مرام أمان الله - فلسطين
عرض كتاب: المعرفي والأيديولوجي
في الفكر العربي المعاصر
عبد الإله بلقزيز (محرر). المعرفي والأيديولوجي في الفكر العربي المعاصر. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية (2010).
إنّ ثنائية المعرفة والأيديولوجيا تمثل إشكالية بارزة في تاريخ الفكر العربي المعاصر، حيث لم تستقم العلاقة بعد بين الحدّين على مقتضىً من الوضوح يرفع عنها طابعها الإشكالي. طرح عبد الإله بلقزيز في مقالته هذه اتجاهات العلاقة وممارساتها، وما كان لذلك كله من حراك فاعل في الإنتاج الفكري العربي الحديث. فما معيار قياس المعرفة، وما هو مفهوم وأصل والأيديولوجيا؟ وكيف تتجلى العلاقة بين المفهومين ومدى حضورهما، سواء بالفصل أو التداخل في الفكر العربي المعاصر؟ وهل تصالح الأيديولوجي مع المعرفي في الفكر العربي المعاصر؟
ليست جدلية المعرفي والأيديولوجي في الفكر العربي المعاصر مبسّطة يمكن قراءتها بيُسر، وإنما هي مركبة، وتحتاج بالتالي إلى قراءة تركيبية، تتوسل مناهج وأدوات متعددة لفك الترابط في علاقاتها وإدراكها. والتشديد على هذه الطبيعة المركبة في تلك الجدلية هو ما همّ الكاتب إليه. إضافة إلى العناية بتبديد النظرة المعيارية إلى كل من المعرفة والأيديولوجيا.
بينما كانت العلاقة الثنائية بين المعرفي والأيديولوجي تتراوح لصالح المعرفي (العلموي) على الأيديولوجي أحياناً، أو لصالح الأيديولوجي على المعرفي أحياناً أخرى في الفكر الغربي باختلاف اللحظة التاريخية، فإن هذه الثنائية المركبة لم تكن على ذلك الحد من التحول والتوتر في الفكر العربي؛ وذلك بالضرورة مرتبط بحجم الإنتاج الفكري ونوعيته لدى الطرفين.
لم يسعَ الكاتب إلى إثبات انتصار الأيديولوجي على المعرفي أو العكس، إنما انشغل في قراءة الإنتاج الفكري العربي منذ بداية القرن التاسع عشر، حيث كان للأيديولوجيا حضورٌ متضخم، في حين ظهر الضعف الواضح في البنية المعرفية. فذهب بلقزيز إلى الكشف عن الأسباب وراء الكمّ الهائل من الانحيازات الأيديولوجية التي يبديها المفكر العربي في كتاباته، فتأتي نصوصُه مبشرةً بالأفكار التي اعتنقها وأنزلها منزلةَ الحق الذي لا شك فيه. يرى الكاتب أنه من غير المنصف قراءة النصوص دون فهم السياق السياسي والتاريخي الذين أثرا بشدة على الانحياز الواضح في دفاع الباحثين عن توجهاتهم الفكرية، سواء من دافع منهم عن الحداثة والمعاصرة، أو الذين أنكروا مبدأ الانفتاح الثقافي دفاعاً عن الهوية. وبالرغم من أن الهجمة المعرفية وفكرة العلموية قد تسربت من خلال بعض المفكرين العرب إثر اطلاعهم العميق على الإنتاج الغربي في هذا المجال، كما كان للاستعمار أثرٌ واضحٌ في نشر الفكر العلموي والعلوم الإيبيستيمولوجية، والتي ازدهرت في فرنسا وقتئذ، وإعماله في الجامعات العربية، وتحديداً في بلاد المغرب العربي، إلا أن فكرة العلموية أضحت أيضاً أيديولوجية يتبناها المفكرون العرب تأثراً بالغرب، فعلى الرغم من تجاذب الإنتاج الفكري العربي بين العلموي المعرفي والأيديولوجي كما هو الحال لدى الفكر الغربي، إلا أن الفارق أن الإيبيستيمولوجيين الأوروبيين كانوا علماء، أما نظراؤهم وتلامذتهم العرب فكانوا فلاسفةً أو باحثينَ في الفلسفة.
