إبراهيم يوسف - لبنان
الحادثة الأليمة
نبني فتهدمها الرّياح
فلا نضجّ ولا نثور
(أبو القاسم الشّابي)
من المحزن حقا أن ندوس بلا رحمة أو غضب على قناعاتنا وعواطفنا، حتى دون السماح لنا بالاعتراض أو إبداء الرأي، عندما يتقوّض منطق الأمور وتتحول قلوبنا إلى مقبرة، وقضايانا إلى هزائم. كنت أقول لنفسي، ما دام منطق الأمور هكذا، سأستبيح كلّ الأمور المحظورة لأتحدّث عن خيبتي بلا خشية أو حرج: عن الدين والجنس، وعن التسكع وخيانة الأوطان، فلم ينفع؛ انقضى الأمر ومنع النصّ من النشر، هذه المرّة بدواعي الأمانات الأدبية، واستراح عدلي الهواري ("مولاي وروحي في يده"). هكذا للأسف الشديد، وئدت في مهدها "اسمع يا رضا"، وحجبت عن النشر بعد عاصفة من الأخذ والرد، لتحذو حذو سابقاتها، وأنا وحدي من يتحمل مسؤولية الفشل في النشر. "ألحادثة الأليمة" هذه المرّة تبادلها المطرح دون أن تنوب عنها أو تغني.
كنت برفقة زينب وأنا في عمر ابنتها؛ وزينب زوجة أخي، كانت تقودني من يدي في طريقها؛ لزيارة خالتها في أطراف القرية، حينما أبصرت عند نهاية المنعطف، دكّان الحارة تلوح في أعلى مدخله "بالونات" ترفرف منفوخة، تغري الكبار وتسبي عقول الصغار. يحرّكها الهواء فتتحرّك بخفّة ما طالت لها خيطانها. منها الزهريّ والأخضر؛ الأبيض والبنفسجيّ والأزرق، "غلف" من مطّاط شفّاف؛ ملمسها ناعم كالحرير، لا يتجاوز حجم الواحد منها السبّابة والوسطى، تنفخها بفمك، فتستدير أسطوانيّة الشكل أو كرويّة تبلغ استدارتها قطر زهرة عبّاد الشمس، تربط فوهتها إلى خيط؛ وتقذف بها إلى الأعلى، فتطير خفيفة كالظل، رشيقة مثل الفراش، ملونة كقوس قزح، جميلة كالأحلام.
أخبرتني صبيّة عن انطباعها في الطفولة، حين عرف لسانها طعم "البوظة" للمرة الأولى. قالت لي: لم أصدّق نفسي، أذهلتني المفاجأة فعقدت لساني عن التعبير، وكاد "يطير" صوابي من لذّة طعمها. ببساطة؛ هكذا وصفت حالها مع المثلّجات.
كم يكون الأمر مدهشا وعذبا؛ حينما تتذوّق حلاوة؛ أو تبصر جمال الأشياء والألوان للمرّة الأولى؟ "البالون": هذا الابتكار المذهل كان حديث العهد بنا؛ فقد غزا ضيعتي وأسر قلوبنا منذ وقت قريب.
في محاذاة الدّكان بدأت أتمّهل في خطوي، أمشي مقطوع النفس كالمسحور، ونظري مشدود يرنو إلى ألوانها الخلاّبة، أمنّي نفسي بواحد منها، وزينب تقسو على قلبي فتشدّني من يدي لأجاريها في مشيها.
عندما أدركت ما يشغلني ويعرقل سيري؛ تمهّلت هي الأخرى وعزمت على أمر ثمّ تراجعت، مرّة أخرى جذبتني بلا رحمة، وعادت فتردّدت بعد خطوات. عذّبني تردّدها؛ لعلّها أخيرا أشفقت أن تقتل الرجاء في قلبي، فتوقّفت واشترت لي واحدا منها.
