سحنين علي - الجزائر
المشهد النقدي في الجزائر قبل الاستقلال
إنّ الحركة النقدية الجزائرية الحديثة مافتئت تبحث عن نفسها وتجدد في مناهجهـا وأدواتـها وإجـراءاتـهـا ومصطلحاتها (النقدية)، مواكبة بذلك الراهن الثقافي والحضاري، ذلك لأن النقد الأدبي يتأثر حتما بفعل التحولات الثقافية والحضارية التي تسود البيئة والمجتمع. يقول الدكتور مخلوف عامر: "إذا كان النقد حلقة في السلسلة الثقافية التي تسود المجتمع في ظروف معينة، فإنه-من غير شك-يتأثر بالوضع الثقافي العام في الوقت الذي يمارس فيه-هو الآخر- تأثيره في البنية الثقافية"[1]. وإذا كان الأدب – باعتباره- تمظهرا ثقافيا وشكلا من الأشكال التعبيرية، فإنه يتفاعل هو الآخر بشكل جدي مع الظاهرة النقدية،بحيث يؤثر فيها ويتأثر بها،إن سلبا أو إيجابا.
لقد كان المشهد الثقافي الجزائري– في بداية القرن العشرين- نذير خطر هبت رياحه على الأدب والنقد، ذلك لأن الفكر الثقافي الاستعماري في تلك الفترة كان يسعى ويهدف إلى القضاء على الثقافة المحلية الأصيلة ونشر ثقافة استعمارية بديلة ذات طابع كولونيالي مهمته طمس المعالم الثقافية والوطنية والتاريخية، بما فيها الموروث الثقافي العربي الأدبي والنقدي.في ظل هذا الجو الثقافي القاتل كان من الصعب الحديث عن حركة نقدية جزائرية ناضجة ومكتملة، وهذا أمر طبيعي له ما يبرره وهو أن الحركة النقدية الأدبية في الجزائر في النصف الأول من القرن العشرين اتسمت بالضعف والاضمحلال والركود على عكس ما شهدته في النصف الثاني منه[2].
وإذا كان الاستعمار هو الفاعل الرئيس والمؤثر السلبي في الحركة الأدبية والنقدية- في هذه الفترة – فإن هناك عوامل أخرى أسهمت- أيضا – في ضعف الحركة الأدبية والنقدية في هذه الفترة، وهي أن معظم الأدباء النقاد انشغلوا بالجانب السياسي ملبين بذالك نداء الوطن، هذا من جهة ومن جهة أخرى، فإن الاستفادة من الثقافات الأخرى سواء العربية أو الأجنبية كانت ضعيفة أيضا[3].
لقد بات من المستحيل الحديث عن نظرية نقدية جزائرية -في تلك الفترة –كما هو شائع ومتداول بين النقاد والدارسين اليوم،[4] وهو ما أدى بمحمد السعيد الزاهري - واصفا المشهد الثقافي آنذاك- إلى التصريح بالقول: "أعرض على أدبائنا وكتابنا الجزائريين هذه القصيدة القصيرة، وأرجو من كل أديب (قدر على نقدها) أن ينتقدها انتقادا أدبيا، وأن يرينا أنموذجا من هذا الفن الجميل، فن النقد الذي هو ميز الخبيث من الطيب، والخطأ من الصواب، والصحيح من الفاسد، فإننا قد عرفنا أنّ بالجزائر شعراء فحولا، وكتبة متقدمين، وعرفنا مقدرتهم في أغلب وجوه الكتابة إلا في النقد الأدبي، فإننا لم نعرف مبلغه ببلادنا الجزائر.فهل يتقدم أحد من حملة الأقلام إلى هذه القصيدة، فينتقدها بإنصاف يكشف عن سيِّئاتها، ولا يظلم حسناتها؟ ، ليس الانتقاد هو الاقتصار على المدح أو القدح متى وجدا معا"[5].
فالزاهري تعمد إبراز الضعف في هذه القصيدة ليختبر يقظة النقاد ومدى قدرتهم وحذقهم في الكشف عن مواطن الخلل والجودة فيها[6]، وهو ما جعله يعتقد بأنّ النقد تمييز الخبيث من الطيب والخطأ من الصواب والصحيح من الفاسد، وهي نظرة جزئية لا تخرج عن الدائرة التقليدية في حكمها على البيت الواحد منفردا في إطار القصيدة، وفي كشفها أيضا عن السيئات والحسنات داخل هذه القصيدة.
هكذا تداخلت المؤثرات (الأدبية والنقدية)[7]، واختلطت المفاهيم والمصطلحات ولم تتحدد بذلك وظيفة الأديب من الناقد، فأصبح الأديب ناقدا والناقد أديبا.