عبد الإله بلقزيز كاتبٌ ومفكرٌ عربي من المغرب، وهو أستاذ الفلسفة بكلية الآداب في جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، رئيس قسم الدراسات في مركز دراسات الوحدة العربية، وأمين عام المنتدى المغربي العربي. له العديد من الكتابات بين كتب، مقالات ودراسات. يمكن أن يتجلى للقارئ أثناء مروره خلال إنتاجه الفكري، الحس القومي العلماني، ونفسه الفكري النقدي التحرري. ينادي بتفعيل دور المثقف العربي في تفسير العالم وليس في تغييره كما يراه ماركس. يجيد اللغة الفرنسية، ما جعله قريباً من تحليل نصوص السوسيولوجيين والمفكرين الفرنسيين الذين استعان بإنتاجهم الفكري لخدمة المسألة المدروسة. تميز في الآونة الأخيرة بغزارة إنتاجه الفكري والثقافي، الذي تتجلى فيه طريقته المركبة في منهجية الكتابة والتفكير. من أحدث مقالاته: "الليبراليون والمسألة السياسية"، "جدليات العروبة والإسلام في المغرب العربي"، "الفكر القومي في لحظته المعاصرة: في الاستبداد والديمقراطية"، "كرة القدم وصناعة الاستلاب"، "ليس دفاعاً عن اللغة العربية"، "من النهضة إلى الحداثة". ومن كتبه: "العنف والإرهاب والتنمية"، "العرب والحداثة "، "الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر"، "من العروبة إلى العروبة: أفكار في المراجعة"، "الاحتلال الأمريكي للعراق: صوره ومصائره"، "الأنفاق والآفاق رؤية مستقبلية للصراع العربي – الإسرائيلي"، "المعارضة والسلطة في الوطن العربي: أزمة المعارضة السياسية العربية". يناقش في كتاباته خطاب الحداثة، الدولة الوطنية، العلمانية والقومية. ينتمي مقاله "المعرفي والأيديولوجي في الفكر العربي المعاصر" إلى منظومته الفكرية، حيث يناقش فيه بوضوح السياقَ الذي عايشه العالم العربي إبان الاستعمار الأوروبي، وأثره على الإنتاج الفكري العربي الذي سيطرت عليه الأيديولوجيات المتعددة نتيجة الهجمة الثقافية الغربية.
ويتناول بالتحليل والدراسة نصوصَ بعض أهم المفكرين العرب والغرب، منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم. ما يميّز هذا المقال أن المؤلِّف يُلحّ، وهو على يقين، على وجوب قراءة والأيديولوجيا في الفكر العربي ضمن السياق العام الذي أفرزها، ومن ثم اعتبارها دينامية تؤثر بجدة في الوعي المنتِج.
لم يكن بالإمكان العثور على المصادر التي اعتمد عليها الكاتب، كون الكتاب قد صدر حديثاً، وتم الحصول على المقال من مجلة المستقبل العربي، لعدم توفر حتى نسخة إلكترونية عن الكتاب. ولكن التوجهات النظرية التي تعرّض لها الكاتب في بناء منطقية طرحه للإشكالية كانت واضحة، متراوحةً بين العرب والغرب عبر التاريخ، كما سيتم تفصيلها في هذه المراجعة لاحقا.
