عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

إبراهيم يوسف - لبنان

أرجوك يا ابنتي


بعثت عائشة بنت سعد بن أبي وقاص مولاها، فندا، يأتيها بنار. كان في الطريق عندما أبصر قافلة تتأهب في رحلة من المدينة إلى مصر، فسار معها. وبعد غياب دام سنة أو ما يزيد، عاد مع القافلة وتذكّر النار، فراح يعدو مسرعا وهو يحمل لمولاته جمرا. من فرط سرعته تعثر فهوى؛ وتبدّد الجمر على الأرض. نهض ممتعضا، ونفض الغبار عن ثيابه وهو يلعن العجلة ويقول: "لولا العجلة لما ضاعت النار."

تلك حكاية عائشة ومولاها، أما حكايتي، فهي متفقة معها في المعنى، مختلفة في الشأن والتفاصيل، فعندما رجعت إلى عود الند أتصفح أعدادها القديمة، أفتش عن نص بعينه، لم أجد ضالتي. ما وجدته نص آخر "أرجوك أبي" للأستاذة الصديقة هيام ضمرة، كانت قد نشرته منذ وقت طويل (العدد 39)، فقرأته من جديد، وقلت في نفسي، ألعن العجلة بدوري، وأستوحي منه مقالتي لهذا الشهر: "أرجوك يا ابنتي" بعد انقضاء سنة أو ما يزيد على النصّ المنشور، وعلى رحلتي المشوّقة مع قافلة؛ هي رفيقتي وأنيستي في غربتي وإقامتي.

.

كما "التعلل، بلا أهل ولا كأس ولا وطن"، أو "كما الرّيح تجري بما لا تشتهي السفن" (1)، هكذا أيضا لا تدور الأرض وفق ما نشتهي أو نرغب، وفي ناموس الكون ونظامه لسنا إلاّ هواما.

الفتاة اليتيمة التي لم يمت أبوها وينقطع رجاؤها، كانت تحتاج إلى كلمة طيّبة لم يقلها، وعاطفة صادقة لم يمارسها، هذه العاطفة تساوي عندها أموال الأرض ومعجزة السماء. الفتاة التي لم يمت أبوها؛ لتحسم أمرها فتنجو بنفسها أو تهلك، سلمت هذه الفتاة واجترحت المعجزات، تحدّت الريح وتحالفت مع الشراع، شراع "أوديسيوس" البطل الصنديد؛ وهو عائد إلى "إيتاك" يواجه البحر والموج والريح وينجو من أهوال العواصف والصواعق واللعنة والغرق.

أنت يا عزيزتي حورية البحر؛ وأحلام الملاحين. أنت سبّاحة ماهرة طوّعت الموج والريح، وآمنت بدورها فانتصرت، وبلغت برّ الأمان على متن زورق معطوب. وأنا يا صديقتي رسول البحر إليك، فهاك مقالتي وأخباري، وحبّي.

أنت تختلفين عن مريم. لعلّها رقة الإحساس فحسب السمة المشتركة بينك وبينها. تؤلمني بحق حكاية مريم، مريم دمعة وابتسامة جنبا إلى جنب، جمرة حبّ وطعنة في القلب، خانتها روحها؛ فاستسلمت لها وانهزمت.

عاشت مريم يتيمة الأبوين مذ كانت طفلة في القماط، كفلها عمّها لأبيها وكان لها ملاذا آمنا، أمّا وأبا، نبراسا كان لها وكان نورا ساطعا عطّل نشأتها؛ وأفقدها سلامة الرؤية، فوّت عليها فرصة الاعتماد على نفسها. ناب عنها في كل أمر، وحجب عن عينيها نور الفكر والقلب، دلّلها وبالغ في العناية به، عمّها الذي لم يرزق ببنات، فضّلها دائما على أبنائه.

مريم الحلوة المدللة تصوّرت لأسباب مؤلمة وصعبة، أنّ الدنيا انتهت وتخلّت عنها، فتخلّت عن نفسها وانتحرت، وخلّفت غصّة في القلوب. مريم لم تصمد في أولى تجاربها، تجرّعت سمّا سريع المفعول قتلها في لحظات. كانت جالسة في مقعدها. لم تتمكّن أن ترفع يدها عن كأس السّم، بعدما شربته وأعادته إلى طاولة بجانبها. أنا من رفع يدها عن الكأس وكانت ما زالت دافئة ومرنة.

