاء طعام يكفي فقط للإبقاء على حياتهم. هكذا حفرت البئر في الدار.

في العام 1920، بعد الحرب الكونيّة الأولى، أعلن الجنرال غورو دولة لبنان الكبير. هذا القائد كان وضيعا. لم يكن مغوارا ولا بطلا. لعلّه لم يكن محترما حتّى في عيون زوجته أو جنوده، حينما خاطب صلاح الدين مقتحما عليه قبره شاهرا سيفه قائلا له: "ها قد عدنا يا صلاح الدين". لو كان شجاعا حقّا لخاطبه بشجاعة العربيّ وبأسه "أيّام صلاح الدّين". خطاب الكبير للكبير قائلا له: "سلام على الأبطال" تاركا سيفه في غمده؛ خارج أسوار المقبرة.

كان غورو يفتقر إلى الموعظة "الحسنة" عن حتمية التاريخ وعبرة الماضي، عندما لم ينس مع قادة آخرين هزيمتهم في فلسطين، فعادوا لاحتلال سورية، وتوهموا أنهم تمكّنوا من ترتيب أحداث التاريخ في إعادتها إلى الوراء، لكنهم فشلوا وخابت آمالهم؛ عندما اكتشفوا مقدمة ثورة عارمة، قادها أبناء صلاح الدين وأحفاده، أمثال الشهيد يوسف العظمة؛ والشهيد أدهم خنجر؛ وصادق حمزة الفاعور وسواهم من الأبطال الميامين؛ ممن تصدوا للحملة الفرنسيّة بصدورهم العارية، ليحمل المحتلّ عصاه ويرحل؛ مهزوما من جديد.

ذلك الجنرال الأرعن "المأزوم" من صلاح الدين في قبره، أعلن قيامة "لبنان الكبير"، بضمّ الساحل والبقاع والجنوب، إلى جبل لبنان، خدمة من فرنسا، "الأمّ الحنون" لأبناء الجبل، ممن يفتقرون في جغرافية مناطقهم إلى الزراعة والتوسع الاقتصادي.

ملكيّة واسعة من الأرض المروية الخصبة، يصل فيها حجم عرناس الذرة إلى حجم المولود الجديد، وطعم البطاطا لا يقلّ مذاقا عن طعم القشدة. تلك أهمية الأرض التي آلت إلى أمي وأختها الوحيدتين من ميراث أبويهما في زمن الخوف والمجاعة.
أحسن أبي إدارة ما يعنيه من أرض زوجته، فأضاف إليها لاحقا ملكية أخرى أوسع منها وأخصب، وصار يؤجّر لفلاحين آخرين، ما يزيد عن قدرته في العمل. يقضي الاتفاق عادة بين الطرفين، بأن يؤمّن المالك البذور ويحتفظ لنفسه بثلثي المحصول، بينما ينال الفلاح الثلث الباقي لقاء أتعابه.

لا ينبغي أن يتبادر إلى الأذهان أن أبي كان مستبدا أو إقطاعيا. هذا الرجل كان قبل الحرب وبعدها فلاحا نشيطا. يتقن عمله ويعتني عناية خاصة بثوريه والمواشي، وعليه تقاس كفاءة الفلاحين ومهارتهم في البلدة والجوار.

مؤمنا كان بلا تطرّف، يصلي ويصوم، يؤدي فريضة الزكاة وحجّ إلى بيت الله الحرام، معتدلا في صلواته وفي العبادات الأخرى، مقلا في الركوع والتراويح؛ معتقدا بفائدة العمل وقدسيته وإيثاره عمّا سواه من الشؤون الأخرى، حتى العبادة! أليس العمل بديل الموت والجوع!؟

يعود إليه الناس للمشورة والفصل في خلافاتهم، وإلى تخمين أسعار الأرض. قلما فشل في التوفيق بين المتنازعين أو ظلم أحدا في بيع أو شراء، من دخل بيته غاضبا تركه قانعا راضيا مطمئنا.