يتميز مقال بلقزيز كما في معظم كتاباته بمنهجيته النقدية، فهو لم يتعامل مع الأفكار والمفاهيم كمسلمات نهائية، بل قام بطرح الأسئلة عليها ومحاولة هزها. ولكنه هنا ينظر بعين شمولية لإطلاع القارئ بشكل عام ومجدي على كل من الإنتاج الفكري الغربي والعربي، والإضاءة على أهم المفكرين الذين أثروا واستمالوا غيرهم فكرياً. نقّل بحثه بين الإغراق في تفاصيل النص ومؤلفه أو مترجمه، إلى شمولية النظرة إلى الحقبة التي ولد فيها بتاريخها وسياستها وما أثر فيها من عوامل أخرى. فقد طرح بوضوح الإشكالية التي كانت ومازالت موضع بحث الباحثين الغرب منذ بدايات القرن التاسع عشر، وانتقلت أيضاً منذ العقود الثلاثة الأخيرة لتكون في دائرة البحث لدى المفكرين العرب. وبما أن ثنائية المعرفي والأيديولوجي هي علاقة مركبة ودائمة التداخل، فإنه لا يرمي إلى اكتشاف الحلول لفصل حدّي العلاقة فصلاً يلقي بالوضوح والاستقلالية على كل منهما دون الآخر، فقد ذهب إلى رصد هذه العلاقة منذ ميلادها، حيث درس التراوح في تغليب المعرفي على الأيديولوجي وبالعكس، استناداً للحظة تاريخية معينة، في السياق السياسي، والاجتماعي والفكري الذي تطورت فيه. لكن الكاتب لم يكتف بعرض مراحل انتصار إحداهما على الأخرى، وإنما ناقش في كل مرحلة الأسباب التي دفعت باتجاه التهميش أو التغليب لكل منهما. ثم لجأ إلى الأدوات المنهجية التحليلية لتحليل الخطاب في كل مرحلة، واستنطاق الإنتاج الفكري، للكشف عن صور الاشتغال الأيديولوجي في المعرفة، والذي قد يتسلل إلى النص بشكل غير موعىً به. أو السيطرة الصماء ليقينية العلم.
كانت السيطرة للمعرفة العلمية على الأيديولوجيا بادئ الأمر، فقد اتخذ بلقزيز الفكرَ الماركسي مرجعيةً نظريةً لمفهوم الأيديولوجيا بما هي وعيٌ زائفٌ ومغلوط، وتقنيع للواقع. وذلك يعود إلى تأثر ماركس الشديد بالفكر التجريبي، وشغفه بالمعرفة العلمية. حيث انتقل من الأيديولوجيا إلى العلم لما انتقل من الفلسفة وعلم السياسة إلى علم الاقتصاد ليضع نظريته عن الرأسمال. كانت التجربة العلمية وموضوعية القوانين القابلة للانطباق على الظواهر كافة، ويقينية النتائج المخبرية هي ما أغرى مفكري القرن التاسع عشر بالعلم، متناسين خصوصية الظواهر الاجتماعية والإنسانية في اتصالها بالفعل الإنساني الذي لا يخضع للأدوات المخبرية في القياس. وقيست المعرفة حينئذٍ، بأنها علمية أو لا تكون. لكن العلوم الإنسانية التي تطورت نهاية القرن التاسع عشر، التحليل النفسي، الأنثروبولوجيا، علم الاجتماع السياسي، علم الاجتماع الديني، ومدرسة الحوليات في التاريخ وغيرها، كشفت عن بطلان النظرة الوضعية واليقينية إلى ظواهر المجتمع. وبالتالي أصبح دور اللاشعور، والخيال، والرمزي والأسطوري والرغبات المكبوتة في تأسيس الفعل الإنساني مسألةً لا يمكن إغفالها. ما أدى إلى هبوط معنى المعرفة من