ظلال عدنان - الأردن
رحلة الشوق: الليلة الثانية بعد الألف
في الليلة الثانية بعد الألف قررت شهرزاد أن تحزم متاعها، وخرجتْ باحثة عنه، تاركة لشهريار، ذاك السلطان، رسالة جاء فيها:
سيدي السلطان، يا مالك البلاد ورقاب العباد على عرش من ذهب وقصور من دماء وأشلاء وبقايا كرامة. وبعد ألف ليلة وليلة ثم ليلة اقتطعتها من ربيع عمري أغادرك؛ لأبحث عنه، فقد تملّك روحي ووجداني. لست خائنة، لكن الخيانة -كل الخيانة- في بقائي معك. سأبحث عن ذاك الرجل الذي طالما تمنيت وحلمت ورأيت.
سأجوب كل بلاد العرْب، وسألملمه من كل بقاعها، سأجده بين ذرّات ترابها، وفوق شجيراتها الخضراء. وقد يصادفني بين قطرات أنهارها العذبة، أو ربما يلقي البحر به إليّ لؤلؤة نقية. سأبحث عنه على قمم الجبال فهو أشمّ مثلها، وقد يكون واحة غناء في صحراء أعمارنا اللاهبة.
سأجده بين الدحنون والزعتر أعتصر زيته المقدسي وأتذوق خمرة عنبه، نعم سيكون هناك في مناجم الرجال ماسا كنت تظنه فحما، ولم تدر أن قسوتك وبطشك وجبروتك حوّله ونقّاه فكان أصفى وأغلى.
أريده بكل النكهات ملونا بألوان قوس الفرح، أريده شهيدا من بلد المليون شهيد، فتيا حفظ القرآن في بلد المليون حافظ يهمس لي: أحبك "هلبا" "هلبا". يأتيني من القيروان فارسا على خيل عقبة يعشق الحرية "برشا" "برشا"، وليكن مطعّما بخفة روح مصريّ احتضنته أم الدنيا فيجعلني أبتسم رغم الدماء النازفة، ويبني لي أهرامات مجد، وبيديه يسقيني نيلا عذبا فأزهر قمحا يمدّ يدا يصافح "دومة ود حامد" وطيّبها الصالح يعلن لنا أن الشرق شرق والغرب غرب لا يلتقيان، فيكون سودانيا اغتذى بنيلين ولونين وقلبين ذا بأس حنون، يطوف بي نحو مليون شاعر حبلت بهم الكلمات فأمطرتهم الغيمات:
الليل ليل عربي
هادر
والأفق أفق عربي
ماطر
* * *
ودمدمت عواصف
ورفرفت بيارق
وانتفض الفرسان
والقلاع والبيادق
وطارت النيازك
محمومة
من حارة لحارة (1)
سمعتهم ينادونه: يا طارق، الذلّ من أمامنا، والقتل من خلفنا، فلتحملنا مراكبك مغربية تكسر ضيقا ومضيقا.
رأيته طهورا من مكة يغتسل بزمزمها أحمله سيفا مسلولا ينافح عن كرامة أمة، معتقا برائحة البنّ، يبني لي سبأ لأكون بلقيسها، نضْحك يتم عروبتها، ونستلّ ملح بحارها فنرفد به دجلة وفراتا عطاشا أضناهما قتل وسفك ودم قان خضّب نخيلها فلقّح امرأة ماجدة ألقت إليّ بمستعصم يحارب هولاكو.
وكم عشقته أردنيا لوّحته شمس جنوبها، وسقته ثلوج شمالها ففاض كرما وشهامة، "نشميّا" يذود عن حماي، سألته عن اسمه فأجابني: الحارث أبي، وأبو عبيدة أخي، وجعفر عمي، وفجرك أنا. معه أرقب من على جبال جلعاد قبة وصخرة وأسوارا، فألمح محبوبي تتقافز قدماه النحيلتان فوق أسوار زهرتنا المغتصبة، يحمل زيت الطفيلة يضيء مقْدسا، مسلّما على الخليل وصاحبها، يرفعني إلى تلك المآذن الدمشقية أعانقها فتبكي.
وللمـآذن، كالأشْـجـار، أرْواح" (2)
في شرايينه "أسمع أصوات من راحوا" هتف بي:
ما للعروبة تبدو مثل أرملة
أليس في كتب التاريخ أفراح؟ (3)
سرت معه مترفّقة، فلعل أديم هذي الأرض بعض أجساد أحبابي، انحنينا نرمم سيفا كان مسلولا فخذل صدأ وجبنا وخيانة، سمعته يشدو لطفلة في الجولان، وارتقى صهوة قلعة حلب يجهز مع الإسكندر المقدوني جيوش نصر وحرية وكرامة، وذهب يستظل بأرز شامخ وسنديان راسخ، جذوره تغذي قلب بيروت المغتصبة.
منتظرا في ليل بطن الحوت
مخاض عشتروتْ
جديدة
من رحم الحبّ
الّذي يولد في بيروتْ (4)
هو ذا من أحب يا أيها السلطان، فهل ألام؟ وهل تملك أن تكون مثله أو مثل ظله؟
فدعني أحبه وأبحث عنه لأنني سألقاه، فها هو طيفه قد لاح، ونجومه تبسم لي. سأسرع إليه قبل أن تغتالوه.
وداعا أيها السلطان، وداعا سيكون لنا لقاء بعده.
= = =
(1) الأبيات للشاعر الموريتاني أحمد ولد عبد القادر.
(2) من قصيدة هذي دمشق للشاعر نزار قباني.
(3) من قصيدة هذي دمشق للشاعر نزار قباني.
(4) محمد جميل شلش، الأعمال الشّعرية الكاملة.
◄ ظلال عدنان
▼ موضوعاتي