عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

عماد الخطيب - الأردن

هوية الأنا والذات والوطن

في شعر إبراهيم الخطيب


هوية الأنا والذات والوطن في استدعاء إبراهيم الخطيب (*) للشخصيات التراثية: رؤيا سيميائية

.

إبراهيم الخطيب(*) إبراهيم أحمد الخطيب، طبيب وشاعر عربي مشهور من الأردن، ولد في قرية قومية (فلسطين)، عام 1938، واشتهر بين أقرانه بقصيدة رثاء للمتنبي، نشرتها له صحيفة المجد الأردنية في 28 آب 1995، ص 10، ومطلعها:

ماذا على القلب أن لا يحتويه دم

كم عاث فيه الجوى والصبر والسأم

حركت أشجان قلبي فالعيون همت

وفي عروقــي من نار الأسى حمم

هل يطفئ الشعر جمرا وهو جذوته

الشعـــــر يحرق مذكيه ويلتهم

واشتهر بقصائده في الوطن، وهموم المبدع، ومعنى الشعر، والمرأة. كتب الشعر صغيرا، كان معلما ناجحا في بداية مشواره المهني، ودرس الطب عام 1973، وبرع في مهنته، وتستوي مهارته الطبية إلى جانب مهارته في قرض الشعر، وكتب دراما للإذاعة والتلفزيون، وله يرجع الفضل في أغلب الإسهامات الثقافية في نقابة الأطباء الأردنية، وهو عضو إدارة في رابطة الكتاب الأردنيين لسنين مضت. نشر ديوانه الأول عام 1984، وله عشرون ديوانا، كان آخرها عام 2006. منها: غنّ لي غدي، 1984. قناديل للنهار المطفأ، 1985. حظيرة الرياح، 1988. ألوذ بالحجر، 1989. سنابل الأرجوان، 1990. وجها لوجه، 1990. ذي قار الأخرى، 1992. دم حنظلة، 1992. أرى تقلب حرفك في النساء، 1996. عرضة للحياة، 2000. أرى قوافي قد أينعت، 2002. حتى يتبين لك خيط الحلم، 2004، قاب دم وانتظار 2006. وترجم ديوانه (دم حنظلة) إلى اللغة الفرنسية [Lesang de Handhalah] ونجح هناك]. وتوفي رحمه الله في مدينة إربد-الأردن، عام 2011.

مدخل

عماد الخطيبلقد أصبح استلهام التراث واستدعاء الشخصيات التاريخية، ظاهرة في الشعر العربي الحديث، حيث إن استدعاء هذا التراث " يشكل ويسجل لحظة وعي جديدة لهذا التراث ". ولكن الوعي بالتراث لا يصبح ذا فعالية، إلا إذا ارتبط بوعي مماثل للواقع إذ إن حالة الوعي بالتراث والواقع معا وبالمقدار نفسه هي الحالة الوحيدة التي تتولد فيها علاقة تبادلية عميقة ومميزة. وبالتالي فإن الوعي بالتراث دون الوعي بالدور التأريخي يؤدي بهذا التراث إلى الجمود. حيث تغيب فعاليته لسيرورة حيويته ـ كما في المقابل أن الوعي بالدور التأريخي دون الوعي بالتراث، يؤدي إلى قطيعة معرفية ضد تأريخية الإنسان النفسية.

ونحاول هنا دراسة المادة التراثية عند الشاعر إبراهيم الخطيب في دواوينه المدرجة، من خلال عناصر وضعها لغرض الدّراسة، وقد فَصلنا بها حدود الصُّورة الكلية لتشمل صورا جزئية فيها قيمة التراث المأخوذ من الشخصيات التراثية.

ثم حاولنا دراسة المجالات التراثية للشاعر من خلال دراسة صورها الجزئية؛ وتكون الدّراسة قد جمعت بين العنصر المستهدف ومجاله دونما فصل؛ لأنه ربما تتداخل المجالات والعناصر، ولكن الهدف من استقصاء التراث يكون واضحا وله ما يُميّزه بعدّ التراث ذاكرة لكل الناس.

