جميلة عبد الرحمن - الجزائر
بقايا امرأة
رنّ جرس الهاتف عازفا تلك الألحان الخالدة لسيمفونية الفصول الأربعة. ومع النغمات الأولى، وقبل أن تفتح عينيها، مدّت مريم ذراعها لتلتقط هاتفها المحمول من فوق الطّاولة الصّغيرة على يمين سريرها. بضغطة واحدة على الزّر الأخضر خنقت تلك الألحان التي اختارتها رنّة للمنبّه. ربّما خانها ذكاؤها المعهود حين جعلت من تلك الألحان الجميلة مصدر إزعاج يوميّ لها.
وبصعوبة كبيرة استطاعت أن تفتح إحدى عينيها لتتأكد بانّ المنبّه لم يغشها كما كانت تتمنى، وأنّ السّاعة فعلا السابعة، بل قد تجاوزتها بدقيقتين. ما أثمن الوقت في هذه الفترة من النهار فهو على غيره في الأوقات الأخرى يحسب بالدقائق والثواني!
نزعت من عليها الغطاء ثم نزلت من السّرير منتصبة بصعوبة تتحسّس برجليها موقع الشبشب القطني الذي وبعد محاولات عدّة برجليها يمينا وشمالا أفلحت في انتعاله، ثم سارت نحو الباب وهي تسمع مفاصلها تعزف سيمفونية السّنة الثالثة بعد الأربعين من عمرها، والتي عادة ما يصاحبها عزف انفرادي جعل من أعصابها أوتارا يؤلّف منها بعض المقطوعات التي تكون أحيانا خفيفة محتملة، وأحيانا ثقيلة مملّة، إنّه الصّداع الرّهيب الّذي أصبح يسكن رأس مريم منذ شهور، فبعدما كان مجرّد ضيف يطرق باب رأسها من حين إلى آخر ومجرّد زائر ثقيل، ها هو، وبكل وقاحة، أصبح ساكنا شبه دائم، بل وقد أجبرها على الرّضوخ له والتّعوّد عليه والرّضا به محتلّا، يسكن رأسها ويشلّ تفكيرها في أحيان كثيرة لدرجة أنّها أصبحت تحنّ إليه وتتعجّل زيارته إن غاب وترك الدماغ شاغرا وحاولت محتلات أخر أن تحلّ محلّه، فالصداع بالنسبة لها أهون وأرحم من تلك الأفكار السّوداء السّامة، الّتي ولحسن حظّها وقوّة إيمانها ليست مميتة، إذ أنّ مفعولها محدود يتراوح بين الشدّ على الأعصاب تارة والألم تارة أخرى. ولكن أكثر ما صارت تخشاه مريم أن تصبح مزمنة فيصعب التّخلص منها أو يستحيل إن تركت لها فرصة إحكام قبضتها أكثر فأكثر: أفكار لا تتوانى في تحيّن الفرص المواتية النّادرة التي تكون فيها مريم شاغرة الذّهن، مرتاحة البال لترمي بكل ثقلها، مغتنمة فرصة غياب الصّداع لتأخذ مكانه وتبسط سيطرتها.
حاولت مريم مرارا إقناع نفسها بأنّه لم يعد يهمها وهي في هذه السّن ما يقوله الناس من حولها عن عنوستها وعن عيشها لمفردها، وبالفعل ما كان يبكيها بالأمس لم يعد يستحق منها ولو لحظة من الاهتمام أو التّفكير.
لا شكّ أنّ السّنين الطّويلة المتعاقبة عليها أكسبتها قوّة وصلابة لمواجهة أيّ كلمة جارحة أو نظرة خبيثة أو همسة حقيرة أو غمزة دنيئة. لقد أقنعتها الأيام بفكرة لخّصتها في جملة كثيرا ما كانت تردّدها بينها وبين نفسها، فكثيرا ما تقول "ما دامني صافية مع ربّي ما يهمنيش كلام النّاس."
أما في لحظات ضعفها، كما يحدث لكثير من الناس أن يضعفوا، فإنّها تكاد تصرخ في وجوههم قائلة: "دلّوني على سوق يمكن أن يشترى فيه الأهل والأزواج"، وهي تقصد بالأهل غير الأعمام والأخوال، فقد علّمتها الأيام أنّ من أصدق الأمثال وأدقّها تعبيرا عن الواقع ذلك الذي يقول: "بعد يمّا وبابا كلّ الناس كذّابة".
لقد أصبح الصّداع أنيس مريم الوحيد في لياليها الطّويلة حيث الوحشة والوحدة. أما أغرب ما كان يحيّرها هو وجهته في النهار رغم أنّها متأكدة أنّه لا يبتعد عنها لحظة، فهو موجود ولكنّه مختف وراء صخب النهار، وضوئه، وضوضائه وكثرة انشغالاتها خلاله، خاصة في العمل، وما أكثرها! منذ أن شغلت منصبا كبيرا وهامّا في إحدى الشركات الوطنية الكبرى.
أما حكايتها مع الصّداع فقد أخذت طابع المواجهة في أول عهدها به، وبعد محاولات كثيرة للقضاء عليه بالمسكّنات استسلمت له في النهاية، خاصة بعد أن عرفت أنّه في مثل حالتها ثمة احتمال كبير أن يكون نتيجة ما يطرأ من تغيير على العمل الهرموني عند المرأة، حيث يبدأ هذا الأخير في التغيّر بالنّسبة لنساء كثيرات بعد تجاوزهنّ العقد الرابع. وبهذا وجدت مبررا لملازمته لها، ما جعلها تستسلم للواقع ولا تكترث له، بل ذهبت إلى حدّ مقاطعة الحبوب المسكّنة التي أصبح ضرّها أكثر من نفعها، كما أنّ من أهم شعاراتها "وجوب ترك الطبيعة تعمل كما أرادها الله عزّ وجلّ. "
لم تقتنع مريم أبدا بالعلاج الهرموني الذي سمعت عنه الكثير من بعض النسوة من صديقاتها وزميلاتها وما يحققه من نتائج تدخلها بعضهنّ في خانة المعجزات. كيف لا وهو يعيد لهنّ، أو يتوهّمن أنّه أعاد لهنّ بريق شبابهنّ الذي بهت مع الأيّام، ووهج أنوثتهنّ الذي أفل، تلك الأنوثة التي تبدأ في الاضمحلال والتّلاشي مع حلول ما تعتبره المرأة أخطر عدوّ لها وهو ما اصطلح على تسميته بسنّ اليأس.
كثيرا ما سمعت بعضا من أولئك النسوة ممّن جرّبن هذا النوع من العلاج يستعرضن تجاربهنّ معه ويسترسلن في الكلام والشرح عن كيفية قضاء هذا العلاج على تلك الأعراض النفسية والجسمية، ويدّعين، أو هكذا تهيّأ لهنّ، أنّهنّ استرددن شبابهن ومعه بريقه وحيويته.
ومع أنّ مريم لم تلج بعد عالم ما يسمى بــ "سن اليأس" بل هي على مشارفه فقط، فقد دخلت مرّات عدّة في نقاشات حادّة مع من أصبحن مهووسات بمحاربة أعراضه بكلّ الوسائل، فكثيرا ما كانت تقول للعنيدات منهنّ "الّلي عاش وقته ما يطمع في وقت النّاس."
وقد حاولت مرارا أن تقنعهن بأنّ إحساسهن باسترجاع بعض ممّا سقط منهن في درب العمر وأخذته منهنّ السنين المتعاقبة، الفائقة السرعة في نظر معظمهنّ، مجرّد وهم. وكم كانت تأسف لحال أولئك النّسوة اللواتي سخّرن معظم وقتهنّ ومالهنّ للقضاء على ما يخلفه تعاقب السنين عليهنّ من "خراب" عند المتشائمات، و"دمار" عند الأكثر تشاؤما، وقد جعلت بعضهن مهمة محاربتها والقضاء عليها شغلهنّ الشاغل، خاصة اللواتي يخفن على أزواجهنّ ويخشين المنافسة غير الشريفة وغير المتكافئة لأنّ المنافسات عادة ما يكنّ شابات في مقتبل العمر فيعتبرن أنفسهن في معركة، الخاسرة فيها من لا تعتني بنفسها وبمظهرها،
وعندما كانت تريد ممازحتهنّ تقول لهنّ مريم: " الحمد للّه ليس لي زوج أخاف عليه". وكم مرّة تظاهرت بعدم فهم قصدهن الّذي ظاهره إطراء وباطنه لؤم الأنثى ونفث لسمّ لسانها حين يقلن لها:
"لقد احتفظت برشاقتك وخاصة كرشك التي بقيت مسطحة، ليس مثلنا فقد شوّهنا الحمل وأضعفتنا الولادة ورهلت بشرتنا وأسقطت شعورنا وهشّت عظامنا وأسناننا."
