إدريس بوحوت - المغرب
الإنسان واللغة: أي علاقة؟
تسعى هذه الورقة إلى الإجابة عن الإشكالية التالية: هل فعلا اللغة تخدم الإنسان؟ وهل الإنسان يخدم اللغة؟ وكيف يتم ذلك؟
لقد تعددت الدراسات الألسنية والنقدية التي اهتمت باللغة، ليس كظاهرة لغوية تنحصر في الشكل أو المـادة الــذي يتجلى فــي النظم والبنـيــة الــوظيفية (le syntaxe)؛ والدلالية والتركيبية؛ حيث ذهبت تلك الدراسات إلى أبعد من هذا وأرغمت نفسها على الاشتغال على اللغة في علاقتها بالمجتمع عموما، ومع الإنسان خصوصا حيث قدمت له خدمات عديدة ساهمت في التطور البشري والحضاري، لذا يمكن طرح السؤال التالي لمعالجة الشق الأول من الموضوع، وهو: هل بالفعل أن اللغة تخدم الإنسان؟ وأين تتجلى هذه الخدمات إذا كان الأمر كذلك؟
إن الدارس المتفحص للأمور، المتسلح بالمنهج العلمي، والمتصف بالمصداقية والـموضـوعـيـة والـذي يتـمـيـز بصــدر رحــب فــي دراساته المتأنية لموضوع اللغة فـي علاقتها مــع الإنسان، انطلاقا مــن الدراســات السوسيولسانية (Sociolinguistiques)، ليدرك بجلاء ووضوح أن اللغة والمجتمع وجهان لعملة واحدة. أي بينهما علاقة جدلية/ديالكتيكية، بحيث إن أي "إساءة" للإنسان من منظور سوسيولساني، قد تؤذي أيضا لغته، والعكس يصح أيضا.
ولعل هذه العلاقة الجدلية، وذلك الترابط السوسيولساني بين اللغة والإنسان يمكن تلمسه من خلال ما تسديه اللغة للإنسان من خدمات ووظائف جليلة يمكن إيجازها فيما يلي:
1ـ التواصل الفعال: فاللغة أداة تواصل بامتياز. ومنذ أن أتقن الإنسانُ المهاراتِ اللغوية (النطق، التعبير، الكتابة ...) وهو يرتقي في مدارج السلم الحضاري بدءا من نزول قوله تعالى في سورة البقرة "وعلم آدم الأسماء كلها." (الآية 31). بل إن التطور الخارق الذي توصل إليه الإنسان، والإنجازات الفكرية والحضارية والتقنية التي استطاع أن يحققها في شتى المجالات، وخاصة في القرون الأخيرة، ما كان له أن يتوصل إليها لولا فضل اللغة التي كانت مِعطاء؛ حيث أمدته بكل سخاء وأريحية بالمفاتيح السحرية التي استعان بها على فتح كل الأبواب والمنافذ والمغاليق التي ظلت موصدة في وجهه، وبات الفكر البشري عاجزا عن ارتيادها وفتحها ليغترف من بحر المعرفة، وكنوز الحكمة التي أنارت الطريق فيما بعد للفكر البشري، وأسهمت في تطوره الحضاري والعلمي والاقتصادي والتكنولوجي. فتحول الإنسان من عبد ضعيف إلى إنسان ذي ملكة لغوية خارقة؛ فغزا الفضاء، وخرق البحار والمحيطات، وفك الرموز، واكتشف الكنز الحضاري الذي ظل لسنوات، بل لقرون، مجهولا. وأكبر دليل قاطع في هذا الباب ما قام به الباحث الفرنسي (شامبليون) حين توصل إلى فك رموز الهيروغليفية التي دون بها الفراعنة حضارتهم.
2. المحافظة على الهوية: إذ بفضل اللغة حافظ الإنسان على هويته الحضارية، وإرثه الثقافي، وتاريخه المجيد. كما تمكن، بفضل هذه اللغة، من توطيد علاقته بإرث وحضارة الأمم الغابرة التي أخذ منها تجارب وخبرات إنسانية في مختلف المجالات؛ إذ إن اللغة في حد ذاتها "ذاكرة" أو كما يقول هايدغر: هي (أي اللغة) بيت الوجود، والذين يفكرون بالكلمات ويخرجونها هم حراس ذلك البيت.