- بالونات ملونة
ما أحلاها زوجة أخي! لو كان ينبغي تقبيل الأيدي لغير الآباء والأمهات، لقبّلت يدها. اخترته بنفسجيّ اللون، عاملته برفق وحذر؛ منذ الصباح حتّى انتصف النهار، حينما غدر بي وانفجر بين يديّ بلا إنذار، فانفجر بالحزن قلبي معه، وأحسست ما بقي من النهار بخيبة لا أرجوها لحبيب أو صديق. خيبة تذكّرني بابنتي الصغرى، في ذكرى ميلادها تتسلّح بدبّوس تتعقّب "بالونات" الزينة تفجّرها الواحد تلو الآخر بمتعة لا توصف. ابنتي التي لم أرو لها (1) "اسمع يا رضا"، ولا بحت لها بحكايتي مع "البالون". لم أعترف لها حتّى اليوم بتلك الحادثة الأليمة، ابنتي لا يعنيها أن تقرأ ما أكتب؛ ولو من باب الفضول. ابنتي كأصحابي؛ خانتني وخذلتني وحملتني على الإحساس بالمرارة والألم.
الحقيقة أنني أحببت زوجة أخي واحترمتها، واصطفيت "هدى" ابنتها وأكبرها ليس كثيرا، ظلمت نفسي فأحببتها حتّى العبادة، وما زلت حتّى اليوم؛ أخصّص لها مكانا رحبا في قلبي، لا يزاحمها فيه أحد؛ حتّى أولادها. لكنّها انصرفت عنّي لأمورها، كما فعل أبنائي. شغلتها عنّي متاعب الدنيا؛ وكلّما تقدّم بنا العمر فقدنا عزيزا، أملا أو رجاء، فاخترعنا لأنفسنا آمالا أكبر.
قلّ ما نلتقي وإن تعاتبنا، تعاتبنا بصمت، أحببتها كما أحبّتني بلا إعلان. بكت مرّة وأسعدني بكاؤها، أسعدني ندى القلب يتسلّل من مقلتيها إلى خدّيها. ضمّتني طويلا وبكت على كتفي، وأنا أطالعها بعد سنوات من الغياب بأبيات من شعر "الصمّة القشيري":
وليست عشيّات الحمى برواجع
إليك ولكن خلّ عينيك تدمعا
كأنّا خلقنا للنوى وكأنما
حرام على الأيّام أن نتجمّعا
لم تكن زوجة أخي أكثر كرما من زوجها، حينما اصطحبني مرّة مع هدى ابنته إلى المدينة. أنفق من ماله بلا حساب كأنّه مال لم يتعب به، فاشترى لنا دفترين للرسم وأقلاما ملوّنة، فشلت معي في تكوين موهبة للرسم، "وفشلت أيضا موهبته في الشعر من تكوين ملكة عندي". كما اشترى لنا (2)"كماجا" وطعاما مذاقه مختلفا وشهيا، وأسرف في شراء "البوظة" والمشروبات الغازيّة والحلوى.
ما بدّد سعادتي يومها، ونكّد عليّ هناء رحلتي؛ خوف طفولي مكتوم على ماله ينضب لشدّة ما أنفق. وهمست في أذن ابنته: من أين لنا أجرة مركبة النقل في طريق عودتنا إذا أفلس؟
أخي ذلك، لم يكن كريما فحسب، بل كان صيّادا بارعا وهاويا يقرض الشعر، تلك هي المفارقة. يشهد عارفوه أنّه نظم في المرأة والطبيعة شعرا جميلا، لكنّه لم يترك ديوانا واحدا، ولا حصينا له إلاّ قصائد قليلة، وتلك مفارقة أخرى.