وكأنّهنّ يقلن لها: "إنّ ما تتمتعين به من جمال دفعت ثمنه غاليا."
ولم يكن ينقصها هي الأخرى دهاء الأنثى ومكرها حين تقول لهنّ:
"ما تقلنه ليس قاعدة عامة، بالعكس أعرف نساء كثيرات أضاف الحمل والولادة الشيء الكثير لأنوثتهنّ وجمالهنّ."
بعد أخذها لحمامها اليومي ووضعها ملابس العمل التي كانت شديدة الحرص على التنسيق بينها خاصة من ناحية الألوان، فأكثر ما كان يزعج نظرها أن ترى شخصا بلباس لا تمتّ ألوانه بصلة لبعضها البعض، فقد حدث في فترة شبابها أنّ من ضمن الخطّاب الذين رفضتهم واحدا لم ينقصه شرط من الشّروط التي كانت بالنسبة لها من المسلّمات التي لا يمكن التنازل عنها ولا تسمح حتى بالنقاش فيها، فكلّ ما كانت تتمناه متوفر فيه: جامعي، وسيم، طويل القامة، مرتاح ماديا. ولكنّها صدمت أمّها المسكينة حين فاجأتها بالرّفض لهذا الرجل الذي كانت ترى فيه أمها الصّهر المناسب، ولم تكن تتصوّر أبدا أنّ ابنتها سترفضه لمجرّد أنّه ارتكب خطأ فادحا حين حضر يوم الخطبة بلباس اجتمعت فيه كلّ الألوان الصارخة. تضحك مريم كلّما تذكرت هذه الحادثة التي تعتبرها صورة من صور طيش الشباب، وأحيانا تردّ ذلك للقدر والمكتوب.
حين كانت مريم تمشط شعرها الأسود الناعم، لاحظت أنّ شعرات بيضاء جديدة انضمّت إلى أخر سبقنها منذ شهور. قالت في نفسها وهي تنظر إلى هذه الغازيات الجدد: الأمر لم يصل بعد إلى درجة الاستنفار، أرى أنّه لا زال أمامي الوقت الكافي لأنضمّ إلى صفوف الشقراوات والحمراوات، فالمرأة عندنا إن كانت لا تجرؤ على صبغ شعرها قد تجد في الشّيب مبررا لتحوّل نفسها إلى شقراء ربما طالما تمنّت أن تكونها، وفي هذه الحالة الكلّ يعذرها ويتفهّم حالها.
بعد مشط شعرها نظرت إلى وجهها فزادها ذلك اطمئنانا فهو الآخر لا يدعو إلى القلق والاهتمام، بل دفعها إلى حمد الله وشكره أن وهبها سبحانه وتعالى بشرة بلون القمح أثبتت البحوث العلمية أنّ لها مقاومة أكبر من البشرة البيضاء لمساوئ العوامل الطبيعة وصمودا أقوى أمام هجمات الزمن، وبشهادة العدوّات قبل الصديقات، فمريم وهي في الثالثة والأربعين تبدو وكأنها لم تتجاوز الثلاثين، فهي من النساء اللواتي يصعب عليك تحديد سنّهنّ، فلقد أمنت شرّ ما تخشاه جلّ النسوة وتعتبرنه عدوّهنّ اللّدود، فلحسن حظّها، لم تبل بعد بالتّجاعيد، ولم تجد طريقا إلى وجهها إلّا تلك التي تسمى بتجاعيد التعبير.
لقد حدث وأن تطرقّت إلى موضوع التّجاعيد وكان موضوعا ساخنا شهده مكتبها في العمل، وكان من مواضيع الساعة النّسوية البحتة، حيث احتدّ فيه النقاش بينها وبين زميلتها نادية الّتي لم تكن تجد مانعا في لجوء المرأة لعمليات التّجميل إن توفّرت لديها الشروط المادية، وإن كان ذلك يساهم في القضاء على توترها النّفسي والحفاظ على حياتها العاطفية، فالمرأة في نظر نادية أصبحت الضحية الأولى لوسائل الإعلام والإشهار وكل ما يحدث يوميا في عالم الجراحة التّجميلية، وفي البحث في مجال مستحضرات التجميل البالغة التكلفة والتي تأخذ قسطا وافرا من ميزانية الأسر التي يقال عنها "أسر عصرية"، وتذكر لها أمثلة عن فتيات يخرجن للعمل براتب زهيد ويكتفين به مادام يوفر لهنّ أساسيات المرأة العصرية من لباس تتجدد أزياؤه كل شهر، ومساحيق وعطور ففي وقتنا الحالي كما تقول العجائز عندنا: " لم نعد نفرّق بين المرأة المتزوجة والعزباء."
أما مريم فرأيها في هذا الموضوع لم يتحلحل أبدا فهي تقول دائما:
"حقيقة، إنّ العلم سلاح ذو حدّين، فالطبّ مثلا من جهة تطوّر كثيرا في مجال علاج الأمراض والقضاء على بعضها الذي كان إلى زمن غير بعيد مستعصيا والشفاء منه مستحيلا، ومن جهة أخرى تفرّعت منه تخصّصات حادت عن الدور المنوط بها وعن الهدف المنشود أصلا منها وهو ترميم لتشوّهات خلقية بارزة وخطيرة نتيجة الحوادث والحرائق وتحوّلت إلى عملية تمثيل وتنكيل بوجوه خلقها الله فأحسن صورتها، فمهما اجتهد الجرّاح في محاولته تحسين وجه إنسان ما وإعادة رسم خطوطه أو تغيير معالمه، فلن يكون أبدا في روعة الصورة الطبيعية التي فطره الله عليها، فالوجه المصنوع مجرّد قناع قضى نهائيا على أمل صاحبه في الرجوع إلى الوجه الأصلي."
وتتساءل مريم:
"ترى، ما إحساس المرأة التي غيّرت شيئا أو أشياء في وجهها وحنّت إلى وجهها الأصلي؟ هل رؤية وجه إنسان في صورة ورقية ثابتة أو حتى صورة فيديو متحركة تغنيه عن رؤية وجهه الأصلي وتكفي للقضاء على حنينه واشتياقه إلى ذلك الوجه الذي رافقه منذ الطفولة وكان عنوانا له وعلامة خاصة به دون غيره من خلق الله وكانت صورته أبرز مصادقة لوثائقه الشخصية والرسمية، وجهه الذي ورث ملامحه عن أبيه، أو عن أمه، أو عن كليهما معا؟ وماذا يفعل إن كان قد فقدهما؟ أين يجد شكل أنفه أو شكل عينيه أو وجهه؟ أظنّ ما عليه في هذه الحالة إلّا أن ينتظر نسله، ابنه أو ابنته. قد يرحمه الرّحيم بأن يخلق فيهما ما قام برميه في لحظة فراغ أو ضعف."
وقبل أن تخرج من المنزل ألقت مريم نظرة أخيرة في المرآة الكبيرة المعلّقة على أحد جدران رواق شقتها واطمأنت من خلال ذلك على منظرها العام وتأكّدت أنّ شكلها متناسق وأنّ الكلّ يتناسب مع الكلّ: الحذاء، والسّروال، والمعطف، وحقيبة اليد. ثم وهي تمدّ يدها لأخذ المفاتيح المعلّقة على حاملها خلف الباب عادت مسرعة إلى الغرفة لتبخّ على رقبتها قليلا من عطرها المفضّل والذي أصبح من العلامات المميزة لها.
نظرت إلى الساعة ثانية وكانت قد تجاوزت السابعة بثلاثين دقيقة. خرجت مسرعة نحو الباب الذي أقفلته بإحكام وراءها، فغلق الباب أصبح هو الآخر يأخذ نصيبا من الوقت خاصة بعد أن كثرت أقفاله، فمن فترة إلى أخرى كانت تضيف قفلا جديدا. وهكذا أصبحت الأقفال تتكاثر مع مرور الزمن، وكأنّها صارت تحتفل بكلّ بضعة سنين بقفل جديد قيل لها إنه الأوثق والأمتن.