ورغم أن البيت اللغوي الذي تحدث عنه هايدغر يتسم بالتجريد والهلامية؛ فإن الإنسان في الحقيقة لا يدرك قيمته إلا حين يوجد في "العراء". وأقصد بالعراء هنا العراء الثقافي والحضاري والفكري الذي يذوب بسببه الإنسان، وتُطمسُ هويتُه وثقافتُه، وتُجتث جذورُه، ويضيع أصله.
وتتجلى أهمية اللغة هذه في كونها خزانا للذاكرة الإنسانية، كما أكد ج. غريماس حين أثار مسألة "سر اللغة"، خاصة لما تصبح اللغة مؤسسة اجتماعية تشكل سلطة تمييز من خلال الأنساق التي تمنحها هذه الصفة التمييزية المؤسسية الحامية للمجتمع.
3ـ التحكم في الكون: مما لا شك فيه أن الإنسان خليفة الله في أرضه: "إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ. وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ. (سورة البقرة، الآيتان 30-31). وخلافة الإنسان تكون في الأرض المسخرة له.
ومن أبرز أركان الخلافة على الوجه الأكمل، حتى مع أضعف الكائنات، تسخير العالم بمختلف أشيائه وفق المنهج الشرعي؛ كما أخبرنا بذلك القرآن في قصة سليمان والهدهد والنملة: حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُون. فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ. (سورة النمل، الآيتان 18-19).
وبفضل اللغة استطاع أيضا الهدهدُ أن ينجي نفسه من الموت المحقق، وأن يقدم حقائق واقعية، عن مملكة سبأ باليمن، كانت تغيب عن الذي جمع بين الملك والنبوة (أي سليمان عليه السلام)، وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ. لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ. َمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ. (سورة النمل، الآيات 20-21).
وبعبارة موجزة، إن الإنسان مدين للغة. وفضلها عليه كثير؛ كيف لا، وقد أسدت له هذه الخدمات العديدة وغيرها التي أفاض الكلامَ فيها العلماءُ السوسيولسانيون.
لكن في مقابل هذا العطاء والجود اللامشروط للغة تجاه الإنسان، يمكن مساءلة هذا الإنسان المستفيد من كل هذه الخيرات عن موقفه من هذه اللغة التي تفانت في إرضائه، وحققت كل أغراضه، وسعت في قضاء حوائجه وأوطاره، وهل قابل الجود بالإحسان أم قابل الجود بالجحود والطغيان؟ ثم كيف يمكن للإنسان أن يتنكرَ للغة ويدعيَ العزلةَ ليعيش في برج عاج ليس في خدمة اللغة كما يتضح من خلال الشق الثاني من الإشكالية المطروحة؟
لحل هذه الإشكالية المعقدة أرى أن هناك مفارقة عجيبة تتجلى في تنكر الإنسان وجحوده للغة التي هي خزان فكره، ووعاء حضارته، وديوان عاداته وإرث آبائه وأجداده.
فالإنسان، مهما حاول التملص والانسلاخ من لغته ليقنع نفسه بالعيش خارج المحيط اللغوي، فإنه سيبقى، شاء أم أبى، وعلى الدوام، في دائرة اللغة وتحت تأثيرها. وإن تنكر للغة ما، فهو تحت تأثير لغة أخرى. وإن تنكر للثانية فهو خاضع للثالثة وهكذا دواليك.