ويمكن أن نرى تلك الشخصيات مبثوثة في الدّواوين التالية للشاعر وهي:

1. غنّ لي غدي، دار الجاحظ، اربد، الأردن، 1984.

2. قناديل للنهار المطفأ، دار ابن رشد، عمان، 1985.

3. حظيرة الرياح، دار طبريا، عمان، 1988.

4. ألوذ بالحجر، دار اليراع، عمان، 1989.

5. سنابل الأرجوان، دار الكرمل، عمان، 1990.

6. وجها لوجه، دار الكندي، إربد، 1990.

7. ذي قار الأخرى، دار الينابيع، عمان، 1992.

8. دم حنظلة، دار الينابيع، عمان، 1992.

9. أرى تقلب حرفك في النساء، دار المؤسسة العربية، بيروت، 1996.

الشخصّيات التراثية (الاستدعاء والدلالة):

من الشخصيّات التي ذكرها إبراهيم الخطيب في شعره: أبو محجن الثقفيّ [1]، وتبدو هذه الشخصية ذات هيئة بطوليّة من خلال ما تتمثّله في شعره، وربما انعكست هذه الشخصيّة في شخصية الشّاعر، فقد أحبّها الشاعر حتى كاد يتذكر صفاتها في مختلف مواضع صوره في شعره.

فـالريح، والسيف، والبرق تصبح صفات لغد الشاعر يُكرّرها في لغته عبر دواوينه، ليمكن أن يتشكل للشاعر بذاك معجم خاص، تكون الريح فيه رمزا للصّراع، ويكون البرق رمزا للأمل، والسّيف رمزا للتحدي.

ويتقمص الشاعر الشخصية؛ ليستدعي فيها كل ما أسقط من لهوه ومن شعره، وما يمكن أن تستجلبه الشخصية معها من هموم وطنية تعكس هم الغربة والوطن المفقود للشاعر.

يقول:

فلا تجزع على ما ضاع من أمري

وما أسقطتُ من لهوي

ومن شعري

فَزَيْفي كان من خوفي

ومن ضعفي

وهذا النصر

أول صفحة العمر عن لي غدي / 66

ويتبادر إلى الذهن عند قراءة القصيدة كيف استطاع الشاعر توظيف مأساة شعبه، وطرده من وطنه باغتراب أبي محجن الثقفي في وطنه عندما اتّخذ من الخمر وسيلة لطرد حقائق لا يريد تذكرها:

وماذا تفعل الخمرة

إذا استيقظت الجمرة

وأعلن مولد النيران.

غن لي غدي / 68

ثم يقول:

فمن ذا يخمد البذرة

والفكرة.

غن لي غدي / 68

ويصبح الشاعر وأبو محجن في حال واحدة " فهات القيد يا جُرحي "

أنا قيدي هوى وطني / 70

وتتحول القضية إلى قضية وطن ضاع وتشرّد أهله وسط أهلهم العرب الكبار، رغم ما يُكنّه في بذرته وفكرته لهم فوق ملامح الشمس.

وتتحوّل شخصية زرقاء اليمامة [2]، عند الشاعر، من مجرد عين ثاقبة يحملها إنسان إلى ما يجسده شاعرها بها بربطها الفني مع قصة كُلَيبْ، ملك العرب الذي من قصته أنه:

كليب بن ربيعة التغلبي وهو كليب وائل الذي يضرب به المثل في العز فيقال أعز من كليب وائل. وإياه عنى النابغة الجعدي بقوله:

كليب لعمري كان أكثر ناصرا وأيسر جرما منك ضرج بالدم

وهو أخو مهلهل بن ربيعة وهما خالا امرئ القيس بن حجر الكندي. وبسبب قتل كليب كانت حرب البسوس بين بكر وتغلب وقال فيها مهلهل الأشعار، وأصاب كليب فرسا له مع رجل من مزينة في سوق عكاظ فأراد أخذه منه فالتوى عليه، وأبى أن يرده فقال كليب: لا آخذه منك إلا عنوة في دار قومك. وترك الفرس في يديه ثم غزاهم فأصابهم وأصاب الفرس.

