إبراهيم يوسف - لبنان
بغل الوالي
هبّت رياح الخيل
وانطفأت رياح الخيل
وأتى من البعيد
البعيد
فاصعد بنا سفحا فسفحا
واهبط الوديان
فأنت أدرى بالمكان
وأنت أدرى بالزمان
يا نشيد (1)
امتعض صاحب الفرس ورفض عرضا لا يخلو من وجع بدا واضحا على وجهه، لكنّه لم يتعد آداب الناس في بيوتهم فاعتذر عن بيعها، لكيلا يذبحوها طعاما لضواري "سيرك" يتواجد في إحدى مدن الاصطياف. ثمّ "أغمض عينيه" لاحقا فاتخذ القرار، وتخلى عنها بلا مقابل لبيطريّ طبيب، يعمل في مركز للأبحاث الزراعية، كان عالجها ولم تشف. تنازل مكرها عن الفرس واحتفظ بمهرها بعد فطامه بوقت قصير. مهر عربي محجّل، كستنائيّ بلون الصدأ.
قبل عامين على واقعة التخلّي عن الفرس، ومصيرها المجهول، مات قائممقام الإقليم، الحاكم الإداري، أو "التحصيل دار" (2) بتعبير أهل الريف. عزوا علّته إلى غضب الله وبلائه عقابا له على الإفراط في القسوة على رعيّته، والمبالغة في فرض الضرائب والرسوم. قضى نحبه في فترة شهور جرّاء مرض مجهول أصابه فأعيا الأطباء، وعجز عنه "المغاربة الجوّالون" (3).
أعلن إمام البلدة يومئذ بالنداء المباشر، من على مئذنة المسجد، كما أعلن أئمة المساجد الأخرى في القرى والبلدات المجاورة، عن اليوم التالي موعدا للدفن. سبق الإعلان طلبا بتلاوة الفاتحة، والصلاة على محمد وآل محمد، فآيات موجزة رتّلها من الذكر الحكيم.
في مساء اليوم، تقاطر الناس من النواحي البعيدة التي بلغها النعي، يبيتون ليلتهم في ضيافة البلدة استعدادا للدفن في اليوم التالي، يتوزعهم أبناؤها كل بما يتسع بيته وتسعف أحواله. توافدوا للتعزية بالفقيد الكبير، صاحب السلطة المبرمة والأمر النافذ، خلافا لما جرى مرّة للوالي وبغله، فعندما مات بغل الوالي أقبل الناس يعزّون الوالي في مصابه. وحين مات الوالي لم يأت من يعزّي به. كان المتوفى أشدّ بأسا من الوالي، صاحب سلطة تجاوزت كلّ الحدود. حكم رعيّة مهزومة بالحديد والنار. خافته في حياته، وهابته على نعشه.
"واذكروا محاسن موتاكم". كان رحمه الله علاوة عن الظلم والقسوة والفساد صاحب مزاج يهوى الطرب. يستدعي إلى داره من يتقنون الغناء، فلا يتجاوزون العتبة في مجالسهم، يشنّفون أذنيه بأصوات لا تسعفهم من الخشية والخوف. لعله لو كان فطنا بعيدا من الجور والتعسّف لأحبوه فأحسنوا الغناء في حضرته وأطربوه. لكنه كان أشدّ "مهابة" وأقل تقديرا وحصافة من هارون الرشيد، فلم يدن في مجالسه الشعراء والجواري والمغنين. لو لم يمت هذا الغبيّ المبجّل، لو لم يقتله داء دفين لسحقته الثورة بعد أجيال، فالثورة كالموت آتية لا ريب فيها الخلق بلا ثورات أو دماء كعروس بلا طيب ولا أقراط.
لو فات عليك الأسى والظّلم فيك أحتار
بين الصباح والمسا إنده على الأحرار (4)
اقتصر نصيبنا من الضيوف على أب تعدّى الخمسين، يشارك اليوم التالي في الصلاة على الجنازة وفي التشييع. وابنه شاب تجاوز من عمره العشرين، قدم على جواد عربي "محجّل" ليشارك في تكريم الجنازة. و"المحجّل" بياض فوق الحافر، في قائمة أو أكثر من قوائم الخيل فحسب. أما جسمه فعسليّ داكن، أو هو كستنائي بلون الصدأ.
كانت الخيل يومها الوسيلة المتاحة لسفر الميسورين إلى المناطق النائية الوعرة، التي لم تكن لتبلغها مركبات النقل النادرة، علاوة عن دورها المهيب في تكريم الجنازات. أما الدواب الأخرى كالحمير وسواها، فكانت وسيلة انتقال السواد الأعظم من الناس.