تهشمت ضحكة الفجر النّديّ. ماتت مريم. سقطت في التجربة الأولى، لأنّها لم تتعلم المقاومة، وعندما ماتت، فهم عمّها وفاضت نفسه حزنا؛ وفهمت أيضا لماذا انتحرت مريم. شرّحوا جسمها؛ شوّهوا جمالها؛ فانطفأت كما تنطفئ الشمعة، وتضمحلّ الترنيمة الحلوة في صمت السكون، واختفت إلى الأبد فتنة الكحل في عينيها. تبا لقسوة الدنيا وقسوة الطبيب والمبضع، تبّا لعاطفة مميتة استحكمت فيها وهزمتها. وتبا لبشاعة الدود والطين.

"لا تحفل الدنيا تدور بأهلها أو لا تدور"! في البلدة الوادعة حيث تكثر أغراس الكرمة والكرز، ومساكب الورد؛ دفنّاها تحت أشجار الدّلب والبلوط. لم نصلّ على جثمانها لأنها انتحرت. عادت إلى التراب، إلى أمها الأرض، خذلتها الدنيا، كما خانتها في موتها الشريعة والدّين، وفي الضيعة الوادعة، أولئك من لم يصلوا على الجثمان؛ تحدّثوا طويلا عن مريم، مريم الحلوة التي انتحرت.

"طوبى للمعذبين في الأرض." السّيد المسيح تحنّن على الضالين، ممن فقدوا الطريق إلى ربّهم وأنفسهم فاستهلّ عظته بكلمة "طوبى" ردّدها تسع مرات: "طوبى للمعذّبين في الأرض، طوبى للودعاء لأنّهم يرثون الأرض، طوبى للمطرودين، لأنّ لهم ملكوت السماوات"، السيد المسيح يمنح عالمنا الحزين رجاء أكيدا، حين يعلن أنّ الخلاص في المحبّة والغبطة والسماح.

"المرضى من هم بحاجة إلى طبيب." لا تتصوّري يا عزيزتي أنّك الوحيدة التي حملت صليبها. لكل منا صليبه، فلا تتركي أباك يضيع أكثر مما ضاع وأضاع، ولو من باب الرحمة لك وله. الحقّ أقول إنّ المفاجأة كادت تطيح بصوابي. كنت سأقول لك في مرات سابقة: "كلّ فتاة بأبيها معجبة"، فأنت حريصة أن تقرني اسمك ليس بالعائلة فحسب، بل باسمه أيضا في كلّ مرة توقّعين نصا أو مقالة، "ربما في الباطن لم تتنكري له يا صديقتي."

أبوك وجد نفسه ضائعا في خريف العمر كما تقولين، منهك القوى والأنفاس يعود على عكازين، أرجوك يا ابنتي أن تسامحيه وترحمي نفسك، أبوك أولى برأفتك؛ بلا غضب أو عتب. ألا تذكرين نعمة الله عليك حين عوّضك عن أبويك بجدة فاضلة؟ كم تمنيت في قرارتي أن أعرفها وأن أكون حفيدها، لأدفن وجهي في راحتيها الطاهرتين وأبكي.

"يا طيّب القلب يا قلبي." ليس مثل البكاء يا عزيزتي يغسل القلب والروح. جدّتك نجمة مضيئة في الأفق المظلم، تهديك سواء السبيل كلّما جار عليك الزمان. لم تتمكن مرارة الأحزان وقسوتها أن تهزمك وترمي بك خارج الزمن، فانتصري لنفسك مرّة أخرى، ولا تدعي أباك يموت تعيسا مثلما عاش، فيكون قد قضى على نفسه مرّتين، مرّة في الحياة ومرّة في الموت. ألا تكفيه ميتة واحدة يا صديقتي؟

كلهم للغد باسم

كلهم بالخير حالم

زرعوا الحبّ

كانت لهم أغنى المواسم (2)

دققي جيدا في العالم من حولك، الكلّ باسم؛ أنت وحدك من يبكي. كنّا صغارا وكنّا نلجأ إلى طقس عماده الدّم. نجرح أصابعنا ونخلط دماءنا وهمومنا ودموعنا ونبكي لنتواصل ونتصالح ونسعد من جديد. لم لا تبادرين أباك بهذه الشعائر الصبيانيّة التي تجلو العواطف؛ وتغسل القلوب؟ ألا يستحقّ التضحية والرحمة ذاك الذي حكم على نفسه بالتعاسة والشقاء؟