صحيح أنه قد لا يكون الإنسان ضد أو مع اللغة في وضعية معينة أو لغة معينة. لكن بالمقابل، وبالمنظور السوسيولساني، سيكون في وضعية لغوية أخرى حسب المقامات الاجتماعية، أو التنظيم الاجتماعي الذي ينتمي إليه. فالطفل مثلا يخضع لمقامات اجتماعية لغوية خاصة، في حين لا تصلح معه اللغة العالمة أو لغة المثقفين. لذا نجد أمه تغازله وتتواصل معه بخطاب لغوي حسب الوضع الاجتماعي المناسب لسنه وفكره. والحِرفي أيضا تبعا لوضعه الاجتماعي، يستعمل لغة معينة لا توجد عند الطفل أو الطبيب أو رجل القانون أو السياسي؛ بحيث إن كل واحد يوظف حقلا دلاليا يختلف عن الآخر، ولا يفك ألغازه حتى كبار اللغويين، أمثال سيبويه والأصمعي وابن جني وابن مالك وغيرهم من فطاحل اللغة، وجهابذة اللسان العربي من القدامى والمحدثين.
نفهم من هذا أن الإنسان يكون دائما في وضعية لغوية معينة، ولا يمكن أن يعيش ويتواصل بدون لغة مهما حاول ذلك؛ بمعنى أن الإنسان كائن تواصلي بامتياز.
ومن الحالات التي يكون فيها الإنسان ضد اللغة حالة التعدد اللغوي. فإذا أخذنا مثلا المغرب نموذجا، وافترضنا اجتماع السوسي مع الريفي والشلحي، وأصر كل واحد منهم على التواصل بلغته، فإن كل واحد منهم يكون مع اللغة، وضد اللغة في الوقت نفسه. وهم جميعا أيضا في حاجة إلى لسان رابع للخروج من اللاتواصل إلى التواصل. أما كون كل واحد ضد اللغة فمعناه أن يرفض لغة الآخر أو يجهلها؛ فالريفي لن يفهم السوسي، والعكس صحيح، أو سيتعصب للغته ولن يتكلم غيرها. ومن جهة ثانية فهم جميعا في حاجة ماسة إلى "اللغة" نفسها؛ أي إلى لسان رابع إما العربية الفصحى وإما لغة أجنبية (إنجليزية أو فرنسية ...) وإما ترجمان بينهما أو شخص غيرهما.
والنتيجة التي نخلص إليها انطلاقا من هذه الوضعية المعقدة أن الإنسان قد يكون ضد اللغة، ومع اللغة في الوقت نفسه.
ونظرا لهذه الإشكالية المعقدة التي تثار في علاقة الإنسان باللغة جاءت السوسيولسانية كعلم يدرس اللغة في علاقتها بالمجتمع، وكان من بين القضايا التي أثارها علاقة اللغة بالمجتمع/الإنسان ووظيفتها في مختلف المقامات الاجتماعية، وأنه لا يمكن فهم اللغة وقوانين تطورها بمعزل عن حركة المجتمع الذي يمارس اللغة كسلوك اجتماعي في الزمان والمكان. يقول (فيرث): "لنبدأ نعتبر الإنسان ليس مفصولا عن العالم الخارجي الذي يعيش فيه، إنه ليس إلا جزءا منه ... فكلامك ليس مجرد تحريك اللسان أو اهتزاز الحنجرة، إنه أكثر من ذلك نتيجة لعمل العقل في تأدية وظيفته كمدير للعلاقات، لتحفظ عليك سيرك في المحيط الذي تعيش فيه."
ومن هنا ندرك أهمية علم اللغة الاجتماعي الذي يتجلى في دراسة اللغة بوصفها ظاهرة اجتماعية، ومكونا من مكونات الثقافة.
إن التأمل في هذا العلم وأدواره اللغوية والاجتماعية يجعلنا بالفعل نتوصل إلى الإجابة عن الشق الثاني من الإشكالية المعقدة المطروحة في أول هذا المقال، خاصة حين يدرس هذا العلم الكيفيات التي تتفاعل بها اللغة مع المجتمع، والنظر في التغيرات التي تصيب بنية اللغة استجابة لوظائفها الاجتماعية اللغوية. لذا ركز السوسيولسانيون، أمثال فيشمان وفيرث ومالينوفسكي وماييه، اجتهادهم قصد اكتشاف الأسس والمعايير الاجتماعية التي تحكم السلوك اللغوي مستهدفين إعادة التفكير في المقولات والفروق التي تحكم قواعد العمل اللغوي، ثم توضيح موقع اللغة في الحياة الإنسانية.