دخلت مريم قاعة مكتبها وهي مدثرة بمعطفها الأسود السّميك الذي كثيرا ما تلجأ إليه في أيام وسط الشتاء، فلا حرارة البيت التي تصنعها مدفئة الغاز ولا تلك الحرارة الخانقة للأنفاس المنبعثة من مدفئة السيارة استطاعت أن تبعث الدّفء في جسمها وهي المعروف عنها الصحة الدائمة وإشراقة الوجه الملفتة، التي جعلتها من المحظوظات اللائي اختار الناس أن يضعوهن في خانة النساء الجميلات.
إنه برد من نوع خاص لا تشعر به إلّا مريم وغيرها من نساء قضت عليهن الحياة بالوحدة والحاجة للأنيس، زوجا كان أم ابنا أم أخا، الحاجة إلى إنسان يحبّهن بصدق، يخاف عليهنّ وتخفن عليه، يشاركهنّ أفراحهنّ وأحزانهنّ ويتقاسم معهنّ نجاحاتهنّ وانكساراتهنّ. ويزيد إحساسها بالبرد أكثر فأكثر لما تدخل المكتب وتجده، لأول مرّة منذ أن وطئت قدماها مقر عملها، خاليا من صديقتها ورفيقة دربها المهني نادية.
وجدت مريم نفسها وحيدة تحتضنها جدران قاعة بهت لون طلائها كبهوت وهج الأيام والشهور والسنين المتعاقبة عليها، سنين لا يتغير فيها شيء إلا أعدادها وما تجره معها من أمور ظهر منها ما ظهر، وبطن منها ما بطن.
نزعت مريم معطفها. جلست على كرسي مكتبها وبحركة روتينية قامت بتشغيل حاسوبها. نظرت إلى السّاعة وهي تفكر في أمور منطقية قد تكون عطلت نادية عن الوصول إلى الشركة، ولكن ما لم يكن منطقيا أن تمر ساعة كاملة على غيابها.
أصبحت نادية بالنسبة لها هي الأهل الذين فقدتهم بعد موت والديها، وهي الأخت التي عوضتها عن تلك المهاجرة إلى ما وراء البحار، وهي الوحيدة التي بإمكانها أن تكسر عليها روتين حياتها وتضيف ملحا يقضي على سماجة أيّامها بقصصها التي لا تنتهي عن البيت والزوج وخاصة عن أولادها الثلاثة الذين لا تنتهي متاعبهم ومغامراتهم السعيدة منها والحزينة، أولئك الأطفال الذين طالما حظوا بحب "طاطا مريم"، كما كانوا ينادونها، فكثيرا ما كانت تشاركهم ألعابهم ولا تجد أي حرج وهي تنزل إلى فئتهم العمرية وأحيانا إلى مستواهم الفكري، تلاعبهم وكأنها طفلة صغيرة ولكن في الثالثة والأربعين، فأسعد الأوقات بالنسبة لها كانت تلك التي تقضيها وسطهم مستمتعة إلى أقصى درجة ببراءتهم وبأشعة الفرح المنبعثة من عيونهم وهم متلهفون لمعرفة نوع الهدايا التي كانت تغدق عليهم بها بمناسبة وبدونها، تقاسمهم لحظات الفرح والبهجة وهي ترى كيف ودون حسابات يمزقون أغلفتها الورقية للكشف عن كنهها، وعين كل واحد منهم على هدية أخيه قبل هديته، فأمور بسيطة كهذه كفيلة بان تجعلها في قمّة السعادة.
لم يفلح الصوت الصّادر من جهاز الحاسوب في تكسير وحشة المكان، ودون وعي منها قالت وبصوت مسموع: " كم هو موحش المكتب دونك يا نادية! "
ولم تكد تنهي الجملة حتى دوّى رنين الهاتف ما جعلها تقفز من مكانها، وبيدين مرتجفتين وقلب تسارعت نبضاته، حملت مريم السماعة وقالت بصوت مرتعش:
" ألو، من؟"
وبصوت خنقته الدموع، ردت نادية: "صباح الخير مريم."
قاطعتها مريم بلهفة: "من؟ نادية؟"
وبكلام لا يكاد يفهم قالت: "نعم، من فضلك مريم اطلبي لي عطلة."
وحينها وصل خوف مريم على صديقتها إلى أقصى ما يمكن أن يبلغه خوف إنسان على إنسان آخر، فقالت:
"لماذا؟ وكم يوما؟"
"لا أدري، ولكن أخبري المدير أنني بحاجة إلى عطلة."
"أين أنت؟"
"أنا في المستشفى الجامعي."
نزل خبر صديقتها عليها كالصاعقة. ارتدت معطفها الأسود ثم توجهت مسرعة نحو مكتب المدير. لا تتذكر إن دقت على الباب أم لا ولكن ما تتذكره أنها لم تطلب العطلة لنادية فحسب بل لنفسها أيضا دون تقديم أدنى تبرير أو تفسير لذلك، وخرجت مسرعة تاركة المدير في حيرة لا يفهم شيئا، حارمة إياه حتى من استعمال حقه، ولو صوريا، في التفكير في القبول أو الرّفض.
توجّهت مريم إلى موقف السيارات التابع للشركة، ركبت سيارتها وانطلقت بها كالبرق لتكون بعد بضعة دقائق أمام المستشفى. وبعد مرورها على مصلحة الاستعلامات، أسرعت نحو صديقتها التي وجدتها جالسة على مقعد خشبيّ مستطيل، مستندة إلى جدار في رواق طويل لا ينتهي، وعلى يمينها باب كتب عليه "غرفة الإنعاش".
كان الرّواق طويلا موحشا وقد طليت جدرانه بلون أزرق يزيد من شعورك بالبرد رغم العدد الكبير للمدافئ المائية الموزعة على إحدى حافتيه. أوشكت مريم ألا تتعرّف على صديقتها لتبدّل لونها وملامح وجهها. سبحان الله! كيف يمكن للإنسان أن يتغيّر بين عشية وضحاها؟ هذه فكرة ضمن أخرى كثيرة تضاربت في رأس مريم وهي ترى صديقتها. إن لم تكن المريضة، فمن المريض إذن؟ ولماذا هي لوحدها؟ أين زوجها؟ وأسئلة أخرى لا تدري إن كانت قد طرحتها بالفعل على نادية.
أما نادية، وبطريقة آلية وهي تعانق مريم، فقد أخبرتها باكية أنها جاءت بابنها الأصغر إلى المستشفى حيث أجريت له عملية جراحية مستعجلة لإيقاف نزيف داخلي ببطنه. المسكين لم يتحمل طحاله الغض الصغير تلك السقطة العنيفة على حافة الطاولة الرخامية حين كان يسابق أخته وهما يلعبان في صالون البيت. ولأنّ المصيبة عادة لا تأتي إلا مرفقة بأخواتها فقد حدث ذلك ليلا وفي غياب زوجها الذي بعث في مهمة عمل.
لم تجد مريم ما تقدمه لصديقتها غير التعاطف معها والدعاء للصغير، باذلة قصارى جهدها في إخفاء دموعها والألم يعصر قلبها، ففي مثل هذه المواقف لا يجد الإنسان ملاذا يلجأ إليه غير الصمت لأنه يكون أبلغ من أي كلمات، حيث المتكلم لا يجد ما يقول ولا حتى المتلقي يكون في حالة استعداد للاستماع.
ساعات طويلة قضتها الصديقتان في ذلك الرواق البارد، كم كان المكان رهيبا رغم ذهابات وإيابات أصحاب المآزر البيضاء والمآزر الخضراء وحتى الوردية التي تكاد لا تنقطع! ما أكثر هؤلاء المتحركين! وما أثقل صمتهم! ففي مثل هذا المكان يتهيأ لك أنك داخل فقاعة زجاجية خفية، ترى الناس ولكن لا تسمعهم والألم يعتصرك دون أن تجد من يكترث لحالك ولا حتى من يحاول التخفيف عنك مهما كان مصابك جللا، مصابك في فلذة كبدك، فالأولوية هنا للجرح المادي المرئي أما الجرح المعنوي غير المرئي فلا يستحق من هؤلاء حتى كلمة تطمئن أو تبعث الأمل، وفي هذه الحالة ما عليك إلّا أن تتحلى بالإيمان وتستجمع قوتك وصبرك وتترك الأمر لصاحب الأمر كلّه.