وعودة إلى إبراهيم الخطيب، إذ يقول في ديوانه "غن لي غدي " / 73:

يا سيّدي

من يحمل الوصية

كُليبُ مات غيلة

وتأتي الزرقاء بكونها:

طائر النهار

……….

والشعر لا يغفو على الأسرار

وتكون الزرقاء أيضا:

طائر الصعيد

……….

وتكون أنت:

قد وقعتَ وانتهيتَ

ولكن قومك:

لم يفجعوا.

……….

لأنهم يرون:

الموت ليس بالجديد

لكن زرقاء اليمامة

ليس ترى سوى جفونه

ويستوي أمامها القريب والبعيد

غن لي غدي / 74

وهكذا استرجع الشاعر مع الزرقاء، في ديوانه الأول، أمل الغد المشرق "ماذا ترى من غدي" وقد سأل الزرقاء عن قصة كليب باستدعاء فني مقصود، نحو البطولات الضائعة من تاريخنا الحديث، وكانت الزرقاء قد:

لاذت وراء الصمت / 74

واستدركها أن:

الصمت لا يُعطي حلاوة الوعودِ

أو مرارة الوعيد / 74

فأين كليب وأين البطولات والنخوة العربية الحقة؟ إنها تجمدت حكايات فقط وصارت:

صورا في صندوق الدّنيا.

وجها لوجه / 90

وصارت دماء كليب – برأي الشاعر:

في منزلة النسيان،

بذاكرة قبلية

وربما من المفيد السبق في القول إن الشاعر متى وجد نفسه في تجلّ فكري مع النص، فإنه يعمد لاستحضار شيء من معجمه اللغوي في كيفية صناعة الشعر، ويقيس الأمر على نفسه، أعني على شعره وقافيته وعروضه ولفظه ومعانيه وباستدعاء لمكونات الشعر الحقيقي، كما يراه، ويربط بذاك بين المعنى الذي يستدعيه وبين صناعة الشعر الحقيقي، وتكون النتيجة أنه بالشعر وحده تعاد هيبة الأمة العربية، وأن فقد الأمة لاهتمامها بالشعر كما كانت أفقدها كثيرا من هيبتها. وهذا يتكرر في دواوينه بشكل ملحوظ. كما يمكن استنتاج أن مخزون الشاعر اللغوي/اللفظي يتكرر، وهذا يصنع له أمرين:

1. معجم شعري خاص لألفاظ الشاعر، يعرف خلاله.

2. علاقة بين دواوين الشاعر، تربط معانيه المستخدمة بعضها ببعض مثل علاقة ديوانيه (وجها لوجه)، و(ذي قار).

ويقول هنا:

ومن يُطوّع القافية العصبيّة؟

الحلمُ ظَلّ حُكما

غن لي غدي / 73

ومن الشخصيات التي استدعاها الشاعر ووظّفها لتحلّ له أزمة الغربة عن وطنه الأم (فلسطين) ثم التي يعيشها وطنه العربي الكبير، شخصية المتنبي، ولماذا المتنبي؟

إنه شاعر عرف بلقبه (المتنبي) وليس باسمه! واسمه أحمد بن يوسف الكوفي الكندي. ولد بالكوفة ونشأ بالشام. وفي نسبه خلاف، إذ قيل هو نفل، وقيل هو ابن سقاء كان يسقي الماء بالكوفة، وقيل أصوله من كندة، وهم ملوك يمنيون، ودس خصومه في نسبه، وأقوى الآراء المتناقضة في نسبه أنه لم يشر إلى أبيه في شعره أبدا. ويمثل شعره حياته المضطربة: ففيه يتجلى طموحه وعلمه، وعقله وشجاعته، وسخطه ورضاه، وحرصه على المال، كما تتجلى القوة في معانيه وأخيلته، وألفاظه، وعباراته. وترى فيه شخصية واضحة، حتى لتكاد تتبينها في كل بيت، وفي كل لحظة.