صدّقيني، لا يكون الإنسان عظيما، ما لم تقترن عزيمته بالتعالي فوق الجراح، مهما بلغ عمق تلك الجراحات. وحده الإنسان النبيل من تقع على عاتقه تضحيات كبار بحجم عظمته؛ وعلى حسابه في الغالب، فهل أنت ذلك الإنسان الكريم الذي أتوقّع؟ هل حرّضك على المغفرة إبراهيم ناجي وأم كلثوم وهي تغني "الأطلال" وتسفح في العين شتاء القلب والروح؟

أيها "السّاهر" تغفو = = تذكر العهد وتصحو

وإذا ما التام جرح = = جدّ بالتذكار جرح

فتعلّم كيف تنسى = = وتعلّم كيف تمحو

كلّنا أنانيون مذنبون وخطاة، "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر". قولي لأبيك: عد إلينا يا أبي ولو على عكاز، لنمضي معا في رحلة العمر الباقي، يدا بيد وقلبا على قلب وأملا لم يمت بعد. قولي له: أسأل الله لك بحرارة المؤمن، صادقة، باكية، مستغفرة ربي أن يجنّبك مزيدا من العثرات، أن يأخذ بيدك ويصونك ويرعاك، سندا لنا جميعا: لي ولأخوتي وجدّتي التي شقيت لتسعدني، وجاعت لتطعمني؛ قولي له: لم أتنكر لك أو لاسمك في يوم من الأيام، هل تفهمني يا أبي؟

يستحيل أن ترسمي على الورق رجلا يطلق شاربين غليظين لكي تناديه: يا أبي. لا تصدّقي يا عزيزتي أن العالم انتهى وفقد طعم المحبّة، كما تراءى لمريم، لأنّ أباك تخلى عنك أو أهملك. صدّقيني أنّ الدنيا بما ومن فيها لا تستحق منّا الدموع؛ ولا هذا الشقاء العظيم. القلب عضلة طيّعة تحبّ كما تكره، والمحبة غاية الدنيا ومحجتها للسعادة والخلاص.

جاء هندوسي يسأل "المهاتما" غاندي، كيف له الخلاص من الآلام التي سبّبها له رجل مسلم قتل له ابنه؟ يقول غاندي للرجل: الخلاص في أن تحبّ ابن الرجل المسلم كما أحببت ولدك القتيل. من غير ذلك لا تتعب نفسك ولا تبحث عن خلاص. والمفارقة المؤسفة، أن يموت غاندي من أجل المسلمين على يد هندوسي متعصّب (3).

أنا فخور بأولادي، وقد تخرجوا بامتياز من الجامعات، في الهندسة والترجمة والطب والإدارة. لكنني شديد الاعتزاز بعصاميتك والمناقبية التي تتمتعين بها، وأنت عن جدارة تستحقين الحياة وتستحقين النجاح، ويزداد اعتزازي بك عندما تعودين إلى أحضان أبيك، وهو سيستحقّك بلا ريب.

أقول صادقا؛ مؤمنا بما أقول؛ وأستغفر الله ربي لي ولك وأستغفره لأبيك: أشكرك على حسن الاستماع. لم يبق إلاّ أن أقول لك أمرا أخيرا: لا ينبغي للعيد أن يأتي ويمضي إلاّ وأنت في سلام. ما يعنيني أن تصلك رسالتي وتستجيبي لندائي. تقبلي مع الجدّة الكريمة صادق مودتي واحترامي. سيطيب خاطري وأفرح عندما تبلغني أخبار تخرّجك وأخبار زواجك بمن يسعدك ويستحقك. "الله هو الحيّ القيوم"، أسأله حسن المآل؛ إنّه على كل شيء قدير.

= == =

الهوامش

(1) للشاعر أبو الطيب المتنبي:

بم التّعلّل لا أهل ولا وطن = = ولا نديم ولا كأس ولا سكن

ما كلّ ما يتمنى المرء يدركه = = تجري الرّياح بما لا تشتهي السّفن

(2) "لا تسلنا": من كلمات مصطفى محمود، يغنّيها وديع الصافي.

(3) الهندوسي قاتل غاندي اعتبر دعواته لاحترام حقوق الأقليّة المسلمة تفريطا في حقوق الهندوس وخيانة عظمى لهم.

= = =

اضغط هنا لقراءة قصة هيام ضمرة "أرجوك أبي" التي أوحت بالنص أعلاه.

D 1 كانون الأول (ديسمبر) 2010     A إبراهيم يوسف     C 0 تعليقات