رشيد فيلالي - الجزائر
بختي بن عودة في رنين الحداثة
بختي بن عودة: ناقد وشاعر وأستاذ جامعي جزائري. اغتيل عام 1995. جمع بعض مقالاته وأشعاره في كتاب بعنوان رنين الحداثة. صدر عن دار الاختلاف (1999).
الكلام عن الراحل بختي بن عودة من الصعب في رأيي أن يخلو من الحسرة والمرارة؛ كيف لا وهو القلم الفذ الذي وعد بالكثير حين أخذ على عاتقه رسالة التأسيس لمشروع فلسفي يتوسد الاختلاف كرؤية أصيلة للكون والإنسان، لكن الأيادي القذرة أبت أن يكتمل هذا المشروع الطموح ويتجسد على أرض الواقع.
بختي بن عودة الولد الطيب، ذو الوجه الطفولي المصقول بالمحبة والبراءة، كان رمزا للروح اليقظة في اشرئبابها الدائم إلى عالم يمجد الحرية، يستضيء بشمس المعرفة والعقل المتزن، عالم يسمو على القبح والحقد والفكر الأحادي المقعد، المستكين لتخريجاته المحنطة ووعيه المعطوب.
لقد لفت الراحل انتباهي في مقالاته الصحافية التي جُمعت فيما بعد في كتاب "رنين الحداثة"، وكان يستشهد في سياقاتها بأفكار زُبدة من الفلاسفة والمفكرين العرب والغربيين على غرار الراحل محمد أركون، وكذا كيركيكارد، مارتين هايدغر، إيمانويل ليفيناس، بول ريكور، مارلو بونتي، وجيل دولوز (الذي للتذكير انتحر في نفس العام الذي اغتيل فيه بختي 1995م)، وكلود ليفي شتراوس، ميشال فوكو وجاك دريدا، وهذا الأخير كانت تربطه به علاقة شخصية متينة، وكانت جميع هذه الاستشهادات تنبي عن اطلاع عميق واستيعاب مثير للانتباه لطروحات هؤلاء الفلاسفة الأفذاذ على الرغم من صعوبة التعاطي مع هذه الطروحات شبه النخبوية والمعقدة، وقد اجتهد بختي في أن يعالجها ضمن لغة عربية مستحكمة، راقية، تتعالى عن السطحية والحشو والاستعراضية العقيمة التي عادة ما تطبع مقالات بعض المتعاملين مع هؤلاء الفلاسفة والمفكرين من الكتاب العرب.
وفي تصوري أن اختيار بختي بن عودة في رسالته الأكاديمية لموضوع "الاختلاف بين ميشال فوكو وجيل دولوز وجاك ديريدا" هو اختيار له مدلوله ومغزاه لأنه صادر عن شخصية مغامرة جريئة وذات أفق ثقافي منفتح يتغذى من كل تيارات الفكر المعاصر دون استلاب أو عقدة أو انبهار سلبي، والذين تابعوا ما كتب بختي بن عودة من مقالات فكرية ونقدية في مختلف الصحف الجزائرية على غرار صحيفة الجمهورية، وخاصة تلك التي نشرها في أسبوعية الوقت، قد لمسوا فيها لا محالة تلك الرؤية العميقة، والتحليل المنهجي الصارم في خطاباته المثقلة بحمولات معرفية هي انعكاس لرسوخ في القراءة والهضم والتفلسف.
ولا أزال حتى الآن في عجب وتساؤل عن مصادر وينابيع هذه الديناميكية المتعاظمة والعنفوان الحي في كتاباته والتي نصادفها حتى في أسلوب ترجماته عن الفرنسية لأعمال بعض الكتاب الجزائريين، تلك الترجمات التي نشرها ضمن عدد من المجلات الثقافية العربية ولاقت احتفاء مشهودا، فلقد كان بختي مبدعا أصيلا في نقلها إلى لغة عربية أنيقة تكشف عن ذوق علوي مرهف وموهبة في ميدان الترجمة شديدة النضج والاقتدار.