كان يقتني بندقيّة أفقية التصميم؛ أستونها مزدوج وعيارها "12" “calibre”، فرنسيّة الصنع، كانت يومئذ حديثة الطراز، من نوع “Saint –Étienne”. تتمتع بمواصفات عالية لصيد "الفرّي"، لاستونها المزدوج القصير متعدّد الأخاديد من الدّاخل، ما يسمح لكرات الرصاص، تتوزّع على مساحة واسعة في مسافة قصيرة، تضمن قنص الطير، مع القليل من مهارة الصياد، ومخزن الذخيرة فيها يتّسع لطلقتين اثنتين، قلّما خابت الطلقة الأولى، لكنّه لم يكن يملك كلبا، مراعاة لرغبة أمي وقناعتها بأنّه حيوان "نجس" لا ينبغي له أن يعيش إلى جوار الناس، فلعابه مشبع بالجراثيم التي تحمل أمراض ذات الرّئة، ما فتك بابنها البكر. لذلك فشلت مساعيه في إقناعها واقتناء كلب للصيد.
مهما يكن الأمر، فقد اصطحبني معه للصيد ذات مرّة، ووقعت مهمّة جمع الطرائد على عاتقي، بل تبرّعت بها بروح طيبة وفرح كبير، فتخطيت في مهمّتي كفاءة كلاب الصّيد أنفسها. كانت رحلة صيد ممتعة بين حقول قمح "يختفي الخيّال فيه"، يتمايل ويؤدي رقصة جذّابة كلّما هبّ عليه النسيم، وتنتشر في الجوار حقول رحبة من (3) الأقحوان، وشقائق النعمان تأسر بألوانها وبهجتها القلب والعين.
- أزهار الربيع
لا تكاد الطريدة تعلو قامة الرجل، حتّى يكون قد عاجلها بالنار فأوقعها. كان الصيد وفيرا، استهلك ما نملك من ذخيرة في وقت قياسي قصير، وصاد من الفري أدنى بقليل، من عدد الذخيرة المستنفدة، وفقدنا أيضا بعض الطرائد المصابة.
ثمّ تحضّرنا للعودة حينما " تفتّقت قريحتي" عن اقتراح بعرض، أحمله إلى الصيادين المتواجدين في الجوار، ممن قدموا من سائر المدن ولا يجيدون الصيد كثيرا، فيخسرون الطلقة تلو الأخرى.
يقضي العرض باستبدال الطريدة الواحدة بطلقتين. بهذا لا نقطع الرحلة، ونصيد مزيدا من الفري. أعجبته الفكرة؛ وتوليت المساومة. بعضهم رضي بثلاث، وأحيانا أربع طلقات للطريدة الواحدة. هكذا قضينا وقتا إضافيا ممتعا، وعدنا في المساء بمزيد من صيد يحمل على الاعتزاز؛ أدهشت وفرته جميع من صادفناهم في طريق عودتنا.
هذه الرحلة أذكرها بكثير من الحنين، ولو أنني تحوّلت إلى جبان لا يملك اليوم من الشجاعة ما يكفي، ليرمي طلقة خائبة على طير.
= = =
(1): "اسمع يا رضا": للدكتور أنيس فريحة.
كتاب تردّدت أصداؤه في المدارس، ولهج به الناس لوقت طويل. يتحدث فيه الأب إلى "رضا" صديقه وابنه عن ذكرياته المؤلمة يوم كانت الحياة بدائية شاقة. أسلوب قصصي ممتع له رائحة مميّزة، ونبرة حارة صافية آتية من بعيد، مشبعة بالخيال الرائق البسيط، خيال أهل الريف. يتوجّه الأب إلى الابن مرشدا وناصحا بما اكتسبه من اختبارات وذخيرة في سنوات عمره. أحبّ الناس الحكاية وتداولوها، وبنى "زياد الرحباني" بنجاح على مقتضى المضمون في الموسيقى والغناء. تمخض عن أغنية شعبية لاقت رواجا كبيرا ترددت على كل لسان، والنغم يدفع إلى الرقص العفويّ في بعض المقاطع. تيّمتنا الأغنية والحكاية، وتركتا فينا بصمات لا تزول من الوجدان.
(2) "الكماج": خبز مستدير، "فارسيّة"
(3) شقائق النعمان: ويعرف (بالدحنون).
◄ إبراهيم يوسف
▼ موضوعاتي