خلال عشاء جمع أبي إلى ضيفيه، يشاركهم زوج أختي، صديق الفتى الضيف، تحلّقوا جميعا على حصير من قشور الذرة، حول طبق الطعام، طبق واسع مزيّن بالنقوش من قش ينمو على ضفاف الأنهار، جففته أمي ثمّ لوّنته واجتهدت فأحسنت صنعه بيديها. أكلوا واسترسلوا في الكلام، فتبادلوا الحديث "بجيم معطشة" (5) جافة، خشنة، تربك الفم، وتخدش طبلة الأذن. سمعت الضيف يقترح على أبي أن تشارك فرسنا في تكريم الجنازة. أربكه الاقتراح وتردّد في الموافقة، فالفرس أصيلة حقّا تشهد على أصالتها وثيقة مكتوبة. لكنّها بلغت عمرا لا يصحّ معه أن تشارك في سباق وتحرز فوزا، فاقتصرت مهمتها الأساسيّة على التنقل والسفر.
تراءى لي زوج أختي مستنفر الحال، مستفزّ الخاطر يتابع الحديث باهتمام بالغ. كان منطق الأب الضيف معززا بحجة لا تقبل النقاش وتنفي أسباب التهرّب والأعذار، فإن لم تكن الفرس مؤهّلة حقا لتحرز سبقا، فإنّها تقوم بالواجب، وتؤدي دورها عندما تشارك في الاستعراض والتكريم.
بعد العشاء، كان أبي آخر من ترك الطبق. تسامروا واستأنفوا الحديث في مختلف الشؤون، أبرزها المواسم الزراعية، وتقليم أغراس العنب. ثم دعيت والدتي للمشاركة في السّهرة حفاوة بالضيفين. حملت لهم القهوة، وتبادلت تحية مقتضبة مع الضيفين، وكلاما مختصرا عن حال الأسرة والأبناء. مكثت ريثما احتسوا قهوتهم. ثم اعتذرت وانسحبت مع الآنية الفارغة.
قبل أن يخلد الضيفان إلى النوم، تفقد الأب الضيف جواده، واقتصد في علفه مكتفيا بالقليل من التبن والشعير، ليبقى رشيقا ضامر البطن، بعيدا عن أسباب التخمة كما قال، مستعدا للمشاركة في تكريم الجنازة وسباق اليوم "المجيد".
كانت فرسنا "تحبس" في الزريبة معظم أيّام الشتاء. نطلقها في أوّل إطلالة للربيع، فتعدو كما المجنون بين الغيضة والغدير (6). تتوقّف فجأة لتعبّر عن سعادة تضيق بها الدنيا، فتقف على قائمتيها الخلفيتين، ذيلها يكاد يلامس الأرض، رأسها يتّجه في زاوية منفرجة نحو الأعلى، وعيناها الواسعتان شاخصتان إلى السماء، تصهل بفرح أسير طليق وهي تحرّك في الهواء قائمتيها الأماميتين كأنما تحاول أن تطير.
يقولون: المرأة كالفرس تعرف الخيّال. فهل الخيّال يروّض فرسا إنما يطوّع امرأة متمرّدة ثمّ يعشقها، أم تراه يقتلها بغروره، فيقسو عليها ويهجرها؟ مفازة طويلة فيها مشقة وعذاب، يقطعها الرجل ليروض فرسا شموسا (7)، أو يبلغ امرأة عصيّة. لعلي لو كنت مراهقا مشحون الجسد لأدركت يومها سمات حب مشترك في معنى المنعة والكبرياء، ومعنى التمرد واللين والشهوة، عند المرأة والفرس.
انطلق الموكب من المسجد بعد صلاة الجنازة. المشيعون يرفعون النعش على الأكتاف، يتسابقون على حمله طمعا بالثواب، يرددون خلف الإمام بأصوات متنافرة شهادتهم: "لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله".
ثلة من الخيل والفرسان في الطليعة تتقدم الجنازة، أقبلت من أرض البيادر حيث كانت تنتشر منذ الصباح، ليس بعيدا عن المسجد. يعتمر الفرسان الكوفية دون العقال، يعصبون بها رؤوسهم، ويرتدون "شراويل" (8) فضفاضة المؤخرة، بعضها مطرّز على الجانبين، تضيق عند الساقين حتى تبلغ الكاحل، وينتعلون مداسات (9) خشنة طويلة "الأعناق".
النّدابات المجللات بالسواد، يشتركن في التشييع خلف الرجال، يواسين "الجراح" ببكائيات تغتصب دموع العيون. طلين وجوههنّ بالسخام. بعضهنّ شققن ثيابهنّ ومشين حافيات، يندبن الراحل في إيقاعات رتيبة، ويعدّدن سجاياه فيصفنه نفاقا أو تقيّة بنصير المهزومين ومجير الخائفين وبالخيّال والفارس المغوار الذي لا تطفأ له نار ولا يغلق له باب ولا دار.