لكنّ الجرّارات الزراعية المبتكرة القادمة حديثا من بلاد الإفرنج، التي يختزل الواحد منها في ساعات قليلة، ما تقوم به عشرة ثيران في يوم كامل، كدّرت عليه عيشه؛ وتركته يتساءل فلا يجد جوابا واضحا، عما تؤول إليه حال الأبقار وأصحابها بعد أن تنتفي أدوارها أمام هذه الثورة الصناعية اللعينة، فتعامل مع أخبارها بجدية عالية وريبة كبيرة، واعتبرها مؤشّرا بالغ الخطورة في فترة التحوّل تلك، على أمان الفلاحين ومستقبلهم في أرزاقهم.

لكنني حتّى الساعة؛ لا زلت أجهل معنى لحاجة فلاّح كأبي إلى ساعة "لونجين" سويسرية الصنع مذهّبة للجيب، تكلف ما لا يقلّ عن ثمن ثوريه معا! ما دام يذهب إلى حقله مع طلوع الفجر، ويعود إلى بيته بعد مغيب الشمس، ويتناول طعام الغداء عندما تتناقص الظلال، وترتفع الشمس إلى كبد السماء، أو عندما يشعر بالجوع؟ إلاّ أن تكون عنوان سعة أو وجاهة، أو أنّه بالفطرة كان يدرك معنى الوقت، ويقيم وزنا للزمن؟!

(تصوّر مثلا: ساعة حديثة باهظة الثمن في هذا العصر، تفوق في سعرها "الرولس رويس" مقارنة بالثورين واللونجين في الأمس البعيد. تلك هي المعادلة الصحيحة). مهما يكن الأمر فقد اقتنى هذه الساعة. وكان يراكم نابضها الردّاد قبل أن ينام، الثامنة من كلّ مساء.

خرج يوما إلى الحقل والساعة في جيبه كالعادة، وسلسالها مربوط إلى عروة زر في سترته. عاد مساء وليست معه. وفي اليوم التالي تعب في التفتيش عنها، كاد يهدر وقته في التفتيش عن آلة الوقت، نقّب جيدا في ذاكرته لعلّه يهتدي أين أضاعها. لكنه عبثا فعل؛ ثمّ سلّم بالأمر ونسيها، ولم يأت على ذكرها فيما بعد.

عندما أقبل الخريف في العام التالي، موعد العمل في فلاحة الأرض ورشّها بالبذور، وجد "ضالّته" مدفونة في تراب الحقل. نفض عنها التراب بعد عام كامل، وركم نبّاضها من جديد، فإذا مؤشر الثواني ينطلق في حركة منتظمة رتيبة. مع ذلك وحرصا منه عليها فقد أرسلها إلى "ساعاتيّ" من طائفة الأرمن، قام بتنظيفها وصيانتها، وأعادها إليه، ليروي حكايتها ودقّة صنعها لعشرات الناس، وترافقه في كثير من سنوات عمره.

أشكر الله صادقا أنّ أبي مات. أدرك صناعة الساعات؛ والجرّارات الزراعيّة واكتفى. لم يدرك مدنيّة "الأبواب الموصدة"، والأصوات الخافتة، ولا أدرك المكيّفات "والبلاك بيري" وزمن "الإنترنت". لكنّه بلا شك حمل معه إلى العالم الآخر ذكرى القنابل النووية، ومفعولها الرهيب في هلاك البشر والشجر والحجر.