أما عن بختي بن عودة الشاعر فهذا جانب آخر هام وجوهري من جوانب شخصيته المتعددة الإشعاع والتأثير؛ فالذي يقرأ قصائده النثرية لعل أول ما يستوقفه فيها تلك اللغة الصوفية المنحوتة في سطوع جارح، لغة تتخطى شوائب الكلام الجاهز والنمطي، تقول شوقها المكتوم إلى المطلق في غبطة طفولية ساحرة، وإن كانت مفرداتها لا تداري ذاك الحزن الضاري الطالع من ذات مكمودة بغربتها ورفضها وانسحاقها، وسط فضاء أبوي خانق عبوس عاطل متشنج، سادر في تخلفه ومجبول على العنف والتسلط، ومن هنا فقصائد بختي يمكن توصيفها أيضا في رأيي كشهقة مبهمة وموحية في نفس الوقت تحشد قواها الجمالية ضد العادي والفاقع والمتفق عليه بحثا عن فضاء عذري إنساني ونبيل، وربما لهذا السبب يقف القارئ التقليدي واجما أمام نصوص بختي الشعرية، وقد تستغلق على فهمه لأنه بطبيعة الحال لا يملك مفاتيحها التي نجدها منطقيا في كتاباته وبحوثه الفلسفية بشكل عام.
والآن ما الذي تبقى من بختي بن عودة؟ في رأيي بقي المثير والأساسي، فهذا المثقف والمبدع الشاب الذي يعد أصغر فيلسوف جزائري يرحل عن دنيانا وهو في عز شبابه (34 سنة) له بصمة متفردة في تنشيط الحركة الفكرية، وتكريس تقاليد حضارية في الحوار واحترام الرأي الآخر في الجزائر والوطن العربي ككل، وقد كان والحق يقال نموذجا نادرا في ذكائه وتفاؤله وتسامحه وحماسه العاصف لتأكيد ذاته بين مجايليه وبين من هم أكثر منه سنا وتجربة من الكتاب والمبدعين.
ولا زلت أذكر تلك المداخلة الرصينة والرائعة التي شدت انتباه الحضور وانتزعت إعجابهم والتي ألقاها بالقاعة الكبرى للمركب الثقافي محمد العيد آل خليفة بقسنطينة عاصمة الشرق الجزائري، وذلك ضمن ملتقى وطني حول الرواية نظم في سنوات الثمانينيات، وكان من بين المدعوين أسماء محترمة كالراحل يوسف سبتي، والسيميائي رشيد بن مالك، والصحافي والمترجم جروة علاوة وهبي، والدكتور الناقد أحمد منور، والروائي لحبيب السايح وغيرهم. وكان ملخص ما قاله على النحو التالي:
إن الرواية العربية الحديثة أضحت تستقطب جل المبدعين وفي طليعتهم الشعراء وتستأثر باهتمامهم الشديد، فهي فضاء نصي ومعمار لغوي وفكري مفتوح وقابل لاحتواء مختلف الأجناس الأدبية إذا جاز لنا توظيف هذا المدلول الكلاسيكي، بحيث صرنا اليوم نقرأ في عدد من الروايات العربية مقاطع في المقدور توصيفها على أنها شعر نثري لكثافتها وإيقاعاتها الداخلية ووجدانياتها العالية. كما أننا كثيرا ما نتقاطع في قراءاتنا للرواية العربية الحديثة مع مقاربات فلسفية أو نقدية اجتماعية أو تاريخية أو حتى فنية تشكيلية وهندسية ولسانية وطبية وعلوم دقيقة. وعليه فإن الرواية العربية الحديثة رغم كونها لا تزال محل تجريب وبحث عن تيمات جديدة وصيغ تعبيرية بكر، ورغم عمرها القصير نسبيا مقارنة بالتجربة الغربية، الذي لا يتعدى مئة سنة، فقد تمكنت من شق دربها بسرعة لافتة، وفرض رؤيتها ورصدها للعالم والوجود والجمال والمصير الإنساني. وثمة أسماء عربية عديدة تركت بصماتها المضيئة في هذا المجال منها نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وحنا مينة والطاهر وطار وإيميل حبيبي وإبراهيم الكوني وعبد الرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا وغسان كنفاني وغيرها من الأسماء التي صار لها حضور عالمي متميز ونالت جوائز كبيرة على رأسها نوبل للآداب (نجيب محفوظ 1988).
رحم الله بختي بن عودة وأرجو أن تتحقق أمنية طبع أعماله الأخرى المتبقية على شكل مخطوطات مثلما طبعت بعض مقالاته ودراساته في كتاب من 139 صفحة حمل عنوان رنين الحداثة" " عن منشورات الاختلاف عام 1999م.
◄ رشيد فيلالي
▼ موضوعاتي