عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

وهيبة قوية - تونس

قراءة في قصة قصيرة


قراءة في قصّة "حبّ من أوّل نقرة" للقاصة رويدة زيدان

الأصيل والدّخيل في قيم العصر

هذا المقال قراءة لقصّة قصيرة قرأتُها على النتّ وتحديدا على:” الفيس بوك” للصّديقة رويدة زيدان، أظهرت فيها وجهًا بدا طاغيا في علاقات “كتاب الوجوه” والانترنيت، قرأتُ فيها مجموعة الأفكار حول علاقات المجتمعات الجديدة في قصورها عن ملامسة الجانب الإنسانيّ واعتمادها على الأقنعة والكذب.

القصّة

لم تكن تحبّ وضعَ صور شخصيّة على صفحتها الخاصّة، ولم تكن قد باحت بمعلومات كثيرة عن نفسها. أضافها لأنّها أنثى تحمل اسما جميلا، ومن أوّل نقرة باح لها بحبّه. استغربت الأمر وأخذتها حيرة ما بعدها حيرة. سألته مندهشة:

“يا سيدي، لا تعرف عني شيئا. لا شكلي، ولا صوتي ولا حتى فكري، فلماذا؟ أرجوك أجبني بصدق وجدّيّة.

“الصّدق مضمون فالأجوبة كلّها صادقة وجدّية، فما هو السّؤال لو سمحت؟

“هل يمكن أن تحبّ شخصا لم تره؟ وما طبيعة هذا الحبّ أيّها المتيّم ؟ وعلام بُني؟

“هو الحبّ من أوّل نقرة.

“الحبّ من أوّل نقرة؟"

“وبُني على خمس: أنا وقلبي وأنت وقلبك وشيء بيننا.

“أكمل. أكمل.

“الشّيء الّذي بيننا يمتدّ من عندك إلى عندي تماما. يكبر كلّ يوم ويمتدّ في كلّ الأرجاء وفي كلّ الاتّجاهات
ويدور مثل اللّولب. يخترق القلب وينفذ إلى الجسد لا يُبقي ولا يذر. عظيم ومدهش، بدائيّ ومتحضّر، ناعم وعنيف. يزداد شفافية وألَقا كلّما اقتربنا، ويعتم ويسودّ كلّما ابتعدنا. ألووووووووووووووووو.. لماذا اسودّت الشاشة؟ هل ابتعدت كثيرا؟

“هههههههههههههههه. إنه الفايروس أيّها المتيّم.

“ما أجمل ضحكتك!"

القراءة

يتّخذ النصّ شكل القصّة القصيرة جدّا. وهو شكل سريع القَصّ عميق المعنى. وفي موضوع نراه يحتاج الوعظ، غير أنّ النصّ ابتعد عن منابر الوعظ ليكون نصّا فنّيّا في كتابته، واعظا في مضمونه وغايته، ومادّة للتفكير في قضيّة باتت من شواغل الإنسان في عصرنا الحديث خاض فيها الخائضون كلّ بأسلوبه. ثمّ يتحوّل النصّ من مجرّد قراءة فكرة متداوَلة تبحث عن تأصيل القيم في منظومتها الجديدة الّتي اقتضتها متطلّباتُ العصر إلى قراءة قضيّة أخلاقيّة وسلوكيّة، بل عاطفيّة، اجتماعيّة وحضاريّة،ثمّ تنفذ إلى التّأمّل ومنه إلى البحث عن حلول لقضايا الأخلاق والمجتمع والحضارة وطرق الخلاص من تبِعات التقدّم التكنولوجيّ واستلابه لقيم أصيلة مقابل تأصيلٍ لقيم أخرى على حسابها.

فأمّا نصّ الوعظ وتأصيلُ القيم، فإنّنا نلاحظه في مضمون النّصّ: علاقات الدردشة (“الشات”) والانترنت وما أدخلته التكنولوجيا الحديثة من شُبُهات حول الأخلاق الواردة علينا بكلّ جديد متجدّد وما تواجهه منظومة القيم من خطر ملْتَبِسٍ بالفضائل. فأوّل نقرة قد انفتح لها باب من أبواب جحيم يقضّ مضاجع المشاعر ويعتّم الفضائل والمحاسن ويجعل الناقر صيّادا ماهرا، أو الناقرة ضحيّة، وعكس ذلك صحيح في خضمّ ما صرنا نعانيه من انقلابٍ للقيم.

كما نلاحظ الوعظ في وسط النصّ تقريبا حين يتجلّى أفقٌ في النّصّ يُشرع مصراعين فيه، مثلما تنشقّ المشاعر ما بين تردّد وقبول لعاطفةِ أوّل نقرة ولحبّ زُرِعَ وَسَطًا، في القلب. “يخترق القلب ويَنفُذُ إلى الجسد لا يُبقي ولا يذر.”