العلمية الصارمة، إلى معنى فهم أبعاد الظاهرة في تعقدها وتشابك عناصرها. تزامن ذلك مع الهزات العنيفة التي تعرضت لها العلوم الطبيعية والرياضية بظهور الهندسات اللاإقليدية، وأزمة الفيزياء الدقيقة والتي أطاحت بفكرة اليقين، وأعادت النظر في البديهيات العقلية، لتحوّلها إلى فرضيات ذاهبة باليقين إلى الاستنتاجات (اليقين الفرضي). يحاول بلقزيز من خلال منطقية التسلسل العلمي مع الزمن أن يدحض فكرة اليقين والبديهية العقلية، فبما أن العلوم الرياضية والطبيعية قد طالها الشك في يقينية علميتها، لتتحرر من وهم الحقيقية، فكيف يكون في وسع العلوم الإنسانية أن تتمسك بعقيدة علموية؟
ينتقل الكاتب عبر رصده الزمني إلى القرن العشرين، وإطلالة جديدة لفكرة العلموية، المتلازمة مع نبذ الأيديولوجيا "والتشنيع عليها". عبر عن هذه الموجة الفكرية الفيلسوف الفرنسي ألتوسير وتلامذته (ألان باديو، جاك رانسيير، نيكوس بولانتزاس، موريس غولييه، بيير بورديو، وغيرهم). جاءت كتاباتهم معاديةً للأيديولوجيا، ومعتبرةً المعرفة علماً فقط. يقف بلقزيز على أسباب هذه العودة للعلموية في تلك الفترة، ومنها النجاحات التي أحرزتها البنيوية كمنهج في ميادين اللسانيات والأنثروبولوجيا ودراسات التحليل النفسي، وسعي ألتوسير إلى تجريب مفاهيمها في الفلسفة والتحليل المعرفي للنص والمفاهيم، نتيجة تأثره بالدراسات الإيبيستيمولوجية، والقراءة المعرفية التي أنجزها غاستون باشلار في الفيزياء، وجاك لاكان في التحليل النفسي الفرويدي. ويضيف بلقزيز أثناء تحليله لتلك الفترة، بأن هناك أيضاً عوامل سياسية دفعت ألتوسير إلى وقفته النقدية من الأيديولوجيا؛ أوضاع الحركة الشيوعية في أوروبا وآثارها في الماركسية كنظرية. راح ألتوسير لقراءة ماركس من جديد، فقد تحولت الماركسية في العهد الستاليني إلى مجرد أيديولوجيا سياسية للسلطة الشيوعية الحاكمة. كان مشروعه يهدف إلى تحرير الماركسية من التأويل الستاليني وإعادة الاعتبار إليها كنظرية فكرية، وذلك من خلال إظهار علميتها. لكن ألتوسير يعود عن "ابتخاسه" الحاد لما هو أيديولوجي، تأثراً بكتابات غرامشي، فانتقل من نظرة معرفية للأيديولوجيا إلى نظرة سوسيو سياسية لها. حكمت المرحلة آنذاك على ألتوسير أن ينهي علمويته بنفسه، في ظل تغليب المعرفي على الأيديولوجي، ولكن في الوقت نفسه انتهى احتكار مفهوم المعرفة على ما هو علمي، وتم الاعتراف بأنه لا يمكن التحرير الكامل للوعي الإنساني من أثر الأيديولوجي في حقول الإنسانيات. بل إن التعامل مع الأيديولوجيا كدينامية عميقة التأثير في العلاقات الإنسانية والظواهر الاجتماعية، والأفعال الفردية والتفكير الفردي والجماعي، والتعبيرات الكتابية، هو بحد ذاته شكل من التدخل المعرفي في فهم الظواهر. فالأيديولوجيا قد تقدم نفسها في صورة العلم، والنزعات الوضعية والعلموية مثال على ذلك.