وبالرغم من ذلك فقد شهدت الساحة الأدبية الجزائرية قبل الاستقلال بعض المحاولات النقدية احتضنتها وحبتها مجموعة من الصحف والمجلات، كان من أهمها : المنتقد، والشهاب، والبصائر(جمعية العلماء المسلمين)، وكان أبرز كتابها نقادا وأدباء أمثال: محمد البشير الإبراهيمي،وأحمد رضا حوحو،وأبي القاسم سعد الله،وعبد الوهاب بن منصور[8].
لم تخرج هذه الانطباعات النقدية الصحفية عن إطار الاتجاه التقليدي (*) الكلاسيكي الذي رسمه لنا نقادنا الأوائل، حيث نجد سماته وأدواته حاضرة بقوة لدى النقاد والأدباء الجزائريين، وهو والحالة هذه أمر طبيعي وواقعي، ذلك لأن نقاد هذه المرحلة قد استلهموا الموروث الثقافي العربي اللغوي والبلاغي القديم، فكان أن صقلت به مواهبهم، وظهر جليا في أعمالهم وممارساتهم النقدية.
لقد كانت مجهودات جمعية العلماء المسلمين تسير في إطار الاتجاه التقليدي التراثي، وذلك بإحيائها للأصول التراثية فكان منها أن اهتمت بعلوم اللغة العربية وآدابها ضمن توجهها الإصلاحي الديني والوطني.
إنّ الدّور الفاعل الذي لعبته جمعية العلماء المسلمين يكمن في أنها أشارت إلى عناصر الهوية الوطنية (الدين، اللغة ، والوطن )، غير أنها كانت بعيدة كل البعد عن الممارسة النقدية العالمية والعربية[9].
يعد محمد السعيد الزاهري واحدا من بين النقاد الأدباء المناصرين للاتجاه التقليدي والمناهضين للاتجاه الحديث في النقد الأدبي بالمشرق، فقد كتب مقالا- هاجم فيه طه حسين هجوما عنيفا- بعنوان "طه ماكر حسين شعوبي" شن عليه فيه حملة هجومية كال له السب كيلا، ودعا إلى حرق كتبه وطالب بتحريم إدخالها إلى الجزائر، ولاسيما كتابه (في الشعر الجاهلي)[10] وفي السياق نفسه أورد محمد مصايف بأنه "هاجم طه حسين هجوما عنيفا، واتهمه بالشذوذ والنزق، والشعوبية، واستخدام الموضوعات والأساليب التي يريدها الاستعمار"[11].
إنّ المشهد الثقافي والنقدي الجزائري -في هذه الفترة- لم يخرج عن إطار الدائرة التقليدية، إذ أصبح من المستحيل –قبل الاستقلال- الحديث عن عمل نقدي متميز إلا نادرا تجلى في بعض الانطباعات النقدية الصحفية المرسومة من قبل الأوائل. وهكذا فقد "كانت النظرة التقليدية إلى الأدب والفن عندنا لا تهتم بالمنطق والعقل والعاطفة، بل ترتكز على الموروث الديني لحماية النفس من الضياع في عالم الكولون الاستعماري. فلم تخرج نظرتهم إلى الحياة عن الأخلاق العامة والعادات المحلية ومحاولة محاكاة القدماء لفظا ومعنى"[12].
في ظل هذا الجو القاتم صدرت بعض المحاولات النقدية المجددة والرافضة للتقاليد الموروثة، يتعلق الأمر بتلك المحاولات التي قدمها رمضان حمود وأحمد رضا حوحو اللذان كانت لهما آراء تجديدية لمفهوم النقد والأدب، تنفتح على الثقافات الأخرى. يقول أحمد رضا حوحو: "ومن التعصب الذميم أن ننكر النافع الجيد من مذاهب الغير في الأدب والفنون لأن أصحاب هذا المذهب أو ذاك لا يمد إلينا بصلة"[13].
وقد أورد الدكتور مخلوف عامر -وهو أحد المهتمين والمتابعين لتطورات الحركة النقدية الجزائرية- في كتابه مظاهر التجديد في القصة القصيرة جملة من العوامل ،أسهمت في ضعف الحركة النقدية في الجزائر خلال هذه الفترة ( النصف الثاني من القرن العشرين )، وقد جعلها في ما يلي[14]:
= السيطرة الاستعمارية وسيادة الاتجاه التقليدي.
= قلة الرصيد التراثي الموروث في الأدب والنقد لدى الاتجاه التقليدي بسبب العداء والإقصاء الممارس ضد اللغة العربية من قبل الأتراك والفرنسيين.
= الدور الهزيل الذي لعبته الصحافة في تشجيع وتوجيه الأدب والنقد على الرغم من أنها جديرة بلعب هذا الدور.