ومع اقتراب موعد الوقت المخصّص للزوار كان مهدي قد استفاق من غيبوبة التخدير، وسمح لأمّه، واستثناء هذه المرة، كما يقولون دائما، لطاطا مريم أن ترياه. من يرى نادية وهي مبتسمة وعيناها تشعّان نورا بعد اطمئنانها على فلذة كبدها لا يحسبها أبدا تلك الجثّة المتنفّسة قبل لحظات قليلة.
عاشت مريم تلك الأوقات العصيبة وكأنها تجترّ تجربة مرّت ليست بالغريبة عنها مثلما يحدث لكثير من الناس حين يحسّون في مواقف معيّنه انه سبق لهم أن عاشوا نفس الأحداث من قبل، ولكن لا المكان ولا الظروف كانت تسمح بالنبش في الذّاكرة.
وفتح باب المستشفى للزوار وبدأ العوّاد يصلون فرادى وجماعات، وصل الأخوال والخالات والأعمام والعمّات حتى أصبح المكان يعجّ بالنّاس، المتفهّم منهم والعنيد، البسيط والمتعجرف، كل حسب طبعه يستقبل عبارة «ممنوع الزيارة"، الكل التفّ حول نادية سائلين ومستفسرين.
وفي خضّم ذلك الهياج لم ينس بعضهم، خاصة الجنس الّلطيف منهم، أن يرمق مريم بنظرات فهمت منها ما أردن قوله، فما كان عليها إلا أن تستأذن صديقتها بالانصراف بعدما سمعت ما قالته عيونهنّ ولم تنبس به شفاههنّ، فلطالما تعرضت نادية وزوجها للمشاكل من طرف أهله يعيبون عليه السّماح لزوجته مصاحبة امرأة "عانس" وتسكن بمفردها.
وصلت مريم بيتها منهكة القوى منهارة النفس، فاليوم لم يكن عاديا بالنسبة إليها، بدايته كانت قلقا وخوفا وحيرة وخاتمته لم تكن مسكا. ربما صعوبة ما عاشته خلال اليوم أضعفت مناعتها وأفقدتها السيطرة على أحاسيسها وانفعالاتها، فمريم تلك المرأة القوية المثقفة الجميلة المعروفة بالصلابة ورجاحة العقل خانتها شجاعتها اليوم وانهارت لمجرّد نظرات وقحة لنساء لا تجد مبرّرا لغرورهنّ.
دخلت غرفتها، وارتمت على سريرها وكلّ أوصالها تشكو البرد والتعب، حاولت الاستسلام للنّوم وهي تعلم أنه لن يكون لها ذلك إن لم تأخذ أميرة في أحضانها. كانت أميرة كما تركتها في الصباح، في مكانها لم تبرحه بفستانها الأبيض الجميل وجدائلها الطويلة الصفراء المصفّـفة بعناية، مستلقية على جانب السرير مغمضة العينين.
مدّت مريم ذراعيها وحملتها برفق، فتحت أميرة عينيها وكأنها كانت على أهبة الاستعداد للّحظة التي تُحمل فيها، كيف لها أن تفتح عينيها وقد شاء صانعها ألّا تفتحهما إلّا إذا كانت في وضع عمودي. نظرت مريم إلى دميتها، ثمّ ابتسمت وهي تقول لها:
"الآن عرفت سرّ الإحساس الذي انتابي لمّا رأيت خوف نادية وقلقها على ابنها وخوفها الشّديد من فقدانه."
واصلت محادثة دميتها، وعادت بها الذّاكرة إلى ما يقارب الأربعين سنة إلى الوراء.
"أتعرفين؟ لقد كدت أفقدك إلى الأبد، لولا..."
توقفت عن الكلام لحظة ثم واصلت: "اسمعي، سأروي لك قصّة لم أروها لأحد من قبل."
كنت طفلة صغيرة في الثّامنة، حين جاء بنا أبي من قريتنا السّاحلية الجميلة السّاحرة بطبيعتها حيث تجد العين فيها كلّ ما تشتهيه من خضرة الأرض بأعشابها المتنوعة وأشجارها المثمرة وغير المثمرة، وزرقة السماء التي تعانق أحيانا زرقة البحر فيشكلان كيانا واحدا وأحيانا ينفصلان فيصبح كلّ منهما امتدادا للآخر. ورغم فقر أهلها وبساطتهم في طريقة العيش إذ كانوا يعتمدون فيها على الزراعة، فالحياة فيها كانت هادئة سعيدة لأيّ طفل، ولكن أجمل ما كنت أجده فيها ولعلّ ذلك ما جعلني أعشق الجزائر العاصمة حين قدومي إليها رفقة أبي وأمي وأختي حين كنت طفلة صغيرة ذات الأعوام الثمانية هو إطلالتها على البحر الذي وأنا صغيرة وجدته القاسم المشترك الوحيد بين مدينة كبيرة كالجزائر البيضاء كما لقّبها المعمّرون أو "البهجة" كما يسمّيها العامة أو عروس البحر الأبيض المتوسط كما يحبّذ بعض الشعراء والفنانين تسميتها وبين قريتنا الصغيرة.
لقد جاء بنا أبي، أنا وأمي وأختي التي تكبرني بسنتين، ليستلم عمله كحارس في إحدى مدارس الجزائر العاصمة، مديرها كان أحد أبناء القرية الذين هجروها إلى المدينة للدراسة فكُتب له أن يستقر ويعمل فيها. كان المدير رجلا طيّبا قدّم لأبي كلّ التّسهيلات ليستقرّ في العمل والسكن التابع للمدرسة.
كانت للمدير طفلة وحيدة مدلّلة، وبحكم سنّنا المتقارب سجّلت في نفس القسم الّذي تدرس فيه فكنّا معا طول الوقت أثناء الدروس وبعدها، نلعب في ساحة المدرسة وهي خالية من التلاميذ خارج أوقات الدّراسة وخلال العطل. كانت لابنة المدير دمية جميلة تلعب بها، ومن حين إلى آخر تسمح لي بحملها، فكانت تلك المرّات الأولى التي أحمل فيها دمية حقيقة بشعر وفستان غير تلك التي كنت أصنعها بحبّات البطاطا والقصب.
كنت كلما أدخل البيت لا أتوقّف عن الحديث عن تلك الدمية. لاحظ أبي ذلك فوعدني أن يشتري لي واحدة من أوّل راتب يقبضه من عمله الجديد، وبالفعل كان لي ذلك. ولا أدري ربّما لأنه ذهب إلى أقرب دكّان فاشترى لي واحدة تشبه دمية ابنة المدير. كاد يومها يطير عقلي من الفرح، ولمّا حان وقت الّلعب أخرجتها معي، فما إن رأتها ابنة المدير حتى تغيّرت تصرفاتها معي ومعاملتها لي رأسا على عقب ولم أفهم حينها سبب ذلك.
في سهرة ذلك اليوم، سمعت أبي وهو يقول لأمي وبصوت عال أراد من خلاله أن يسمعني كلاما لم يجرؤ على مواجهتي به. قال لها:
"أتدرين أن المدير يطالب مريم بإرجاع الدمية لابنته بعدما حدث خلط في الدّمى أثناء اللعب وأن ابنته من ساعتها وهي تبكي ولا تأكل؟"
ثارت أمي قائلة: "ولكن ..."
قاطعها: اششششت. أنا أعلم ذلك، كما أعلم أن المدير عادل في كل شيء إلا فيما يخصّ ابنته، كما أنّني متأكد أنه يستطيع شراء أجمل وأغلى الدّمى لابنته، ولكنها لا تريد غير دمية مريم. "
ورغم صغر سنّي فهمت كل شيء، وتفهّمت موقف أبي الذي كان بين نارين: نار الجرح الذي سيسبّبه لي حرماني من دميتي، ونار ثانية لم تكن أهون من الأولى وهي نار الخوف من تضييعه منصب عمله، والمسكن الذي كان يأوينا، وفي هذه الحالة يكون مجبرا على العودة إلى القرية خائبا فيصبح مثلا للفشل تضربه أفواه الرّغاة، وما أكثرهم في قريتنا! ولن ترحمه ألسنة أولئك الذين كلّما حلّ بالقرية لا يفوّتون فرصة لومه عن تركه للبيت العائلي والأهل، والأرض، والتوجّه إلى المدينة.
أخذتك ليلتها في أحضاني، تصنّعت النوم حين جاءت أمي المسكينة تجرّ الخطى لتخبرني بالحكم القاسي الذي قضت عليّ به محكمة المدير وابنته ولكن ما طاوعها حنانها أن تقطع نومي. لم يغمض لي جفن ليلتها وكانت كأنها آخر ليلة لطفل في حضانة أمه.