ينتقل بلقزيز بعد تقديمه التاريخي والنظري لتراوح الغلبة بين المعرفي والأيديولوجي لدى الفكر الغربي، على مدار قرن ونصف من الزمن، إلى شكل جدلية العلاقة المعرفية الأيديولوجية في الفكر العربي، حيث أحاطت بها دائرة البحث منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود. يتضح من خلال قراءة ورصد الإنتاج الفكري العربي، بأن طبيعة العلاقة تقف على حضور "متضخم" للأيديولوجيا، مقابل ضعف واضح للبنية المعرفية، ويرد الكاتب ذلك إلى افتقار المفكرين العرب إلى الاحتياط المنهجي، في ظل سياقات تاريخية وسياسية أثرت فيهم بشدة، ما أدى ببعضهم إلى التحول المفاجئ من وجهة فكرية معينة إلى تيار فكري مناقض لما كانوا يؤمنون به. ويستحضر الكاتب في هذا السياق مفكري الليبرالية العربية مثل طه حسين، ومثقفي اليسار الماركسي العربي، وتحولهم من الإسلام السياسي إلى ليبرالية المحافظين الجدد، وغيرهم. يرى بلقزيز بأن المنهجية التي يجب إتباعها في قراءة ذلك الإنتاج الفكري العربي قراءةً منصفة، تكون باستخدام أدوات علم الاجتماع الثقافي للبحث في التكوين والتطور، واتباع نهج البحث في البنية المعرفية، أي التحليل المعرفي لنظام الخطاب. لم تغب فكرة الوهم العلموي عن الفكر العربي، ويخصص الكاتب شبلي الشميّل ونزعته الداروينية كمثلٍ كان آنذاك استثناءً، ولكن بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد الاتصال الكثيف للمفكرين العرب بمصادر الفكر الغربي والأفكار العلموية، أصبحت الفكرة قاعدةً وليس استثناءً، فتمثلوها، ونشروها من خلال تأليفهم بروحٍ علموية، أو بترجمة المصادر الغربية ونشرها. يشير الكاتب إلى أن زكي نجيب محمود هو المفكر العربي الأول الذي اعتنق العلموية وبشر بها تأثراً بأساتذته الإنكليز. على الرغم من أنه كان قارئاً جيداً في الفكر الفلسفي الغربي، ولم يكن يضاهيه في ذلك سوى عبد الرحمن بدوي، إلا أنه ذهب إلى تقديس العلم مذهب ازدراء الأيديولوجيا. يفسر الكاتب الحضورَ العلموي حتى في علم الاجتماع والعلوم الإنسانية في تلك الفترة، إلى تأثر السوسيولوجيين العرب بالجيل الثاني للسوسيولوجيين الغرب وخاصة الفرنسيين (إميل دوركايم)، وكان أكثر التأثير في مصر بدايةً، ثم لبنان وتونس والمغرب. فظهر الإنتاج الفكري في الجامعات العربية شديدَ التأثر بالقانون الناظم للظواهر الاجتماعية، وهي فكرة وضعية بامتياز. كما ظهرت في النتاج الفكري للسوسيولوجيين الماركسيين العرب، وخاصة من تأثر منهم بكتابات بيير بورديو الأولى، وموريس غولدييه، وألان تورين. كما أن كتابات سمير أمين في الستينات والسبعينات من أكثر الكتابات تمثيلاً للعلموية في الدراسات الاقتصادية في الفكر العربي المعاصر. انصب هم الكاتب على الإشارة إلى الظاهرة، لا تعقبها بالرصد والعرض. فالنزوع إلى تقديس العلم في البلدان العربية كان سابقاً لدى المفكرين المغاربة لتأثرهم بالدراسات الإيبيستميولوجية التي ازدهرت لحظتئذ في فرنسا على نحو خاص، حيث تغلغلت في المناهج الأكاديمية في الجامعات والمدارس، لكنها أخذت في الاضمحلال نهاية الثمانينيات.