وبعد،

فكيف استدعاه إبراهيم الخطيب؟

إنه يقول في رثائه:

فالشعرُ بعدك لا لون ولا لغة = = كم مزّق الشعر مَنْ صاغوا ومَنْ رسمو

قناديل/8

ويتنقل الشاعر الخطيب متجليا في حيوات المتنبي فمن شاعريته، إلى بطولته، ففروسيته، وهكذا. كأنه يريد من رثائه له، أن يضع لنفسه مكانة من الشعر والشعراء حوله، وأن يُحوّل أنظارنا إلى واقع الشعر المزري الآن؛ انظره يقول:

والشعر كالروح تبقى بعد صاحبها = = والجسمُ ما تهدم الأمراضُ والسقُم /10

فقد صَوّر الشعر كالروح في بقائها بعد موت صاحبها، وصوّر الجسم بالذي تهدمه الأمراضُ والسقم؛ لأن الرّوح لا تدخل إليها الأمراض، وقد شبّه الشاعر الشعر بالرّوح التي لا تبلى كبلاء الجسم جاعلا من مقارنة الروح والجسم مقارنة تشبيهية؛ ليصبح الشعر هو الروح، والجسم هو ما سوى هذا الشعر ممّا لا يُخلّد. والنتيجة بقاء المتنبي وسقوط مَنْ سواه. كالشاعر الذي يدعو لنفسه البقاء.

وانظره كيف يسقط معنى حياة المتنبي الشريفة على واقع مَنْ باعوا أقلامهم، يقول:

والمالُ يفنى ويفنى ما جنيت به = = فاللفظ لا يشترى إذ يُشترى القلمُ /10

وعدّ المتنبي رمزا لكثير من الشخصيات الرّاقية في مجتمعه المعاصر الآن، ليُعيد التاريخ نفسه!

ويؤكّد الشاعر على هذا المعنى في ديوانه "وجها لوجه" بقوله:

ماذا إذا المتنبي قام يسألنا = = مستهجنا من وراء الغيب والحقب

الشعر يا سيّدي ما عاد موهبة = = بل صار شيئا من الألقاب والرّتب

……….

هذا هو الشعر ما نحيا به وله = = من غير ما غاية من غير ما سبب/ 32

وذاك هو التكرار في المعجم الشعري، فالشاعر يتجلى في تعريفنا بالشعر، والقافية، واللّغة الصّعبة، فهل غير المتنبي يستحق استدعاء ليأخذ مكانه في لغة الشاعر وهو يحكي عن: الشعر والشعراء!

وسنقف عند استدعاء الخطيب لشخصية قابيل، ومما يروى عن قصته، إذ جاء في قصة قتل قابيل هابيل أنه دعا آدم عليه السلام ابنيه هابيل وقابيل، وكان يحبهما من بين أولاده، فذكر لهما ما كان من أمره ودخوله الجنة، وسبب خروجه، وغير ذلك، ثم أمرهم أن يقربا قربانا، وكان هابيل صاحب غنم، وقابيل صاحب زرع، فأخذ هابيل من غنمه كبشا سمينا لم يكن في غنمه خير منه، فجعله قربانا؛ وأخذ قابيل من زرعه أدناه فقربه؛ فنزلت من السماء نار بيضاء لا حر ولا دخان فيها، فأحرقت قربان هابيل، ولم تحرق قربان قابيل، فداخله الحسد من ذلك، وقال: إن أولاد هذا تفتخر على أولادي من بعدي، فوالله لأقتلنه. وبعد،

فيستدعي الشاعر شخصية قابيل، في مماثلة صُوريّة فنيّة عند تسمية الشاعر لقصيدته: "قابيل فلسطين" في ديوانه القناديل /46، وانظر إلى قوله:

وبعدك يا قاتلي يا قتيلي

لمن أنتمي؟

لخيمةٍ، لغيمةٍ، لفكرةٍ، لحفرةٍ

قناديل للنهار المطفأ /48

ويلفت الشاعر إلى أخوة العربي في قوله – في إشارة إلى قصة كليب والزير سالم المعروفة:

أُكُلُّ الأخوّة سواء

ثم يقول:

وتحمل لحم أخيك شعارا

وغارا!