في الصباح وحين موعد الخروج من البيت، وأمام دهشة أبي، سلّمت الدمية التي لجمالها أسميتها أميرة وبداخلي إحساس يقول لي بأني سأستردّها يوما.
وفي المساء عاد أبي منكسرا وبيده دمية قديمة منكوشة الشعر، تسلمتها منه ودون أن أنظر إليها رميتها في أسفل خزانة قديمة كانت أمي تضع فيها الأشياء التي لم تعد في حاجة إليها كالملابس القديمة وتلك التي ضاقت عليّ وحتى تلك الفساتين الجميلة المزركشة الطويلة التي خاطتها لي بمناسبة رحيلنا إلى المدينة، وللأسف لم أكن أجرؤ على لبسها بعدما لاحظت غمزات وهمسات البنات في قسم المدرسة وساحتها، وعزلهن لي وكأنّي مصابة بمرض معد، فلم يكلّمنني ولم يقتربن مني إلّا بعدما تخلّيت عنها، وأصبحت ألبس الفساتين العصرية مثلهن والتنانير القصيرة التي كان يسمح لي أبي بارتدائها والألم يعصره.
مرّت الأيّام والأسابيع وأنا أخرج للّعب دون الدمية والغيظ يكاد يقتلني كلّما رأيت أميرتي بين يدي ابنة المدير وأصبح في قمة الغضب لمّا أشاهد الطريقة التي كانت تعاملها بها حتى صار شعرها منكوشا وفستانها وسخا. وبكيت كثيرا لما رأيت أنها بترت أحد ذراعيها.
لا أدري كيف أن الله ألهمني فكرة بدت ساذجة ولكنها كانت صائبة حيث ذهبت مسرعة إلى البيت، فتحت الخزانة وأخرجت الدّمية من تحت الأغراض التي تراكمت عليها، وبدأت ألاعبها واقبّلها أمام ابنة المدير. لمّا رأتها، وطبعا في حال أحسن من حال أميرة، على الأقل هي كان لها أربعة أطراف، انقضّت عليّ وهي تصرخ:
"إنها دميتي أرجعيها إليّ."
قلت في نفسي: جاءك الفرج يا مريم.
ثم قلت لها: "لا داعي أن تخبري أباك هده المرّة، خذيها."
وهكذا تبادلنا الدمى واسترجعتك يا أميرتي، ومن يومها لم تفارقيني.
ابتسمت مريم وقالت مازحة:
هل تعلمين أنّني أصبحت أستنجد بك في الإجابة على بعض الفضوليين والثّقلاء عن عدم زواجي بالقول إنّني لا أريد أن يكون لأميرة زوج أم. أليس هذا أفضل ممّا كانت تقوله أمّي لبعض الثقيلات: "ما جاش العبد اللّي يوالم." (أي لم يأت الرجل المناسب بعد).
قالت مريم هذا الكلام وهي تترحّم على أمّها الّتي واجهت الجميع لتجعل من بنتيها امرأتين متعلمتين حتى تجنّبهما مصير كثيرات من بنات الدّوار. وحين تتذكّر مريم بنات الدّوار تتذكر ابنة عمّها التي تكبرها بسنة فقط والتي كانت أيضا أقرب صديقاتها وأحبّهنّ إلى قلبها، تتذكر حورية وما حدث لها منذ ما يقارب الثلاثين عاما، تلك الحادثة التي جعلتها تكره الدّوار وأفقدتها الحنين إليه ذلك الحنين الذي كان في صباها يجعلها تترقّب العطلة الصّيفية بفارغ الصبر لتزور القرية وتقضي كلّ أشهر الصيف مع أقاربها.
استرسلت مريم في الكلام وهي تروي لأميرة أحداثا وقعت في إحدى العطل الصيفية حين كانت في المرحلة الثانوية، اغرورقت عيناها بدموع حاولت حبسها طيلة النهار ولكن تذكّرها لحورية وما حدث لها في تلك الصائفة كان أقوى من أن تستطيع منعها من الانهمار غزيرة نغسل العين والنفس، دموع رافقتها كلّما تذكرت تلك الحادثة وتأبى إلّا أن تشاركها تلك الذكرى الأليمة للأوقات الصعبة التي عاشتها ابنة عمها وقاسمتها إيّاها مريم بكلّ جوارحها.
بدأ صوت مريم يتقطع من حين إلى آخر، والكلمات تقف غصّة في حلقها وبدت وهي تتكلم وكأنّها تبتلع شيئا قاسيا صعبا تجرّعه، ورغم بعد زمن حدوثه لم تستطع السنون المتعاقبة مداواتها منه.
نسيت مريم وقتها حقيقة الدّمية أو تناستها لتوهم نفسها أنّها وجدت من يسمع تفاصيل أحداث مرّت منذ ما يقارب الثلاثين سنة وتصوّرها بدقّة وكأنّه لم ينقض عن وقوعها سوى يوم أو يومين. قالت بعد أن اعتدلت في جلستها على حافة السّرير وهي تمدد أميرة بكل حنان وتربّت عليها بحركات خفيفة:
في أحد أيّام الصّيف الحارّة، والذي كان يوما من أيّام العطلة الصّيفية التي كان يحرص كلّ من أبي وأمّي على أن نقضيها بين الأهل والأحباب في القرية، كنت حينها لا أفارق حورية طيلة الأيّام الّتي أقضيها في الدّوار، كنت أحسّها أقرب واحدة إلى نفسي حتّى أنّها كانت أقرب إليّ من أختي، ربّما لأنّنا متقاربتين في السّن وأنّنا الوحيدتان اللّتان وصلتا في تلك الفترة إلى المستوى الثانوي.
أتذكّر جيّدا أنّ في ذلك اليوم كلّ شيء في بيت عمي اللّصيق ببيتنا كان يوحي بأنّ أهله مقبلون على فرح: طلاء الجدران بالجير الأبيض الناصع، وتغيير أفرشته الإسفنجية بقماش تنوعت فيه الألوان الزاهية للأزهار المختلفة، قماش وصّت عليه أم حورية البائع المتجوّل الذي ينتقل بين الدّواوير والأحياء فيحلّ بدوارهم مرّة كلّ آخر شهر حاملا معه كل ما تشتهيه النّسوة من أقمشة لأفرشة البيت أو لصنع الفساتين لدى خياطة الدّوار الوحيدة، ومناديل للأنف وأخرى للرأس وأمشاط وحتى بعض أدوات التجميل كأقلام الكحل الأسود ونادرا الأزرق، وأحمر الشّفاه ذي الحمرة الفاقعة والذي كانت تكتفي بعض نسوة الدّوار بواحد فقط طيلة حياتهن.
ورغم أنّ البائع كان شيخا هرما، كان يمنع على النّسوة التعامل معه بطريقة مباشرة ففي غياب الرّجال لأنه عادة ما يأتي في الفترة الصباحية كانت معاملات البيع والشراء والتفاوض على السّعر وكيفية الدّفع تتمّ عن طريق الوسطاء وهم الأطفال الذين كانوا لا يملّون، ولا يكلّون من الذهاب والإياب بين البائع والزبونة، أمّا كانت أم جارة، فالأمر بالنسبة لهم كان مسليا يقطع عليهم روتين حياتهم.
وأتذكّر تلميع الأواني النحاسية بالرّماد واللّيمون، كان يجب أن يكون كل شيء في قمة اللّمعان: الصينيات والأباريق والسكريات وحتى الأطباق النحاسية الكبيرة ذات الأغطية المقبّبة والخاصة بتقديم الكسكسي وإن كانت ستستعمل في حفل اليوم كديكور فقط، فالمناسبة لم ترق إلى درجة الوليمة، إنه حفل قهوة لن تغيب فيه الأنواع المختلفة للحلويات التقليدية والتي يتربع على عرشها ملك الحلويات المقروط الذي كانت رائحته تعبئ أجواء البيت حيث امتزجت فيها رائحة زيت القلي برائحة ماء الزّهر، وبتلك المنبعثة من العسل المذاب.
