عدلي الهواري
كلمة العدد 56: عن احتكار الحقيقة واحتكار السلطة
انتقدت في أكثر من كلمة ظاهرة هجاء الشعوب العربية وتحقيرها واتهامها باتهامات كثيرة من بينها الخنوع. والحقيقة التي يتجاهلها هؤلاء أن الجماهير العربية تحركت في الماضي، وتتحرك في مناسبات كثيرة، ولكن ليس حسب التوقيت الذي يريده المثقف الفلاني، أو المعلق العلاني، أو هذا السياسي أو ذاك. شيء ما يدفع الجماهير إلى التحرك. ويكذب من يقول إنه يستطيع التنبؤ به.
في تونس كانت الشرارة التي حركت الجماهير إشعال الشاب التونسي، طارق (محمد) بوعزيزي، النار في نفسه احتجاجا على المعاملة التي تعرض لها وهو الذي حاول أن يعيل أسرة دون أن يتسول أو يسرق، فلجأ إلى العمل كبائع متجول. شاب في وضعه يستحق الدعم والتشجيع من الدولة، فهو يحل محلها في رعاية بعض المواطنين.
أذكر من أيام عملي في الإعلام إجابة كانت تتكرر في المقابلات مع مثقفين وسياسيين تونسيين مؤيدين للنظام عند سؤالهم عن سبب عدم السماح لحزب إسلامي الاتجاه بخوض ميدان السياسة. إجابتهم كانت تتلخص في أنهم يعترضون على مبدأ احتكار الحقيقة، لأن المتعارف عليه، وليس بالضرورة صحيحا، أن المتدينين يعتقدون أنهم وحدهم يمتلكون الحقيقة من خلال اعتمادهم على ما تقوله الكتب المقدسة.
الحقيقة لا يمكن احتكارها، حتى لو حاول المتدين أو الماركسي أو الليبرالي أو خلافة أن يفعل ذلك. والمعترضون على مبدأ احتكار الحقيقة يتجاهلون مبدأ احتكار السلطة، فهذا أسوأ، لأن السلطة يمكن احتكارها فعلا باستخدام الجيوش والأجهزة الأمنية. ومن يمتلك السلطة يصطنع حقيقة ويفرضها على الجميع، فكل حاكم عربي اختار لنفسه خطابا رسميا يردده مؤيدوه ووسائل إعلامه، خلاصته أن الشعب يحبه، وأنه بنى البلد الذي يحكم، ولولاه لكان الشعب يتيما.
هناك جشع بلا حدود لدى البعض فيما يتعلق بحب السلطة والمال، ويميل هؤلاء إلى تحويل الناس إلى عبيد سياسيا ومعيشيا. ويتم دائما تحالف مصلحي بين من يملك السلطة ومن يملك المال، فيخدم كل طرف الآخر. ولذا، لا شك في أن احتكار السلطة هو الأرض الخصبة للفساد، وأي احتكار لها باسم قضية كبرى كقضية فلسطين، أو باسم الدين، أو باسم التنمية، ذريعة لا أكثر، أدت وتؤدي دائما إلى الفساد، وزيادة الهوة بين الفئات الحاكمة والثرية الصغيرة، والسواد الأعظم من الشعوب.
لا أعتقد أن الحكام محتكري السلطة يتعلمون من التاريخ شيئا، ولذا بعض الحكام العرب سوف ينزع إلى اللين قليلا، وآخرون سوف يعدون السيناريوهات لكيفية التعامل مع تحرك جماهيري لو حدث في بلدهم. ولا أظن أن الأنظمة العربية سوف تتهاوى تباعا بعد ما جرى في تونس، ولكن أي حاكم عربي يجب أن يتوقع أن يحدث له ما حدث في تونس ودول أوروبا الشرقية إذا واصل ممارسة احتكار السلطة، ومصادرة الحريات، والاهتمام بإعداد قليلة من الأثرياء وإهمال ملايين الفقراء.
هناك الكثير من الباعة المتجولين والفقراء المعدمين في مختلف الدول العربية. على الحكام العرب أن يحرصوا على مساعدة هؤلاء الناس على العيش عيشا كريما، من خلال تأمين المسكن والرعاية الصحية والتعليم، حتى لا يورث الفقير فقره لأبنائه. ويجب أن يكون للجميع حق التعبير عن الرأي بحرية، وأن تكون السلطة للشعب من خلال نظام سياسي ديمقراطي قائم على عدالة اجتماعية واقتصادية.
في الختام أعود إلى مثال الشاب محمد بوعزيزي لأقول إن هذا الشاب الفقير، الذي سيذكره التاريخ بأنه أزاح جنرالا احتكر الحكم أكثر من عشرين سنة، قدم ردا بليغا على مروجي مقولة حب الحياة دون الالتفات إلى ضرورة أن تكون الحياة التي يجب أن نحبها حياة كريمة، يعيش الناس فيها أحرارا لا عبيدا لدى الحكام وحلفائهم أصحاب الثروات التي لا تجنى دائما بعرق الجبين.
مع أطيب التحيات
عدلي الهواري
◄ عدلي الهواري
▼ موضوعاتي
- ● كلمة العدد الفصلي 34: أعذار التهرب من المسؤوليات السياسية والأخلاقية
- ● كلمة العدد الفصلي 33: تنوير أم تمويه؟
- ● كلمة العدد الفصلي 32: حكّم/ي عقلك وأصدر/ي حكمك
- ● كلمة العدد الفصلي 31: قيم لا قيمة لها
- ● كلمة العدد الفصلي 30: النقد والمجاملات
- ● كلمة العدد الفصلي 29: عن الذكاء الصناعي (والغباء الطبيعي)
- ● كلمة العدد الفصلي 28: الورق والتمويل: وصفة الانتحار البطيء
- [...]