أتنسى بأن دمي ليس يرحم

لتشرب وتلعبْ /47

ويمكننا أن نقارن بين الأخوة التي استجلبها الشاعر إبراهيم الخطيب بين قابيل وهابيل والأخوة التي استجلبها الشاعر أمل دنقل بين جساس وابن عمه كليب، وعلى أصل الصورة البصرية المتشكلة، ويمكن القول:

لعل استدعاء شخصية قابيل يعد كافيا لاستشعار معنى الأخوة ورقي مفهومها، وعلى القارئ المهتم أن يلم بالماضي الذي جعل قتل هابيل به قابيل، واستغنى عن الأخوة، والحاضر الذي يقتل به شعب عربي، وأخوته قد استغنوا عن أخويته، وما عاد لهم حاجة في أخوة لهم، كما استغنى جساس بقتله لكليب عنه متجاهلا ما جره قتله، والقتل لا يجر خلفه إلا الدمار. ولا يرى هذا الدمار إلا صاحب الرؤيا بعقله، لا بعينه فقط، وأن على الأخ وابن العم والقريب أن يعلم أن في قتل أخيه وابن عمه وقريبه قتل له أيضا ولو بعد حين.

ولدى الشاعر مخزون كبير، قد نحس بأنه يفقد معه وحدة الموضوع في قصيدته، فيبقى عنوان قصيدته " طرفة بن العبد " موضوعا عامّا يحمل كل ما يريد له أن يحمل على ظهره، كما يتضح في النص.

ولماذا طرفة؟

إنه يعود بنا إلى التاريخ 86-60 ق. هـ / 539-564 م، وطرفة هذا هو: طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد، أبو عمرو، البكري الوائلي، شاعر جاهلي من الطبقة الأولى، كان هجّاء غير فاحش القول، تفيض الحكمة على لسانه في أكثر شعره، ولد في بادية البحرين وتنقل في بقاع نجد، اتصل بالملك عمرو بن هند فجعله في ندمائه، ثم أرسله بكتاب إلى المكعبر عامله على البحرين وعُمان يأمره فيه بقتله، لأبيات بلغ الملك أن طرفة هجاه بها، فقتله المكعبر شابا، وكان طرفة بن العبد البكري أقصر الشعراء عمرا، اشتهر بالغزل والهجاء، توفّي شابا.

وبعد، فيذكر إبراهيم الخطيب مع طرفة رموزا يمكن حصرها بما يأتي:

[العلم، والموت، والبطولة، والحب، والعمر، والحلم، والظل، والريح، والبرق]، وهي صور فورية تعكس في معظمها حديث الشاعر عن نفسه.

انظر إلى صورته:

هي الريح ما تُعطي لموجك شكله = = وإنّ ثياب الريح يلبسها الرّمل

قناديل/70

فقد صَوّر الريح بالشيء الذي "يجري عكس رغبة الموج" وكيما تراه، يحيطه الرّمل. وقد شبّه البلاء بالريح التي تُحَرّك الموج في كُلّ اتجاه، وصَوّر غدر الريح بالكائن من لبسها الرّمل. والنتيجة: ضياع كلّ شيء بضياع أهم شيء. ويتابع قوله:

إذا هَان فرد قد تهون جماعة = = وإن ضاع جزء قد يضيع به الكُلُّ / 70

وهذا ديدنُ الشاعر في تشويق القارئ لنتيجة صُوره المدرجة في القصيدة المطوّلة، ليرينا أن ضياع فلسطين سيضيع غيرها، وأن فرد فلسطين هو الجماعة