أشفقت زوجة عمّي على ابنتها وهي تراها تنتقل بين أجواء البيت كالنحلة لا تكاد تستقر في مكان وقد نال منها التعب كثيرا فهي لم تهدأ ولم ترحم جسمها النّحيل طيلة أسبوع كامل ليضاف إلى تعب سنة دراسية شاقّة حملت خلالها هموما كثيرة: التحدي لتكون أول فتاة تنال شهادة البكالوريا في الدوار، والتّفوّق حتى تستطيع التّسجيل في كلية الطب ما يجعلها أوّل طبيبة في العائلة وفي الدّوار، وبين جميع معارفهم الأقربين منهم والبعيدين دائسة على أشواك لم تكن من صنع الطبيعة ولكن أشواك قذفتها عيون حاقدة تارة وحاسدة تارة أخرى ولفظتها ألسنة بشرية لا تخاف الله أطلقت أعنّتها للغيبة في الشّرفاء، والخدش في أعراض حوريات طاهرات.
كانت المناسبة في ذلك اليوم في غاية الأهمية بالنّسبة لحورية، وأيّ تعب في سبيلها يهون لا لأنّه يوم احتفال بأجمل ما حدث لها خلال سنوات عمرها التسع عشرة، وإنّما لأن اليوم فرصة لم تتح منذ زمن بعيد لنساء الحيّ وبناته اللّواتي يكنّ في قمة الشوق لمثل هذه المناسبات حتى يدخلن بيوت بعضهنّ البعض وبالتالي التّطفل على أحوالها ليصدرن غيابيا أحكام الإدانة الخاصة بنظافة البيت وترتيبه وطريقة الاستقبال من طرف صاحبته، فكم من واحدة صارت سيرتها لبانا تلوكه أفواه الجارات لأيّام عديدة سوى لأن قهوتها كانت خفيفة أو شايها باردا حتى وإن كان يكوي الشفاه. ونادرا ما يصدرن أحكاما بالبراءة في حق بعضهن، وطبعا إن حدث ذلك فيكون من باب المحاباة. فما أقسى المرأة على المرأة.
"توقفي عن الدوران يا حورية، كلّ شيء جاهز وفي مكانه."
"أخاف أن نكون قد نسينا شيئا." بهذا أجابت حورية أمّها وهي تدير رأسها نحو مختلف أرجاء البيت.
"لم ننس شيئا، وإن شاء الله سيكون حفلا جميلا."
"لم يبق على حضور المدعوّات إلّا ساعة أو ساعتان."
ولم تكمل جملتها حتى دخل عمّي سي عبد القادر كما يناديه أهل الدّوار متجهّما، أسرعت نحوه حورية وقبّلته على رأسه كعادتها تنظر إلى يديه، وابتسمت لمّا رأتهما محمّلتين بما أوصته من قارورات المشروبات الغازية، أخذتها من يديه شاكرة ممتنّة دون أن تنسى أن تطبع على جبينه قبلة أخرى ولكنّه وعلى غير عادته بقي عابسا حزينا وكأنه يحمل هموم الدّنيا كلّها.
انتبهت أم حورية، بحكم خبرتها وتجربتها، ما لم تنتبه إليه حورية التي ببراءتها الطفولية منحت الحياة كلّ ثقتها، فلم تكن تتوقع منها إلّا الخير ولا ترى من الألوان فيها إلّا الوردي الذي جعلته رمزا لكلّ شيء في حياتها: لباسها، وأدواتها المدرسية، ومشابك شعرها، وحتّى ألحفة فراشها.
"أرى في فمك كلاما، خيرا إن شاء الله." سألت أم حورية زوجها وهي متيقّنة أنّه ليس خيرا، فبعد عشرة أكثر من عقدين من الزمن أصبح يكفيها أن تنظر إلى وجهه فيتبيّن لها ما يجول بخاطره. وبصوت كادت تخنقه الحسرة قال:
"كنت قبل قليل مع أخي رابح،" قصد عمي الأكبر، "وقد فاتحني في الموضوع."
"أيّ موضوع تقصد؟"
ربما إنها أوّل مرة يخونها فيها ذكاؤها فلم تفهم الموضوع المقصود أو أنّها تعمّدت عدم تذكّره، وبعصبية أردفت قائلة:
"ولكن الأمر أصبح مستحيلا الآن بعد أن نجحت في امتحان البكالوريا."
ولأوّل مرّة خلال حياتهما الزوجية يتفهّم عصبيتها، فعمّي عبد القادر لم يكن من الرّجال الّذين يتقبّلون أن ترفع أمامهم المرأة، أيّا كانت، صوتها.
واصل الكلام محافظا على نبرته الخافتة إلى درجة تحمل على الإشفاق عليه.
"إنّه الموضوع الذي كنت أؤجله كل مرّة بحجّة أن حورية تدرس ولا بد أن تنال الشّهادة. من كان يدري وقتها أنها خلافا لبنات الدّوار ستتمسّك بالدراسة وستنجح؟ أنت نفسك كنت ترين ذلك مستحيلا، وإلّا ما كنت وافقت على موضوع خطبتها لابن عمّها بتلك السهولة."
"ولكن ..."
ما كان عليه في هذا المستوى من النّقاش إلّا أن يتسلح بعصبيته المعهودة، فهي خلاصه الوحيد والمنفذ لوضع نهاية لمناقشة موضوع محسوم منذ سنوات، فما أسهل عليه أن يرفع صوته في هذه الحالة ويحسم الأمر نهائيا! فبعد كلمته تموت كلّ الكلمات، وأظنّ أنّ كثيرا من أهل الدّوار سمعوه وهو يصرخ قائلا:
"هل تريدين أن أرجع في كلامي وأفقد احترام أخي واحترام كلّ أفراد الجماعة الذين حضروا؟"
حين كبرت فقط فهمت المغزى من صراخ عمّي الذي لم يكن ساعتها تعبيرا عن جبروت رجل يسلّم الكلّ أنّه الحاكم النّاهي وأنّ كلمته هي الأولى والأخيرة بغضّ النّظر عن صوابها أو خطئها، بقدر ما كان صراخ ندم عن موقف سابق وعن كلمة شرف ما كان يجب أن يعطيها "للجماعة"، وصرخة شفقة على ابنته الوحيدة التي كان بإمكانها أن تحقّق ما عجز عن تحقيقه إخوتها الذكور وكلّ شباب القرية.
صمت عمّي عبد القادر فجأة لمّا رأى حورية واقفة مذهولة تتابع وقائع محاكمتها والتي يبدو أن الحكم فيها كان نهائيا، فبحكم العادة تعلّمت أن قضايا الأنفة والرجولة الحكم فيها يكون غيابيا ومسبقا وأوليا ونهائيا ولا تجدي معه مرافعات أبرع المحامين وأخوفهم على مصلحة موكّليهم ولا مجال حتى للاستئناف فيه.
ولمّا التقت نظراتهما جرت بها قدماها إلى المطبخ لتلجأ إلى إحدى زواياه مثلما كانت تفعل وهي صغيرة عندما تعنّف أو يغضبها أحد، ولكن هذه المرّة لم يعد جسمها صغيرا حتى يحويه هذا الرّكن الصغير، وبقيت هنالك جالسة أرضا وركبتاها ضاغطتان على صدرها تحيطهما بذراعيها بقوة يستحيل معها أن يفكهما أياّ كان ومهما كانت قوته، وبقيت هكذا وكأنها في حالة استنفار جاهزة لصدّ هجمات لصّ ما يتربص بها، ذلك الجسم الذي رافقها طيلة حياتها بسلام وانسجام أصبح فجأة عدوّها الأول وسبب مشاكلها، ومن حين إلى آخر وبحركة انفعالية كانت تحاول تكويمه كتلة صغيرة تحت فستانها الوردي، تمنّت ساعتها لو أنّه توقّف عن النّمو حتّى لا يجعلها محلّ اتّهام.
وباءت محاولات الجميع بالفشل حيث لا أحد استطاع إنطاقها. جلست ساكنة شاردة الذهن لا تكلّم أحدا تحدّق بعينيها في الأفق الّذي لم تر أنه محدود بجدار المطبخ الذي كان يقابلها. رفضت الحديث مع الكل إلّا معي أنا ابنة عمّها، وصديقتها، وأختها كما كان يحلو لها أن تناديني ربما لأنّها البنت الوحيدة بين خمسة ذكور. وما زلت أسمع كلماتها التي من خلالها هربت ممتطية خيالها إلى ماض خرجت منه بذكريات كانت أجمل ما قدّمته أو ربّما ما ستقدمه لها الحياة.
بدأت تحدثني فيما يشبه الهذيان وكأنّي لا زلت أسمعها وهي تقول: لطالما كنت أطلّ من نافذة بيتنا الضّيقة الّتي لا تكاد تكفي رأسي الصغير، ومن خلالها كنت أطلّ على عالم واسع رحب: بساتين البطاطا الخضراء التي تكسو بأوراقها كل الأرض المحيطة بالبيت، وفي الأفق أرى البحر الذي لا يفصله عن السماء إلاّ خيط رفيع فيشكل لي عالما سحريا طالما دفعني إلى الحلم والأمل والحب.