= ضعف حركة النشر واهتماماتها التي اقتصرت على طبع الكتب الدينية وجرائد ومجلات الحركة الإصلاحية.
= الموقف العدائي ضد الاستعمار، وعدم إتقان اللغة الفرنسية، الأمر الذي لم يمكن من الاستفادة من النقد الأدبي الفرنسي.
= ضعف حركة الترجمة لدى الأدباء والنقاد الجزائريين نتيجة اهتمامهم الزائد بأدبهم العربي بعامة والشعر بخاصة، وكذلك–أيضا- بفعل القطيعة مع النتاج الفرنسي.
كل هذه العوامل أثرت مجتمعة في ضعف الحركة النقدية في الجزائر خلال هذه الفترة، وما يمكن أن نسميه نقدا –في هذه الفترة- لا يعدو أن يكون مجرد انطباعات نقدية تجزيئية أوتصحيحا لأخطاء لغوية وصرفية ونحوية وعروضية.
لقد مرت الحركة النقدية في الجزائر -قبل الاستقلال- بمراحل متداخلة ومتشابهة إلى حد كبير، ولكن على الرغم من الطابع العام الذي يجمعها (الاتجاه التقليدي)،إلا أنّ هناك سمات مميزة لكل مرحلة، وهذه المراحل يمكن أن تكون في أربع هي كالآتي[15]:
= المرحلة الأولى: تنتهي هذه المرحلة مع الحرب العالمية الثانية، سيطرت عليها النظرة التقليدية التي تعتني بالتراث وتدعو إلى التمسك به وإحيائه وبعثه، باعتباره نموذجا قوميا خالدا، وبهذا فقد كان النقد الأدبي في الجزائر -في هذه المرحلة- نقدا لغويا وبلاغيا تقليديا سيطرت عليه النظرة الجزئية للألفاظ والمعاني، وقد مثل هذه المرحلة مجموعة من الشيوخ كأبي القاسم الحفناوي وعبد القادر المجاوي والمولود بن الموهوب ومحمد بن أبي شنب ومحمود كحول، وذلك في المحاضرات والدروس التي كانوا يلقونها، أو في الآراء التي كانوا يدلون بها في الصحافة.
= المرحلة الثانية: تتمثل هذه المرحلة في الدروس التي كان يلقيها الشيخ عبد الحميد بن باديس على تلاميذه، إذ كان يدعوهم إلى القديم والعناية به، كما كان يعلمهم طرائق دراسة الأدب وأساليبه، وقد ظهر ذلك جليا في دراسته لكتاب الكامل للمبرد والأمالي لأبي علي القالي وغيرها من الكتب التراثية. غير أنّ دعوة الشيخ عبد الحميد بن باديس قد غلب عليها الجانب الإصلاحي الذي طبع ثقافته وفكره.
= المرحلة الثالثة: مثل هذه المرحلة الشيخ البشير الإبراهيمي الذي كان له دور بارز في الحركة الأدبية والنقدية على غرار زميله الشيخ بن باديس، وقد كانت إسهامات وآراء الإبراهيمي الصحفية، ولاسيما في جريد البصائر خير موجه للأدباء والنقاد نظرا لما كانت تنشره الجريدة من نصائح وشروط للأدباء والكتاب الذين كانوا يرغبون في الإنشاء والقول كما استعمل الشيخ البشير الإبراهيمي ثقافته اللغوية والأدبية الكبيرة في انتقاد الأدباء والشعراء وتقييمهم وتنبيههم إلى مواطن الجودة والرداءة في أعما لهم.
= المرحلة الرابعة: تبدأ هذه المرحلة بعد الحرب العالمية الثانية والتي تضاعف فيها الإحساس بالأدب والنقد وأهميتهما ودورهما، وعلى الرغم من الصلة التي تربط هذه المرحلة بالقديم إلا أنها تحررت بعض الشيء في أسلوبها وموضوعها، كما طبقت بعض المذاهب النقدية الحديثة، كالمذهب الواقعي الذي ظهر واضحا في أدب أحمد رضا حوحو والمذهب السلوكي في إنتاج أحمد بن ذياب والمذهب الرومانسي الذي مثله كل من حمزة بوكوشة ورضا حوحو وأحمد بن ذياب وعبد الوهاب بن منصور ومولود الطياب، وغيرهم.
كانت هذه لمحة موجزة ومختصرة عن المراحل التي مرت بها الحركة النقدية في الجزائر حتى الاستقلال، والتي يمكن أن تصنيفها ضمن المحاولات النقدية، أو دون مستوى المحاولات الأدبية على حد تعبير عبد الله الركيبي، لأن النقد حتى الاستقلال لم يركز على النص بقدر ما ركز على أسباب الركود والجمود[16]. ولم يتم الانفتاح على الثقافات الأجنبية العالمية بل وحتى العربية، التي عرفت نشاطا نقديا كبيرا لاسيما مجهودات مدرسة الديوان وأبولو والمهجر.