إن ازدهار دراسة التراث والإسلاميات في العقود الأربعة الأخيرة مثّل عودة الاهتمام بالأيديولوجيا. فالنظرة العلموية تحسب الدبن لحظة في التطور الإنساني والفكري توشك أن تنصرم، وهو جزء من مواريث الماضي التي سيجرفها العلم والتقدم التقني. وجذور هذه النظرة تعود إلى الفكر الألماني قبل العلموية والوضعية، في فكر هيجيل وفيورباخ، ثم في تيارات الداروينية الاجتماعية في القرن التاسع عشر قبل أن تصبح جزءاً من الثقافة الوضعية التي دشنها كونت وسار فيها في المسألة الدينية إميل دوركايم. وتسربت هذه الفكرة إلى العرب عن طريق اتصال المفكرين العرب بتيارات الوضعية والإيبيستميولوجية والعلمانية المتطرفة (منذ شبلي الشميّل حتى صادق جلال العظم، مروراً بسلامة موسى). كما تسرب نقدها أيضاً إلى الفكر العربي من طريق اتصال جيل الحداثة النقدي بالعلوم الاجتماعية، ودراسات الفكر العربي الحديث ومناهجه المعاصرة في تأويل الخطاب وتحليله (ميشيل فوكو، بول ريكور، ويورغن هابيرماس).
إن الدراسات النقدية في ميدان التراث والإسلاميات كانت تحت سيطرة نوعين من القراءة المنهجية؛ قراءة إسلامية محافظة، قريبة من موضوعها وجدانياً، بعيدة عنه علمياً، وقراءة استشراقية متفوقة في أدوات البحث، بعيدة عنه عاطفياً. فكان لابد للمفكرين العرب التحرر من احتكار المحافظين له، ومن عقدة تفوق الاستشراق، فهم ليسوا غريبين عن تراثهم كالمستشرقين، ولا غريبين عن مناهج البحث العلمي الحديثة كالمحافظين. ودراسات عديدة تثبت التراكم الفكري الذي أعاد تصويب النظرة إلى مسائل الدين والتراث بعيداً عن الأوهام العلموية، كما لدى محمد أركون، ومحمد عابد الجابري، وحسن حنفي، والطيب تيزيني، وحسين مروة، ومحمد الطالبي، وهشام جعيط، وعلي أومليل، ونصر حامد أبو زيد، ورضوان السيد، وعبد المجيد الشرفي، وعزيز العظمة.
ينتقل الكاتب لتوضيح موقف الوعي العربي من الأيديولوجي كموضوع للتفكير والبحث، وتبني المعرفي كخيار في الدرس والتناول، إذ يخلص إلى أنه من غير الممكن في مجال دراسة التراث أو غيره من مجالات الفكر أن تتخذ العلاقة بين المعرفي والأيديولوجي منحنىً واضحاً دون تداخل، فهي مركبة في فكر المفكر الواحد، كما في النص الواحد. فبينما تصرح النصوص المنحازة إلى موقف أو قيمة معينة عن أيديولوجيتها، لا يمكن بالمقابل اعتبار النصوص التي تتحرى الموضوعية والحياد، تخلو من أي تدخل أيديولوجي كونها تستعير أدوات معرفية. يرى بلقزيز أن المهم هنا الوقوف عند بعض الأمثلة التي تبين كيفية تسلل الفعل الأيديولوجي إلى نص معرفي أو إلى نص تؤسسه إرادة المعرفة وأدواتها ومفاهيمها، بمعنى آخر يبحث الكاتب في تجليات الأيديولوجيا. ومن صور تجليها؛ السؤال الضمني الذي يؤسس نصاً أو معرفة، أو من خلال الغائيات الحاكمة للكتابة، موعىً بها أم لا، وأخيراً من خلال فعل الانحياز الفكري، ويكتفي الكاتب بتناول الأخير. فقد يكون الانحياز معرفياً، بمعنى أن يبذل المفكر لتيار