وفي الاستفهام “الحبّ من أوّل نقرة؟” استغراب واستنكار فَتَحَ مجالَ الحجّة الدامغة المقدّسة “وبُني على خمس.” تماما، كما بُني الإسلام على خماسيّة أركانه. فصار من المستحيل أن لا تتديّن بدين من نقر أوّل نقرة وأن لا يدقّ القلبُ بأوّل حجّة وأن لا ترى القداسةَ، وأن لا تغيم أمامها المفاهيمُ. مقنعة هي فتواه في هذه الجملة.

هي جملة أُفقٌ وعمادٌ يقرّ بما هو حبّ من أوّل نقرة ويوضّحه. والحجّة آتت أكلها بسرعة “أكمل. أكمل.” وتغرق “هي” في قرار أوّل نقرة وتنخرط في منظومة جديدة تحتاج فيها إلى الوعظ والنّصح. وكاتبتنا ناصحة مرشدة لم تنسَ دورها. إذْ قطعت خيوط الرّبط وأرخت على شخصيّتيْ القصّة سدول سواد مقيت بسواد الشاشة وفي مقابلها بانت الفكرة الّتي تريدها صاحبة النصّ ناصعة غير أنّها حاولت تعتيمها بحسب خياراتٍ وحلولٍ تقع في حسبان القارئ ونقرأها في: “ألوووووو.” آخر النّصّ. فهي فرصة إمّا للتّدارك والانتصاح وعودة الرّشد إلى الفضائل وقطع مع الرذائل أو هي سقوط في سواد لا ندرك له نهاية. بل ندركها ولكنّنا ننجرف في تيّارها العارم.

وأمّا النّصّ الفنّيّ، فإنّنا نلاقيه في الأسلوب القَصَصِيّ المعتَمَد كشكل للكتابة، وفي القصيرة جدّا، في شكلها المستحدث الجديد.

فتتكثّف في القصّة المعاني وترسم في ذهن كلّ قارئ نصّا يفهمه وحده، ويرى فيه ما يريده هو بحسب تأويله ورأيه في القضيّة.

وفي النصّ بنيةً، نجد أنفسنا بين أصيل و دخيل. نكاد نرى أسلوب الخبر القديم المعروف عند العرب (روى فلان عن فلان أنّ...) فكاتبتنا لا تنفصل عن الخبريّة وإن لم ترسم لها بداياتها ولكنّنا نعرف أنّ ما ورد في النّصّ نقل لخبر كلّنا نعرفه (يُروى أنّ إحداهنّ كانت تجلس إلى حاسوبها...) كما أنّ حدود النصّ لا تتجاوز حدود الإخبار السريع المتناقل، ولكن يجذبه الشكل إلى الدّخيل وهو فنّ القصّ السّريع العاجل بسَمْتِه الجديد المحدث.

ويتجلّى في النصّ حينها كثافة وعمق شديدين. ويمكنني أن أرى كاتبتنا كيف وُفّقت في الشكل الذي تصارع مع بنية القصّة القصيرة جدّا ونسق العلاقات في العصر الحديث الّتي صارت سريعة جدّا. كما أنّ الحدث يستجيب للحبكة المتضمّنة للعقدة في أحاديّته سائرا نحو هذه الخاتمة القائمة على المفارقة مع الحدث والتي فيها ينصبّ الصّراع بين ثنائيّة علاقة الشخصيّتين أو المفارقة في العلاقة، فكلّ يراها من زاويته: هو يراها حبّا من أوّل نقرة وتراه هي حبّا عجيبا غريبا لم يتطوّر بشكل من الأشكال المعروفة. فكانت المفارقة التي انبنت عليها الخاتمة في خدمة الحدث معلّلة له وعندها تمّ تشكيل المعنى.

وعندها نتوقّف على عتبات ملحة الختام: “لماذا اسودّت الشاشة؟ هل ابتعدت كثيرا؟”

“هههههههههههههههه. إنه الفايروس أيّها المتيّم.

“ما أجمل ضحكتك!”

الضّحكة جميلة. تماما كما ترسمها الأنامل على صفحات “الشّات” بحروف صاخبة ويا له من صخب! فأين نحن من القصّ؟ ألم نفهم؟ ألم تقع مع أوّل نقرة في الحبّ؟ لِمَ السّواد والعتمة؟ وما هذه الضحكة؟
سخرية مُرّة، ويا لها من سخرية!