بأكملها، فحذارِ! وهذا طرفة قد ضاع، وضاع معه من ضاع:

أطرفة إني لستُ أبكي نهاية = = بها مات رَبُّ الشعر وانتهت الرُّسل /69

ويُصّرحُ الشاعر، كعادته، بحديثه عن نفسه في قصيدة:" أريد يوما جديدا " من ديوان القناديل / 97

صورة الأمسِ ما ترى في عيوني = = أيها العقم كيف يأتي الوليدُ

كان يشكو أبي وما زلت أشكو = = فكأنما ميراثنا التنهيد / 97

وتكفي الصورة حديثا عن نفسها ففيها:

أ. عودة الشاعر إلى الماضي ليستشف منه الحاضر.

ب. حبُّه للحديث عن نفسه وأسرته.

ج. الولوج إلى عالم الشعر، هاجسه وحلمه الذي تحقّق.

د. رفضه لواقعه الأليم وضياع وطنه الأصلي = فلسطين، وتفكك عروبته.

وتربط الصورة في مجازها بين "صورة الأمس" و"ميراثنا التنهيد" وتوظّف القصيدة طرفة إلى جانب امرئ القيس، في قوله:

طرفة العبد كم تشرّد عمرا = = وامرؤ القيس غرّبته الغيد / 98

……….

أمس ذكرى فلن أعيد صداه = = غير أنّ الذي سيأتي جديد / 101

ويؤكد الشاعر أنها غربة يشعرها بقوله صراحة: "إنها غربة" ويرفض عودتنا للماضي دون عمل "كأنّا للذكريات عبيد"!

كما يستدعي الشاعر شخصية شهرزاد وقد:

… أصابها .. الكساد …

وقد حل دم الشاعر = العربي محل حكايات شهرزاد للسمار، فيقول:

هذا دمي أصبح سيرة تسدّ حاجة السمّار

ألوذ بالحجر / 13

ثم يصير شهريار نادلا يُخدّر الندمان قبل أن يصيبه الخدر، أما (أنا) الشاعر فهي: صورة (حنظلة) الذي يقوم من قرارة المرارة، أغنية كافرة، ونعرف حنظل بأنه ذاك الرمز للفلسطيني البطل الذي يعرف مصيره بين من خذلوه، وهو دائم اليقظة في الدفاع عن قضيته، وكذا هو الشاعر، الذي بربطه بين قصص شهرزاد وحنظلة دعوة ليصبح حنظلة قصة بطولة متداولة بين سمار اليوم بدلا من قصص اللهو التي لا فائدة منها.

وليعذرنا القارئ إذا استطردنا نحو العروبة والقبيلة والمكان والزمان الذي جمع العرب، فالشخصية الآن هي (عدنان وقحطان)، إذ إن العرب لغة: بمعنى الصحاري والقفار، والأرض المجدبة التي لا ماء فيها ولا نبات. وقد أطلق هذا اللفظ منذ أقدم العصور على جزيرة العرب. كما أطلق على قوم قطنوا تلك الأرض، واتخذوها موطنا لهم.

وأقوام العرب: قسَّمها المؤرخون إلى ثلاثة أقسام بحسب السلالات التي ينحدرون منها:

1. العرب البائدة: وهم العرب القدامى الذين لم يمكن الحصول على تفاصيل كافية عن تاريخهم، مثل عاد وثمود وطسم وجديس وعملاق وسواها.

2. العرب العاربة: وهم العرب المنحدرة من صلب يعرب بن يشجب بن قحطان، وتسمى بالعرب القحطانية.

3. العرب المستعربة: وهي العرب المنحدرة من صلب إسماعيل، وتسمى بالعرب العدنانية.

فيدخل الشاعر الخطيب للعروبة وأصل الأصل العربي باستدعاء شخصية " عدنان وقحطان " وقد:

تعرّت (سوأتهما)

وأنهما الآن في الحاضر المخزي يعيشان في زمن:

للكذبِ الأبيضِ

وزمن الأوثانْ؟

ثم يطالب فلسطين بالثورة للتحرير فيقول:

هُبّي ريح فلسطين.