وعلى هذا الأساس وبإجماع الدراسات (*) التي تتبعت مسار الحركة النقدية حتى الاستقلال لا يمكن الحديث عن خطاب نقدي جزائري يستحق العناية والدراسة –قبل سنة 1961 –على الرغم من وجود بعض المحاولات المتناثرة في بعض الصحف والمجلات الجزائرية تمثلها بعض الكتاب أمثال : رمضان حمود ومحمد السعيد الزاهري ومحمد البشير الإبراهيمي وابن باديس وحمزة بوكوشة وأحمد بن ذياب وعبد الوهاب بن منصور وأحمد رضا حوحو...وغيرهم من الأدباء الذين لم يجعلوا النقد ضمن اهتماماتهم المتخصصة.
= = = = =
الهوامش
1: مخلوف عامر، متابعات في الثقافة والأدب، منشورات اتحاد الكتاب الجزائريين، الجزائر، ط1،2002، ص: 205.
2: ينظر: عمار بن زايد، النقد الأدبي الجزائري الحديث، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر،1990، ص: 7-8.
3: ينظر: مخلوف عامر، المرجع السابق، ص: 208.
4: ينظر: محمد مصايف، النقد الأدبي الحديث في المعرب العربي، المؤسسة الوطنية للكتاب ،الجزائر، ط2،1984، ص: 17.
5: الشهاب: في 17 /12/1925، نقلا عن عبد الله الركيبي، تطور النثر الجزائري الحديث، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1983، ص: 263-239.
6: أحمد يوسف، السلالة الشعرية في الجزائر، علامات الخفوت وسيماء اليتم، مكتبة الرشاد للطباعة والنشر والتوزيع، سيدي بلعباس الجزائر،2004، ص: 75.
7: ينظر: عبد الله الركيبي، المرجع السابق، ص: 250.
8: ينظر: محمد مصايف، المرجع السابق، ص: 5.
(*): يلخص محمد مصايف-في كتابه النقد الأدبي الحديث في المغرب العربي- سمات الاتجاه التقليدي في العناصر الآتية:
= الاهتمام الشديد باللغة والعروض.
= الأسلوب الخطابي في العرض.
= الجزئية في النظرة.
= الاستناد إلى التراث في تقويم الآثار الأدبية.
9: ينظر:مخلوف عامر، مميزات الممارسة النقدية في الجزائر، ضمن كتاب: أسئلة ورهانات الأدب الجزائري المعاصر، تنسيق: جعفر يايوش، دار الأديب للنشر والتوزيع، وهران،2005، ص: 71.
10: قرين عبد الله، النقد الأدبي الحديث في الجزائري ،(مخطوط ماجيستير)، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة حلب، سوريا ، 1987، ص: 31.
11: محمد مصايف، المرجع السابق ،ص: 24.
12: قرين عبد الله، المرجع السابق ،ص: 37.
13: مخلوف عامر، المرجع السابق، ص: 210.
14: ينظر: مخلوف عامر، مظاهر التجديد في القصة القصيرة بالجزائر، دار الأمل للطباعة والنشر والتوزيع، تيزي وزو ،الجزائر،ط2 ،2008، ص: 32-33.
15: ينظر التقسيم المرحلي الذي قدمه كل من عبد الله الركيبي في كتابه تطور النثر الجزائري الحديث، المرجع السابق، ص: 239-260، وأبي القاسم سعد الله في كتابه: دراسات في الأدب الجزائري الحديث، دار الرائد للكتاب، الجزائر ط5، 2007 ، ص: 79-83.
(*): من بين الدراسات التي تناولت ذلك نشير إلى:
= أبي القاسم سعد الله ، المرجع السابق،ص: 79-83.
= عبد الله الركيبي، المرجع السابق، ص: 239-260.
= عمار بن زايد المرجع السابق.
= قرين عبد الله ، المرجع السابق.
= مخلوف عامر، متابعات في الثقافة والأدب.
= شريبط أحمد، النص النقدي الجزائري من الانطباعية إلى التفكيكية، أعمال الملتقى الوطني الثاني(الأدب الجزائري في ميزان النقد)، ط1، معهد اللغة والأدب العربي، جامعة عنابة 1984،ص: (8-22).
= يوسف وغليسي، إشكالية المنهج والمصطلح في تجربة عبد الملك مرتاض النقدية ،(مخطوط ماجيستير )، معهد اللغة والأدب العربي، جامعة قسنطينة ،1995-1996. وغيرها من الدراسات النقدية الجزائرية الأخرى.
16: ينظر عبد الله الركيبي، المرجع السابق، ص:252.