هذه المدنيّة تواطأت مع غربة تنكّرت لنفسها، وقتلت في القلب الحنين، والذكريات فقدت أهميتها، مات إيليا أبو ماضي وشعره بات أبكما من كلّ معنى:

وطن النّجوم أنا هنا = = حدّق، أتذكر من أنا؟

أنا من مياهك قطرة = = فاضت جداول من سنا

أنا من طيورك بلبل = غنّى بمجدك فاغتنى

حمل الطلاقة والبشاشة = = من ربوعك للدّنى

فالمرء قد ينسى المسيء = = المفتري، والمحسنا

لكنه مهما سلا = = هيهات يسلو الموطنا

أبي لم يذق طعم المشروبات الغازيّة، ولا المأكولات المعلبة "والهمبرغر"، ولم ير سراويل "الجينز" تفضح عري النساء. لم تكن له عائلة أو عشيرة يلوذ بسلطانها ليكسب احترام الآخرين. كان عفيف النفس خجولا من النظر في عيون النساء. كان (يغضي حياء ويغضى من "صلابته")، ولم يعرف امرأة قط إلاّ زوجته.

في سنواته الأخيرة توقف عن نصحنا والتدخل في أمورنا، وحينما انطفأ نور عينيه صار يتلمّس ملامح أحفاده بيديه؛ كالنسّاج الضرير، يفتش عن قسماتهم بأنامله ينقلها من الذقن إلى الفم والأنف يتوقّف عند العينين وينتهي بملاطفة طويلة على الشعر. ثم عزل نفسه وانقطع عن الناس، وكان واعيا مدركا لما يجري حوله في لحظات الاحتضار الأخيرة. لعلّه لو كشف لي عن سرّ تلك اللحظات الرهيبة، لآمنت أو استهنت بها وحسمت أمري، فتبت إلى ربي أو تماديت في غيّ وضلالي.

= = =

هوامش

"البيلسانة": شجرة مهدها الأصلي، أوروبا وآسيا الشماليّة، زهرها أبيض وعريض، لعلّها من فصيلة "البخوريات".

"مساكب": مفردها مسكبة (عاميّة)، مكان تبذر فيه الحبوب ويعتنى بها، منها ما يبقى في موضعه، ومنها ما ينقل ويزرع في مكان آخر.

"الحواكير": مفردها حاكورة، قطعة أرض في جوار المنازل والدور؛ مخصّصة لزراعة الأشجار.

"الحاووز": خزان من الإسمنت المسلح، تتجمع فيه مياه الشرب من الينابيع المجاورة، هو (العين).

روث: سرجين البقر (ونفايات) كل ذي حافر.

"بنو معروف": أبناء الطائفة الدرزية.

حوران: هو جبل (الريّان) من العهد الإسلامي، مرورا بالعهد الأموي وحتى أواخر العهد العباسي. تغنّى به جرير الشاعر الأموي فقال:

يا حبّذا جبل الريّان من جبل وحبّذا ساكن الرّيّان من كانا

حيّ المنازل إذ لا نبتغي بدلا بالدّار دارا ولا الجيران جيرانا

يوسف العظمة: من عائلة دمشقيّة عريقة. حارب الفرنسيين في معركة ميسلون، معركة غير متكافئة: ثلاثة آلاف من المجاهدين بأسلحة قديمة، مقابل تسعة آلاف جندي نظامي، مسلحين بالدبابات والمصفحات والطائرات. استشهد يوسف العظمة مع بضع مئات من المجاهدين.

أدهم خنجر: ثائر ومقاوم من لبنان الجنوبي، أطلق النار على الجنرال غورو؛ فاستقرت الرصاصات في ذراعه الاصطناعية، وتسبّبت في نجاته. لجأ إلى منزل سلطان باشا الأطرش للحماية، واعتقله الفرنسيون في غياب صاحب الدار، وأعدم لاحقا في بيروت. وعندما عاد سلطان باشا الأطرش وعلم بواقعة اعتقال أدهم خنجر من بيته، أقدم على إحراق المنزل لأنّه على ما قال، لم يحم مستجيرا، الأمر الذي ساهم كثيرا في اندلاع الثورة ضد الفرنسيين.

D 1 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010     A إبراهيم يوسف     C 0 تعليقات