سنابل الأرجوان / 67

وهكذا يستنتج القارئ ارتباط الشاعر بوطنه واستدعائه شخصيات التاريخ استدعاء يفيدنا في الكشف عما قد يقوله الشاعر وراء قناع الشخصيات، ولا نرى ضرورة في ربط الشخصية بالقناع؛ ذلك أن القناع يشي بالضعف، وشاعرنا لا ضعف عنده في بسط الحقيقة، بل إدراك وانتباه (4).

ويتجلّى مفهوم معرفة الشاعر بالتاريخ وأحداثه، ثم استثماره هذه المعرفة بطريقة الاستدعاء المتّسق مع المعنى في ديوانه: وجها لوجه، مع شخصية ابن عبد مناف.

وفي استعراض لشخصيات ديوانه (وجها لوجه) ؛ لغرض دراسة الصور الجزئية وربطها بالصورة الكُليّة المطلوبة نجد شخصية ابن عبد مناف:

في قوله:

دلّني يا ابن عبد مناف

دلّني علّني لا أقايض أرضا بأرض … وأرضا بفكرة

فماذا يُساوي بأرضِ فلسطين ذرّة / 22

وها هي صورة فلسطين التي أردناها، وترى "الفكرة" التي ركّز الشاعر عليها هي هي " فلا لفلسطين ثمن ".

أما شخصية قطز، فسنقف معها قليلا وهو الملقب المظفر قطز، واسمه:

قطز بن عبد الله الشهيد، الملك المظفر سيف الدين المعزي؛ كان من أكبر مماليك المعز أيبك التركماني، وكان بطلا شجاعا مقداما حازما حسن التدبير يرجع إلى دين وإسلام وخير، وله اليد البيضاء في جهاد التتار. فانظر إلى استدعائه في قول إبراهيم الخطيب:

نردّ مغول الغرب يا قطز أننا = = نذود من الموجودِ ما أمكن الذّود /45

إنه يرد البطولة لأصحابها، وقطز من أصحابها، ولا مثيل له. ويكتفي الشاعر بالإشارة إلى قطز – فقط – والمغول ليسرح القارئ بخياله إلى إمكانية ما سيفعله قطز لفلسطين والعرب لو كان موجودا، وهذا لا يعفي الشاعر من تجاهله لتشكيل الصورة تشكيلا يقرب المعنى إلى ذهن السامع/القارئ، ولا يدع مجالا لكل أن يتخيل ما يريد.

وما زال استدعاء الشاعر لشخصيات التاريخ يخدم قضيته الأم " قضية فلسطين " وهو باستدعائه لشخصية النبي نوح عليه السلام فيقترب الشاعر الخطيب من قصة الطوفان الذي ربما يكون به الخلاص فيقول:

وظنّ أنّ في الطوفان معجزة،

وهام كالهوام خلفَ أي نوح / 57

ويعود إلى مفردات معجمه حيث الرمل والريح فيقول:

ولم أزل أطالب الرّياح بالكل

أطلب نقش الرمل / 59

وعن مستقبل فلسطين مع العرب حولها، يقول الشاعر:

أنتَ بواد وخيام بني عامر في وادْ

هذا زمن

يسرقنا خلف عقاربه

فنبرّره ونبرئه مما سرق

ونكتب فتوى للسرقةْ

وصَوّر الشاعر تماثلا بين النبي الكريم أيوب عليه السلام وشاتيلا في الصبر جاعلا من أيوب المثل المحتذى في التاريخ،

وانظر إلى ما في قصته من العجب، إذ ذكره الله سبحانه وتعالى في عداد مجموعة الرسل عليهم السلام، ففي خطابه لسيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، مثبتا له أنه أوحى إليه كما أوحى إلى مجموعة من الرسل ومنهم أيوب. وقال المفسرون: وقد عاش أيوب عليه السلام 93 سنة.