معين أقصى ما عنده فكرياً، لإلمامه الشديد به دون غيره. ولكنه قد يكون ثمة وازع أيديولوجي مدرَك أو غير مدرَك يقف خلف ذلك الانحياز. فنجد مثلاً عبد الرحمن بدوي شغوفاً بالوجودية، وزكي نجيب محمود بالوضعية، ومحمود العالم بالماركسية. ولكن إذا جاز التعبير بأن هؤلاء قد وقعوا تحت سحر تلك التيارات، فمن الحري بالانتباه أيضاً إلى وجود أسباب أيديولوجية؛ كالاحتجاج الفردي على مجتمع وقيم تئد الفردية والحرية (بدوي)، ورفض التخلف الاجتماعي والحضاري والفكر الخرافي السائد (محمود)، ورفض الاستغلال الطبقي والحيف الاجتماعي (العالم). وبالتالي كانت الأيديولوجيا جواباً على حاجة فردية أو جماعية. وقد يمارس الكل انحيازاته الأيديولوجية بلغة المعرفة. حتى في دراسات ابن خلدون في الفكر العربي المعاصر، لا يمكن لعلميتها أن تغيّب الهاجسَ الأيديولوجي فيها. إن لاختيار موضوع الدراسة في حد ذاته صلةً بموقف أيديولوجي معلن أو مضمر، فمن يحاولون كتابة تاريخ إسلامي أو تاريخ الأمة من وجهة نظر إسلامية، كما يفعل اليوم عماد الدين خليل، وأحمد إلياس حسين، بعد مالك بن نبي، فإنهم محكومين بموقف أيديولوجي مسبق.
احتذى الكاتب التوازن في طرحه المتراوح بين المعرفة والأيديولوجيا، بين الشرق والغرب، وبين الماضي والحاضر. لجأ إلى استحضار النصوص العربية والغربية، للحكم على مدى علميتها أو انحيازها الأيديولوجي المقصود أو غير المقصود، ورصدها ضمن المشهد الكامل للحظتها التاريخية والسياسية. وأهم ما وضحه بصرامة، هو أن هذه العلاقة الجدلية مرتبطة بالضرورة بالوعي الإنساني وما يسكنه من هواجس أيديولوجية تبعاً للقوى المسيّرة للفرد والمجتمع في اللحظة المدروسة. كما أنها ترتبط أيضاً بحجم الإنجاز العلمي المعرفي للأمة التي ينتمي إليها الباحث، ومدى الانفتاح الثقافي بين الأمم، والذي يسمح للتيارات الفكرية والمعرفية بنيل مساحة أكبر في التأثير والتأثّر.
يريد بلقزيز التأكيد بشكل غير مباشر على الخطر المحدق بالإنتاج الفكري العربي إثر حالة التبعية الثقافية التي تعيشها الثقافة العربية والمفكر العربي، وأن التراوح بين الأيديولوجي والمعرفي مسألة لابد منها حتى لدى الغرب، ولكن المهم هو محاولة النهوض بالمستوى المعرفي للفكر العربي، لا كما يراه الغرب أو تفرضه أيديولوجيات تسحب باتجاه منظومات فكرية بعيدة عن صلب الهم العربي القومي.
ترفع مقالة "المعرفي والأيديولوجي في الفكر العربي المعاصر" درجة الانتباه إلى الوجوه الإشكالية المتعددة التي تنطوي عليها أي قراءة جادة ورصينة للفكر العربي المعاصر وقضاياه، وتؤكد على الطبيعة المركبة للمسألة المثارة، ومدى الحاجة إلى التدقيق في معايير التمييز والفصل بين حدي الإشكالية، وفي الظن إن مثل هذه الخلاصة يؤلف مدخلاً معرفياً جيداً لنقد ثقافة الاستسهال والتبسيط التي تسيطر على الوعي العربي وتدفع نحو قراءات تقليدية شاحبة لتاريخ الفكر، مسكونة بيقينيات يمتنع عليها كل نظر نقدي.