"هذه الباخرة متوجهة إلى فرنسا، نعم إلى فرنسا."
هذا ما كان يتبادر إلى ذهني الطّفولي وأنا أشاهد من بعيد البواخر من حين إلى آخر مبتعدة في عرض البحر، كم وقفت في النافذة أوقاتا طويلة دون كلل أو ملل حتى تتلاشى الباخرة وتختفي وكأن البحر ابتلعها، فأبعد منطقة بالنسبة إليّ كانت فرنسا لأنّ كلّ رجال وشباب الدّوار الذين ذهبوا إليها لم يعودوا، ومنهم زوج جارتنا عائشة التي كانت لا تأتمن أحدا على أسرارها غيري، فأنا الوحيدة التي أقرأ الرسائل النّادرة التي تتلقاها من زوجها، وأنا الوحيدة التي أكتب لها الرّدود لا لأني أجيد اللغة الفرنسية فحسب ولكن لأنّه لم يحدث أبدا أن أفشيت سرّا من الأسرار التي كنت أقرأها في تلك الرّسائل، وكانت مع كل رسالة مقروءة أو مكتوبة تعدني عائشة المسكينة، محرجة، بهدية يوم عودة الزّوج، ولتراكم الوعود عليها ودفع الإحراج عنها ترجّيتها ألّا تعدني وإلّا ما قصدت بيتها ثانية.
واصلت حورية كلامها وهي على تلك الجلسة فوصفت لي كيف مرّت الأيام، واللّيالي وجسدها ينمو أكثر فأكثر، ونافذة البيت تضيق عليها أكثر فأكثر بل البيت كله صار يضيق، الإخوة الصغار ما عادوا صغارا، وبذلك تغيّرت أمور كثيرة في البيت الّذي أصبحت جدرانه لا تقوى على صدّ ما يسمى بمشاكل المراهقين والشباب: فشل دراسي، بطالة، انحراف. ومع ذلك فالدّنيا التي رسمتها حورية في مخيّلتها لا زالت واسعة والحياة لا يمكن أن تكون إلاّ جميلة خاصة تلك التي كانت تتصوّرها كلّ ليلة حين تأوي إلى فراشها فترى نفسها تجري وتجري في المروج الخضراء في أرض رحبة واسعة، كل اتجاهاتها مفتوحة، فلا يوقفها إلا التعب.
وترسم شفتاها ابتسامة جرحها الألم حين ترى نفسها تقطف الأزهار البرّية لتصنع منها أجمل الباقات، فلا تكاد تذبل باقة حتى تعوضها بأخرى أجمل منها، تضعها في مزهرية على مائدة الطعام المستديرة القصيرة الأرجل التي تتوسط بيتهم المتواضع، وحين يأتي الليل كانت تحسّ بفراشها يرتفع ويرتفع وكأنها مستلقية على سرير ملكي جميل يحميها من رطوبة الأرض ومن رفس إخوتها لها وهم يتخطونها حين يتنقلون في أرجاء البيت، فتنام نوما هادئا تزورها خلاله أحلام تبشرها بغد مشرق يحمل معه الأمل في حياة جديدة، بمكان جديد وزمان مختلف.
ثم تستحضر بخيالها تلك اللّحظات الخالدة بالنسبة إليها، لحظات الإحساس بالفخر وهي تتسلم أوراق الاختبارات المدرسية والتي كان لها دائما النصيب الأوفر في النقاط ولم تكن ترضى أبدا أن يكون لغيرها، أمّا اليّوم الذي لا يمكن أن تنساه ما حيت هو اليوم الذي وجدت فيه اسمها في أعلى قائمة الناجحين حين قالت وبأعلى صوتها لزميلتها: "لم تصدقنني حين قلت لكنّ أنّ الحلم يمكن أن يصبح حقيقة." وتقتنع بذلك أكثر فأكثر حين تقبل في كليّة الطب.
وسرعان ما محت دموع غزيرة تلك الابتسامة الباهتة حين أيقنت خطورة المصيبة التي ألّمت بها، ولم تجد أمامها سوى أمّها، التي لم تقو على ترك ابنتها وهي في تلك الحالة، وبما يشبه الهيجان، ثارت قائلة:
"ألا تعلمين بأن زواجي من ابن عمي يعني الاستقرار الأبدي في الدّوار، والانتقال من بيتنا الطوبيّ هذا إلى بيت قصديري جديد، وربما سيفقد زوجي عمله مثل كثير من رجال الحي فأعيش الفقر والحرمان مثلك ومثل عائشة وكل الأخريات، وسأنضم إلى طابور المنتظرين والمنتظرات للسكن الاجتماعي، وسيتجدد أملنا مع كل تسجيل جديد تقوم به البلدية."
"إنّه قدرنا يا ابنتي، ما عسانا أن نفعل. "
وعادت حورية إلى هدوء، قد لا تليه عاصفة لما رأت أنّها قد أحيت أمورا كانت دفينة في أعماق أمّها، وهي تحدثها، فسمعت لهجة طبعتها الحسرة، وأحست بروح هزمها الاستسلام، ورأت نظرات كان عنوانها الانكسار.
"بل هو التاريخ يعيد نفسه يا أمي."
ربّما لم تع الأم ما قالته ابنتها، ولكن حورية وعت بأنّ الأرض لن تكون رحبة بعد اليوم، وأنّ الأحلام تبقى أحلاما عند الكثيرين من البشر يهربون إليها، ويعيشون من خلالها إن لم يمنعوا يوما من الحلم. ولم تمض إلا شهور قليلة حتى كانت حورية في بيت الزوجية، وبذلك شقّت طريقا مختلفا عن ذلك الذي ظنّت يوما أنّها سالكته، طريقا محفوفا بالتضحيات ومفروشا بالتنازلات وكأنّ بناء بيت وتربية أبناء لا يتحقق إلّا بتقديم المرأة لقربان باهظ الثمن، لن تحصل عليه إلّا ببيع الجانب المعنوي فيها ورهن طموحاتها ومقايضة أحلامها بتسمية تكسبها احتراما أكبر لأنّها ستصبح "السيدة فلان"، وستصبح من النساء اللواتي يعتبرهنّ الكثيرون من الناس "المحظوظات بالزواج".
كان ذلك آخر عهدي بابنة عمي، أما آخر خبر وصلني عنها كانت قد أنجبت ابنها الرابع. أحسّت مريم بثقل في جفونها ما جعلها لا تقوى على مواصلة الحديث، إنّه أخيرا النعاس، وعلى غير العادة هذه الليلة لقد حلّ دون توسّل أو رجاء منها. لم تحسّ بالوقت يمرّ وهي تسترجع جزءا من ماض يبقى عزيزا عليها تخزّنه برفق ورقّة في صندوق ذكرياتها الذي لم تجد ما تودع فيه أغلى من ذكريات الطفولة والماضي رغم مرارتها أحيانا وقسوتها في أحيان أخرى، فالتعاسة وسط الأهل والأحباب سعادة، والسعادة وسط الوحدة والغرباء مجرّد زيف ومسكّن مؤقت للآلام.
قبّلت مريم أميرة ثم وضعتها فوق السرير وتمدّدت هي الأخرى إلى جانبها متقاسمة معها نفس اللّحاف، لقد نامت هذه المرّة دون توسّل للنّعاس أو تنازل للحبّة المنوّمة، وغطّت في نوم عميق يفصلها عن يوم آخر علّه يأتيها بالجديد.
مرّ فصل الشتاء ثقيلا كئيبا لم يختلف كثيرا عن سابقيه من السّنوات الماضية، وانتظرت مريم الرّبيع كما تنتظره كل سنة عسى أن يأتيها بالجديد وعسى ألا يمرّ سريعا كما مرّت أشياء جميلة سريعة في حياتها.
وفي أحد أيّام الرّبيع الدافئة الجميلة فتحت مريم عينيها لتجد أرجاء الغرفة تشعّ بنور يعمي عين النّائم، وتدوّي بصوت تسمع أذن من به صمم صنعتها زقزقات العصافير التي استقرّ ت في أغصان شجرات حفّت موقف السيارات الّذي يتوسّط عمارات الحيّ.