وبناء عليه نفهم أن للغة استعمالات متنوعة؛ اجتماعية وسياسية واقتصادية وعلمية، إلى آخره. والإنسان في المجتمع يكون دوما في ممارسة هذه الاستعمالات. غير أن هذا الارتباط للإنسان باللغة يسير في اتجاهين اثنين: الأول إيجابي، والثاني سلبي.
= فأما الاتجاه الإيجابي فيتجلى فيما يلي:
1. اهتمام الإنسان بلغته: أي إنه يمارس لغته ويتكلم بها، وينفق عليها بسخاء كما حظيت بذلك اللغات العالمية كالإنجليزية والفرنسية والعبرية.
2. التخطيط اللغوي: ويتجلى في البعد الاستراتيجي، واتخاذ القرارات السياسية والتربوية الجريئة للحفاظ على اللغة.
3. إتاحة الوسائل والسبل الكفيلة بحفظ اللغة من الانقراض أو الموت. وقد نهجت هذا النهج عدة دول؛ مثل الهند التي تختبر ثلاث عشرة لغة لتوحيدها في البرلمان والتعليم. كما قامت فرنسا بالتنقية اللغوية من الدخيل والمصطلحات التي تشوه الفرنسية عن طريق مجمع اللغة الفرنسي وتأليف المعاجم وتوحيد المصطلحات وتعميم نتائجه على المدارس والجامعات للمحافظة على هوية الشعب الفرنسي ووطنيته. وأيضا تتريك اللغة في تركيا على يد كمال أتاتورك سنة 1927، وإحياء اللغة العبرية القديمة من طرف اليهود.
= أما الاتجاه السلبي فيكمن في:
1. إهمال الإنسان للغته: أي عدم التكلم بها مما يعرضها للموت والانقراض. وهناك مظاهر متعددة للإهمال اللغوي مثل الشح في الإنفاق على المخططات اللغوية، وضعف التخطيط اللغوي، واحتقار اللغة الرسمية للبلد، وتقليص ساعات التدريس في المؤسسات التربوية، وضعف الكفايات اللغوية والتواصلية، وموت الحس والذوق الغويين لدى الناشئة عموما، والطلاب والمثقفين خصوصا، إلى آخره.
2. المنافسة القوية من طرف اللغات العالمية: وكما يقول ابن خلدون في المقدمة: " المغلوب مولوع بثقافة الغالب."
3. القوة الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية التي تساهم في تطور وانتشار اللغات القوية كالإنجليزية، مقارنة مع اللغات الضعيفة التي تموت بمعدل لغة واحدة خلال كل خمسة عشر يوما. كما ماتت لغة الأوبيخ في تركيا سنة 1992، بعد وفاة آخر متكلم بها (توفيق إسينش.) ولغة جزيرة مان بوفاة (نيد مادريل ) 1974. ولغة الاياك في الأسكا بعد رحيل آخر عجوز كانت تتكلم بها (ماري سميث ) عام 2008م. ولذلك قيل: من لا يتكلم بلغته أو يكتب بها فليس ابنا لها.
وقد تنبهت اليونسكو لهذا الخطر في اجتماعها في باريس بمناسبة اليوم العالمي للغة الأم في 21 فبراير 2010م وأصدرت بالمناسبة النسخة الرقمية (أطلس لغات العالم المهددة بالانقراض).
وختاما نستنتج مما سبق أن فضل اللغة على الإنسان فضل عظيم، ويتجلى هذا الفضل في كونها أسدت له خدمات عديدة في مختلف المجالات. لكن رغم ذلك أجحد الإنسان حق اللغة، ولم يقابل عطاءها المدرار بالشكر والامتنان. ثم طغى وتجبر حتى أهمل لغته وساهم في انقراضها. غير أنه مهما حاول الإنسان فإنه سيبقى يمارس اللغة كما يمارس باقي السلوكات الاجتماعية الأخرى.
◄ إدريس بوحوت
▼ موضوعاتي