في ظل الحراك الثقافي الذي يشهده العالم العربي منذ العقود الثلاثة الماضية، أخذ المفكرون العرب يسلطون الضوء على قضايا فكرية لم يكن يُلقى لها بالٌ في الماضي، وذلك في سبيل النهوض بمستوى الفكر العربي أيديولوجياً ومعرفياً. كانت هذه الدراسة من بين الكثير من المساهمات التي تسهم بها النخبة الفكرية العربية. ولكن ما يجعلها على حد من الخصوصية، أنها تتناول موضوع إشكالية الثنائية بين المعرفي والأيديولوجي في الإنتاج الفكري العربي المعاصر، توضيحاً لتفاصيل التحول في هذه الجدلية عبر التاريخ. لا من قبيل تقديم الحل الواضح، وإنما التركيز على أهمية الإشكالية من خلال التشديد على ضرورة فهمها وتفكيكها لفهم الدوافع وراء حضورها في الفكر العربي منذ بدايات القرن العشرين. والسعي من خلال نشر الوعي بالمسألة إلى النهوض بالبنية المعرفية لدى النتاج الفكري العربي.
على الرغم من أن الكتاب كشف بلغةٍ علمية واضحة كثيراً من التباسات العلاقة بين المعرفي والأيديولوجي، وشقّ الطريق نحو البحث العلمي الرصين في إحدى أكبر إشكاليات الفكر المعاصر. إلاّ أنّ عبد الإله بلقزيز قد أغفل بعض الجزئيات أحياناً، وتعسّف أحياناً أخرى في بعض المواقف؛ فهو ينتقد موقف النهضويّين العرب من الحداثة الأوروبية، ولم يعر بالاً إلى أنهم وقفوا من الحداثة الأوروبيّة موقفاً نقدياً تراوح بين الاعتدال والتطرّف، يظهر في كتاب "الساق على الساق" لأحمد فارس الشدياق 1856 ومقالة "التمدّن في نفير سورية" لبطرس البستاني 1860 ومقالات فرنسيس المرّاش وقصائده في "التمدّن المتوحّش" في ستينات القرن التاسع عشر، عمق نقد هؤلاء وجذريّته إزاء مساوئ الحداثة الأوروبية، فإن كان صحيحاً أنّهم بُهروا بحسناتها، فهم بالمقابل رأوا سيّئاتها أيضاً وبشكل ثاقب، وتعاملوا معها بعقلانيّة تعاملاً يمكن احتذاؤه اليوم في وجه الحركات الأصوليّة والتغريبيّة على السواء.
كما أن الكاتب لم يكن على حد من الوضوح ليبرز ما يعيشه الواقع العربي إثر تعرضه للغزو الاستعماري الأوروبي من حالة الفصام الثقافي وتشتت الهوية الثقافية، ما خلق قاعدةً رصينةً لتبعيته الثقافية للمرجعية الغربية التي فرضت وما زالت تفرض هيمنتها، بادعائها التفوق الذي لا يمكن مجاراته. فحالة التبعية هذه من أكثر العوامل التي تجعل الحضور الأيديولوجي في الفكر العربي المعاصر ضخماً، والانحياز فيه مفضوحاً، وبالمقابل يهبط بالضرورة المستوى المعرفي للإنتاج الفكري. ومن جهةٍ أخرى، فإن الموازنة بين المعرفي والأيديولوجي في النص الواحد، يرتبط باستقرار الهوية الثقافية بالدرجة الأولى، ذلك أن الهوية الثقافية المهددة يسكنها وعيٌ مكبوت لهاجس الدفاع عن الذات ومقاومة الآخر، وهذا الهاجس أيديولوجي بشدة، ولا يمكن له أن ينسلخ عن النص مهما كان قريباً من اليقينية العلمية. ومن جهةٍ أخرى، فإن استقرار الهوية الثقافية (لدى الغرب)، يفتح أمامها أبواب التأمل والبحث العلمي، فهي غير مسكونة بهواجس الخطر المحدق.
= = =
- غلاف: المعرفي والأيديولوجي
◄ مرام أمان الله
▼ موضوعاتي