وقد أراد الخطيب من شاتيلا أن تكون مثلا محتذى في الصبر في وقتنا الحاضر: مساويا فيه بين الصبر الحِسّي عند النبي الكريم أيوب عليه السلام، والصبر المعنوي المستعار مجازا تصويريا في مخيم اللاجئين الفلسطينيين (شاتيلا في لبنان)، إذ يقول مخاطبا الشهيد وهو يتحدى الصبر ويقدم أغلى ما يملك دفاعا عن وطنه وكرامته:

وانتفضت في زمنٍ أسقط أيوب وشاتيلا

من قاموس الصبر

زمن ما كان الإنسان يُساوي فيه الإنسانْ / 86

ويُعدّ ديوان (ذي قار الأخرى) صرخة للشاعر في رؤياه للعالم؛ إذ يستنطق تاريخ العربية كاملا، ليتجلّى في رسم خطوط الديوان على أنغامٍ عربية، وتاريخية، وفنية مختلفة، ثم ليصنع لغة معجمية له عبر فضاءات معاجم لغة الشعراء، وليرسم خارطة العرب والعالم الحاضر (5).

ولعل القيمة الجمالية في سيمياء دلالة عنوان الدّيوان تأتي من خلال هذا النسق المعرفي لأهمية " ذي قار " كما وظّفها الشاعر، ليُقنع القارئ بمقولة: "إن التاريخ يعيد نفسه"، في معادلٍ موضوعي ضخم، تتدخل فيه عاطفة الشاعر، وسكناته، وحركاته، للوصول إلى فكرةٍ لها قيمة عند صاحبها، ويحاول أن يجعل لها قيمة عند القارئ أو السامع، إذ يبدو في ديوان ذي قار، أن الصفحة التي لا تحوي موضوعا تاريخيا، فيها شخصية تاريخية، أو عودة للنص القرآني الكريم، أو تجتمع الثلاثة معا.

إننا من خلال ما قدّمه الشاعر في استدعائه للشخصيات التراثية قد نحكم على ما يريد أن يصل إلينا من شعره، فدعنا نختم لقوله:

فيا أيها الشاعر العربّي أعِدْني إلى الجاهلية

… ذي قار /7

على سَدّ عينيك يختلط الروم

والفرس في العرس

ذراعان في راية واحدة

ومن حولهم عرب واقفون

وراياتهم جالسة / 7

فربما تستنتج مما تقدم يلي:

أ. يُسيطر الهم العام على نفس الشاعر سيطرة الغيور على وطنه الصغير = فلسطين، ووطنه الكبير = الوطن العربي.

ب. تُسيطر على الشاعر حكايات تاريخية مشهورة لأشخاصها تتكرّر في نمطٍ ربّما نلصقه بالإدراك الجمالي لمعرفةٍ ما تكنه الأسماء وما تخفيه الكنايات.

ج. تعيش (أنا) الشاعر في نفسه، مع ما يُحيط بها من لغة معجمية خاصة تُساندها في تحمل العبء عنه في تشكيل لوحة اغترابه عن فلسطين = حبيبته، إضافة إلى همه الوطني العام تجاه ضياع العرب وانشغالهم عن قضاياهم الهامة.

= = =

[1] أبو محجن الثقفي: شاعر وفارس عربي، سجنه سعد بن أبي وقَّاص ليمنعه عن شرب الخمر، وحين بدأت حرب القادسية استعطف سلمى زوج سعد في أن تفك وثاقه وتعطيه "البلقاء" فرس سعد، وإن نجا من القتل رجع للسجن، ولبَّت سلمى رغبته ودخل الحرب فنجا، ثم أرجع نفسه ثانية للقيد.

[2] زرقاء اليمامة: هي فتاة من قبيلة طسم. اشتهرت بقوة إبصار عينيها فكانت ترى على مسير أربعة أيام.

D 1 نيسان (أبريل) 2011     A عماد علي الخطيب     C 0 تعليقات