مع الضحكة نشعر بالفخّ الذي يوقع فيه السّرد. فالحبكة قصصيّة جميلة. ولذلك نسخر من الفعل ومن الفاعل بل نشمئزّ فنعود لنقرأ “حبّ من أوّل نقرة”. لم تخطئ كاتبة النصّ الخاتمة ولم تَحِدْ عن دور الأدب في بناء عالم القيم الأصيل. لا بدّ أن تفشل هذه العلاقة وفشلها يمكن أن يتصوّره كلّ قارئ كما يريده وبالصّورة الّتي يريد.

وإذا عدنا إلى القراءة وجدنا العالم القِيَمِيَّ الأصيل تشتدّ لبناتُ بنائه بحكمة ندركها جليّةً. فالبناء يشدّ إليه بأفقه المذكور قبل الآن وبالعنوان الّذي يُظهر براعة في التّلاعب باللّغة و يلقي ظلاله على المشاعر الّتي تلاعبت بها النّقرة.

هي نقرة وقد تعوّدنا نظرة: جناس غير تامّ، سنرى له الأثر في الخاتمة. ونتفطّن إلى أنّ العلاقة لم تتمّ أركان بنائها الخمسة، فــ”وشيء بيننا” قد انقطع. ويستظل النصّ بظلّ العنوان، وينتشر ويمتدّ كما انتشر الحبّ فيها “يكبر كلّ يوم ويمتدّ في كلّ الأرجاء وفي كلّ الاتّجاهات”.

وتتضافر عبارات الوصف مع جمل السرد ليعطّل الوصفُ الفعل فيتعَطّل. وهذه براعة أخرى في استعمال اللّفظ تنضاف إلى المضمون والشكل. فأسلوب الكتابة الّذي لم يبتعد عن البساطة قد صار عميقا صُورةً وتبليغا وتأثيرا “عظيم ومدهش، بدائيّ ومتحضّر، ناعم وعنيف. يزداد شفافية وألقا كلّما اقتربنا”. ونتبيّن أنّ الكثافة والتّكثيف وظيفيّان، هما دليل السّرعة في تطوّر المشاعر تواكب التّطوّر في واقعنا التّكنولوجيّ وثورة مشاعر أوّل نقرة، وبسرعة نقرة من المجهول جاءت وإلى المجهول انتهت وفي المجهول غابت. بل نقرة جاءت من المعلوم المزيّف إلى المعلوم المستَنتَج بقراءة كلّ واحد فينا والّتي ستجمع الراءات عند نتيجة مُتّفَق عليها بالإجماع تسير في فلك أركان الحبّ من أوّل نقرة.
والمتيّم في عصرنا متيّم قد نرى أسنانه ناصعة البياض عندما يرسم ضحكته بالحروف، ولكن قد لا يتشكّل الحرف إلاّ ليُظهر خبث الضاحك النّاقر.

لغة القصّة:

لم تعتمد صاحبة النصّ على لغة رمزيّة ولا ابتعدت باللّفظ لتغرقه في المجاز، وإنّما سجّلت فكرتها في لغة بسيطة عاديّة قد يعيبها كثيرون من المشتغلين على هذا النّوع من القصّ، ولكن يقرأها كلّ قارئ أيّا كانت ثقافته، وكلّ متصفّح للنّت. حتّى أنّها بدت لغة تواصليّة تفاعليّة مثلما هي لغة “الشّات” وبسيطة بساطتها وتخالها منقولة عن صفحة “شات” مباشرة دون تصرّف أو تعمُّدِ قَصِّها في أسلوب فنّيّ تتطلّبه القصّة القصيرة جدّا. واقترب النّصّ بذلك من لغة واقع النّت في غير إسفاف ولا إضرار باللّغة وإن لم ترقَ إلى اللّغة الفنيّة الّتي يتطلّبها العمل في القصّة القصيرة جدّا.

خاتمة:

وبَعد النّصّ، “حبّ من أوّل نقرة” يمكن أن يكون في صورة أخرى تحمل الفضائل وتؤصّل القيم النّبيلة. أَلَمْ تنقُر كاتبة النصّ نصّها لِيَصِلَ إلينا من أجل معان إنسانيّة سامية؟

وكم على صفحات الانترنيت من نقرِ أصابع نَبَضَ في قلوبنا نبض حياةِ مِعطاءٍ وأثار فينا الأفكار النّبيلة! فعلى أطراف أصابعنا جميعا تبدأ أبجديّات العالم الجديد. إذ تكفي نقرات على لوحة مفاتيح صمّاء لندخل جميعا عالما مليئا بـ”المغريات” بشتّى أنواعها، والعلوم والأديان والأفكار والآداب، والأخلاق، والمباح والمحرّم والممنوع والمرغوب فيه.