كانت نافذة غرفة مريم تطلّ على الموقف وتكاد بعض أغصان الشجر تقتحم الغرفة حين تفتحها. كم مرّة نصحها حارس العمارة بقطع تلك الأغصان لأنّها أصبحت تجلب العديد من العصافير التي اتّخذتها مأوى لها فتزعجها، حسب زعمه، بزقزقاتها في الصباح الباكر وتلطخ بفضلاتها المكان وزجاج النّوافذ خاصة!
وما لم يكن يفهمه المسكين هو موقفها الرّافض بشدّة لذلك على خلاف السكان الآخرين ممّن يسكنون مثلها في الطّابق الأرضي. وقد حدث أن أوقفته يوما حين أحضر منشارا كهربائيا وهمّ بقطع الأغصان الممتدّة نحو نافذتها، حينها لم تتمالك نفسها فصرخت في وجهه قائلة:
"ألم أقل لك مرارا "لا تقطعها" وأخبرتك أنّها لا تزعجني."
وحين رأته واقفا أمامها دون أن يردّ عليها والذهول مرسوم على وجهه، اعتذرت له ولكن تركته دون أن تريحه بتبرير لموقفها.
وبعدها انطلقت تحدّث نفسها: هل يفهم إذا قلت له إنّ هذه العصافير من أقرب الكائنات إلى نفسي، وأنّني أعتبرها ضيوفي وأترقّب زيارتها كلّ سنة حتى أنّني أتمنى لو أنّ السّنة كلّها ربيع. العصافير ضيوف تطرق مكانك دون استئذان أو مجاملة، تطربك دون مقابل، تقطع عنك وحشة المكان دون إزعاج، ربما لو صارحته بذلك لأشاع عنّي أنّي " العانس المجنونة".
استيقظت مريم ذلك اليوم، وككلّ يوم، باكرا، وبعد أن اتّبعت نفس خطوات صباح اليوم الذي قبله وكلّ الأيّام السابقة قبل الخروج من البيت مولية في ذلك الأهمية الأولى إلى مظهرها بحرصها على أناقتها التي لن تكتمل حسبها إلّا بوضع رشّات من عطرها الباريسي الفاخر. خرجت من البيت وكانت السّاعة قد تجاوزت السابعة بثلاثين دقيقة،
ركبت سيارتها وقبل أن تدير المحرك ألقت نظرة أخيرة في المرآة، وبحركة روتينية أدارت المفتاح ليشتغل بعدها المحرك دون أن تنسى ضبط الراديو على محطتها الإذاعية المفضلة، وما هي إلا عشر دقائق حتى توقّفت السيارة، ذلك الوقوف الاضطراري اليومي أمام مكتبة صغيرة، وما هي إلا لحظات حتى أقبل نحوها رجل أشيب خمسينيّ يبدو أنّه اجتهد في اختيار ملابسه بعناية حتى لا تبدو الهوة شاسعة بينه وبين شباب اليوم، ف قد أفقده الزمن شيئا من حيويته وعنفوانه ولكن لم يفقده إجادته فنون الكلام وطريقة محاورته للجنس اللّطيف، وربّما هذا أكثر ما أقنع مريم لإكمال ما كان ينقصها في الحياة.
من يدري؟ ربّما هذه فرصتها الأخيرة لترتاح من نظرات وهمسات وغمزات أتعبتها، ففرصة مثل هذه، وكما صارحتها صديقتها نادية، لا تأتي لامرأة في سنّها كلّ يوم.
سلّمها الجريدة عبر نافذة السيارة بابتسامة عريضة أبانت عن أسنان تبدو حقيقية ولا زالت محافظة على شيء من بياضها.
تسلّمت مريم الجريدة بيدين مرتجفتين، وقبل أن تودّعه سألته عن أخبار مجلّتها الشهرية وكانت تلك النقطة التي قادتهما إلى ثرثرة كان كل منهما يتحيّن الفرصة للخوض فيها. وبكثير من الجرأة وعلى غير عادته، لمّح كمال لأنّه أخبر ابنيه أنه ينوي الزواج من امرأة جميلة سمراء يبدأ اسمها بحرف الميم ولها سيارة سوداء. وقد تشجّع أكثر فأكثر حين نظر إلى عينيها فوجد فيهما ما طمأنه على مواصلة كلامه، فأردف قائلا:
"صحيح أنّني أرمل وأب ومستواي التعليمي متواضع، ولكن عملي في المكتبة وتعاملي اليومي مع الكتب والمجلات أكسبني من الثقافة ما قد لا نجده عند الشباب الجامعيين في وقتنا الحالي."
اكتفت مريم بابتسامة كانت أبلغ من أي ردّ، ومضت في طريقها رافعة صوت الراديو أكثر فأكثر.
وفي اليوم التالي، أوقفت مريم سيارتها وكالعادة في نفس المكان وفي نفس التوقيت ولكن ما لم يكن عاديا ألّا تجد كمال في انتظارها، بقيت في السيارة تترقب ظهوره، ولّمّا طال انتظارها واشتدّت حيرتها، نزلت لتتبيّن الأمر، وما إن دخلت المكتبة حتى أقبل نحوها بابتسامته العريضة المعهودة ثم بدأت تلك الابتسامة تضيق شيئا فشيئا حتى تلاشت.
قال متلهفا: " خيرا، إن شاء الله. ما ...؟ "
لم يكمل سؤاله حتى أجابته قائلة: " آه، تعني هذا الاحمرار في عيني، إنّه مجرّد حادث بسيط."
" حادث؟"
لمّا رأت حيرة في عينيه ولهفة في صوته، استطردت قائلة:
"نعم، حادث بسيط، لقد بالغ أحدهم في التغزل بعينيّ الجميلتين فاقتحمها قليل من صبغة الشعر."
قالت ذلك بروح مرحة محاولة منها أن تخفّف عنه حدّة الصدمة. لم يغلق فمه المفتوح من الدّهشة إلا ليسألها بكل سذاجة: "أليس لون شعرك طبيعيا؟ لا أظنّك بحاجة إلى صبغه."
وبصراحتها المعهودة التي ربّما كانت من ضمن الأسباب التي جعلتها لا تظفر بزوج مثلها مثل الكثيرات من النساء اللواتي لا يلجأن إلى إخفاء الحقيقة فحسب بل يذهبن إلى حدّ الكذب بادعاء الأصل والثروة وحتى العفّة المفقودة أحيانا، قالت: "بلى، أنا في حاجة إلى إخفاء بعض الشعيرات البيضاء. "
عاد وفتح فاه من جديد وبكل وقاحة هذه المرّة سألها: "كم عمرك؟"
أجابته بكل عفوية: "ثلاث وأربعون سنة."
ما زاد ذلك فمه إلّا توسّعا. ما أسهل أن تكون وقحا أمام الوقحاء! لم تجد مريم حرجا أبدا وهي تسأله:
وكم عمرك أنت؟
قال: "واحد وخمسون عاما."
ولمّا انتبهت إلى حجم الدّمار الذي أحدثه وقع المفاجأة "الخطيرة" عليه وهي تراه واقفا شارد الذهن، كمن أكل ضربة قوية بمطرقة على رأسه دون أن تخفي عيناه شيئا من الارتياح وكأن الله أنجاه من مصيبة كاد أن يقع فيها، انصرفت وهي تتمتم، لا تعلم أتأسف لحالها أم لحاله:
"المسكين لم يتقبّل بضعة شعيرات بيضاء وأنا التي رضيت منه بالـ ..."
وقبل أن تسترسل في الموضوع استغفرت الله. ولمّا كادت تصل إلى خارج المكتبة التقطت منه آخر ما وفّقه الله في قوله: "آسف آنستي، مجلتك لم تصلنا بعد."
خرجت وهي نفسها غير مصدقة درجة البرود التي قابلت بها تجربتها هذه. أيعقل أن تخوض امرأة مثل هذه التجربة وأن تتعرّض لإحراج بهذا الحجم ولا تذرف ولا دمعة أو تدافع عن كبريائها ولو بكلمة.
انصرفت وهي شبه متأكدة بأنّ المرأة التي فيها قد تحلّلت عواطفها وماتت أحلامها ولم يبق منها إلّا مجرّد بقايا ستحاول أن تتعايش بها مع مجتمع لخّص المرأة لدرجة التّقزيم وحصرها بين سنّ سيصبح حتما عدوّا لها في يوم من الأيّام، وجسد لا يجب أن يبلى أبدا كما تبلى المادة وفق قوانين الطبيعة وعلم الأحياء.