الخيل ملجومة تحت سيطرة الفرسان. تتقدم الجنازة ثم تتراجع بكبرياء وتيه. تقبل أو تدبر في استعراض "عشائريّ" مهيب. لم تكد تبلغ موقع العين، حتى بدأت تحمحم بإشارات خفيّة، مع فرسان تيّمتها صهوات خيل لا تهون، حين أطلقت أعنتها في سباق محموم، بلغ حدود الحقد بين المشاركين، وانتشر على الأثر غبار كثيف يحجب الرؤية ويعمي العيون.
حين انجلى الغبار أسفر المشهد عن مفاجأة، وكارثة حلّت بنا. كبت فرسنا فعطبت إحدى قائمتيها الأماميتين. عطبت ساقها. فقدت عمرها، عزّها، تشهّي السروج، وحمحمات التّحدّي. خذلت زوج أختي. أصابته بجراح بليغة. كادت تقتله وشهّرت به بقسوة بين الناس. تحوّل بعدها جوّ البيت إلى حزن وتقريع للنفوس.
تردّد الخبر طويلا على ألسنة خلق الله ثم هدأ وتلاشى، وأخيرا توقف. وفي موسم التزاوج، تعهّد الفرس فاعتنى بها وعالجها بيطري طبيب ولم ينجح، فلم تشف قائمتها. لكنها تمكّنت أن "تعشّر" من جواد أصيل ربما كانت فرصتها الأخيرة، لتستمرّ وتحافظ على نسلها الكريم في مهر كستنائيّ بديع، مفعم بالحركة، محجل في قائمتيه الأماميتين، واسع الصدر، مرسوم العنق، مستقيم الأذنين، أبيض الناصية، رحب الجبين، معبّر في رأسه، جميل في عينيه المشرقتين الواسعتين، مهر عربي أصيل من العاديات، الموريات، يليق بتكريم سلالة الورثة من أبناء وأحفاد السّادة الحكام، في تاريخ وطنيّ عريق يستلهم صفي الدين الحلّي ولسان حاله يتغنّى بيوم النصر المجيد:
سل الرّماح العوالـي عـن معالينا = = واستشهد البيض هل خاب الرّجا فينا؟
بيـض صنائعنـا سـود وقائعـنا = = خضـر مرابعنـا حمـر مواضـيـنا (10)
= = =
إيضاحات:
(1) من قصيدة "مأساة النرجس وملهاة الفضة" للشاعر محمود درويش.
(2) "التحصيل دار": الحاكم الإداري، المكلف جباية ضرائب الدولة من الأموال الأميرية، ومعظمها من مواسم الفلاحين.
(3) "المغاربة الجوالون": كانوا يأتون إلينا على بغالهم بين الحين والآخر، لمداواة المرضى (غالبا بالنار والكي)، ومعالجة الكسور وعقم النساء. تسلط الرجل كان يوحي بعلة العقم عند المرأة فحسب.
(4) كلمات: عبد المنعم السباعي، ألحان: محمد عبد الوهاب.
(5) الجيم المعطّشة: هناك الجيم المصرية القاهريّة، وتنطق كما الحرف g في كلمة go الإنكليزيّة. وهناك الجيم الشاميّة، المستخدمة في معظم بلاد الشام وتنطق كما الحرف j في كلمة jasmine. أمّا الجيم المعطّشة فلا مثال يفسّرها إلاّ أنّها تلفظ بتدافع النّفس، وما تحدثه من ارتداد وارتجاج واسع في سقف الحلق، ونشاز أو جفاف وخشونة في الأذن. لعلها ما زالت شائعة الاستعمال في بعض المناطق العراقية. أما في الشمال اللبناني وبعض الأقاليم البقاعية، فقد اختفت منذ بعض العقود بفعل المدنيّة والانفتاح، واستعيض عنها بالجيم الشاميّة.
(6)" الغيضة": مجموعة أشجار. في الغالب من الحور والصفصاف والزيزفون، ترويها مياه نهر في الجوار.
(7) شموس: الفرس. لا يكاد يستقرّ على حال، ولا يمكّن أحدا من إسراجه أو ركوبه.
(8) "شراويل": مفردها شروال (آراميّة أو لعلها كرديّة). لباس أبناء الجبل اللبناني (مع لبّادة هرميّة من صوف على الرأس). اختفى الشروال واللبادة، وتحوّل اللباس إلى تراث "للفولكلور" والرقص الشعبي، والشروال يشبه إلى حد ما زيّ الأكراد في شمال العراق. كان قد انتقل إلى العرب بواسطة الفرس، وعرف عندهم" بالشلوار"، ثم عرّب ليتخذ اسم سروال أو شروال. هذا اللباس ظهر حديثا وغزا سوق الأزياء النسائية، ويلاقي رواجا كبيرا.
(9) مداسات: جمع مداس؛ نوع من الأحذية الخشنة.
(10) من قصيدة لعبد العزيز بن سرايا الطائي، الملقّب بصفي الدين الحلّي. قالها إبّان غزو العراق من قبل المغول والتتار.
- فرس
◄ إبراهيم يوسف
▼ موضوعاتي