وتبدأ العلاقات في نقرات، ويبدأ سلّم الأخلاق في صعود ونزول بحسب ثقافة المستخدم وسنّه.

D 25 شباط (فبراير) 2012     A وهيبة قويّة     C 6 تعليقات

3 مشاركة منتدى

  • أحسنت أستاذتي قرآءتك للنص أعادتنا إليه مرارا، وأظهرت جمالياته وإبداع القاصة في كتابته..شكراً لك أستاذتي في كل يوم أتعلم شيئا جديدا منك، شكراً لك..


  • تحليل شامل ومفصل ودقيق للقصة، وهو يعتبر من نوع (نص على النص) أي أن الفاضلة وهيبة كتبت نصاً جديداً يكاد يكون مستقلاً اعتماداً على نص وهو هنا القصة، وعرضت لنا فكرها ورأيها في القصة وتجلياتها، ولا أخفي إعجابي بقدرة الأخت وهيبة على استنطاق النص بما لا يخطر ببال كاتبة القصة، وهنا يكمن التجلي النقدي، فالقاص يكتب وقد لا يعي أو يقصد ما يفهم، فهو يقصد شيئاً ويفهم منه أشياء، وقد يؤول النص بما قد يخالف غاية القاص من كتابته. وهذا يحمل القاص مسؤولية كبيرة بأن يتأنى ويراجع وينقد نصه قبل إطلاقه. وأخيراً أؤكد أن مثل هذا النقد قليل في الساحة الأدبية، لأنه يتطلب جهداً كبيراً وحفراً عميقاً في النص. كل الشكر للأخت وهيبة على إمتاعنا بتحليلها الوافي.


    • الأستاذ موسى الجليل
      شكرا لكلامك المشجّع.
      أنا فعلا عندما أقرأ أحاول أن أقرأ ما يكن أن يكون حول النصّ وبين سطوره سواء خطر على بال القاصّ أم لم يخطر. ولذلك لم أسمّه نقدا بصريح العبارة وإنّما قراءة في القصّة. فالقراءة في النصّ أمر ليس سهلا ولكنّه ممتع لأنّه يخلق النصّ الجديد برؤية مختلفة أو مؤتلفة مع النصّ الأصليّ. كما يفتح أبواب النّقد والإبداع.
      ولا أخفيك أحبّ كثيرا مثل هذه القراءات لنصوص مختلفة أيّا كان صاحبها من الأدب قديمه وحديثه وللمشهورين أو المغمورين، فالمهمّ فكرة النصّ والقضيّة الّتي تشغل صاحبها.

  • الاستاذة وهيبة قوية: وجدتك في هدا النص كشجرة وارفة الظلال، اصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين. فالراسخون في العلم درجات، وانت قد احتليت درجة عليا في علمك الادبي وتمكنت منه و من لغتك ايما تمكن، فجاء فهمك للنص فهما دقيقا جعلك تُخرجين خباياه وتنفضين منه افكارا لا تاتي على البال، وتبرزين ما كمن فيه من قضايا سلوكية، أخلاقية، عاطفية، اجتماعية و حضارية لا تتجلى كلها للقارئ العادي، فأظهرت بذلك قدرة وكيفية نادرتين في النقد والتحليل. دمت استاذة لنا والأستاذية لا ينالها الا من كان بها جدير.


    • زهرة الجزائر العزيزة
      أشكر متابعتك لنصوصي وقراءتك الموصولة بالتقدير.
      أنا أتعلّم كلّ مرّة من ملاحظات الأصدقاء كيف أتقن العمل بكتابة النّصوص أو على النّصوص. فهو عمل يحتاج إلى تدريب متواصل، ولا أخفيك بعضه جزء من عملي باعتبار اختصاصي في الآداب والحضارة واللغة العربيّة. أحبّ كثيرا القراءة وكانت لي "خربشات" منذ كنت تلميذة على وريقات أضعها دائما بين طيّات صفحات الكتب أو كنّشات صغيرة أعدّها كنزي الصغير.
      كنت دائما أخاف أن لا أفهم ما أقرأ ولذلك أعتبر القراءة مغامرة لذيذة.
      وأمّا بعد تشجيعكم لي فسأواصلها وأرجو أن لا تبخلوا عليّ بالملاحظات الّتي تدعم عملي.
      جزيل الشّكر للزّهرة اليانعة

في العدد نفسه

عن مبدع الغلاف

كلمة العدد 69: عن الانتماء لقيم

المشهد النقدي في الجزائر قبل الاستقلال

أبعاد التصوف

حوار مع الناقد عبد الله الفيفي