أشواق مليباري - السعودية
الحقيبة
وقفت تنظر إليّ وأنا أستعد للخروج، قالت متوسلة:
"متى تغيرين هذه الحقيبة؟"
"تعجبني، فهي تذكرني بسنوات الدراسة."
"لكنها بالية الأطراف يا ابنتي."
"إنها كثيرة الجيوب، تتسع لملابس الصغيرة، ومريحة في الحمل."
ابتسمْتُ لها وقبّلت يدها، ثم أسدلت غطاء وجهي.
هزّت رأسها كمن أعيتها الحيلة، ثم ودّعتنا وتمنّت لنا رحلة سعيدة.
كان الطريق طويلاً، طويناه في الأحاديث المسلّية، والنقاش المفيد، ولم يقطعه إلا فضول الطفلة وضجرها تسأل عن وقت الوصول، حتى استغرقت خليّة البال في نوم مريح.
حين بلغنا المصيف، كان كل شيء يثير دهشة الطفلة، التي تقوم بزيارتها الأولى، الجبال العالية، والأشجار المتداخلة، وتشعر رقّة النسمات المنعشة تداعب شعرها وتلامس وجنتيها، حين لاح بناءٌ ضخمٌ في الأفق، فندق فخم يرتفع عاليا فوق إحدى الهضاب.
ما إن توقفنا حتى أسرع إلينا عامل الفندق يساعدنا في نقل الأمتعة.
أنزلت ابنتي، قدتها من يدها، وسرنا حتى بوابة الفندق، لمحت امرأة تحمل وليدها وتمد يدها تستجدي المارة وقد تلفعت بالسواد، مررت أمامها ودخلت الفندق، ثم جلست في البهو تدور في نفسي التساؤلات، إلى متى تتواصل هذه الطبقية؟ ومن المسؤول عنها؟ من الذي حكم على هؤلاء بالفقر والحرمان؟ هل صحيح أن بعضهم أغنياء لكنهم يمتهنون التسوّل؟ ولكن ما ذنب هذا الوليد؟ لم يكن الفقر عيبا في يوم من الأيام، لكن أين التعفف؟ أم أن السبل قد ضاقت بهم؟
أحسست بغصة وتخيلت شبح الحرمان والجوع يخيم على هؤلاء البؤساء بينما يرفل آخرون في الرخاء والنعيم، بيد أن سحابة الحزن اختفت وصغيرتي تقفز فرحا حين جاء والدها يرافقنا إلى غرفتنا في الطابق الخامس.
عند دخولنا الغرفة وقفت طفلتي ممسكة بعباءتي تنظر إلى عامل الفندق بتوجس، ثم ابتسم لها ملاطفا، وتمنى لنا إقامة سعيدة، بعدها قفزت إلى السرير الكبير وأصدرت أوامرها السامِيَة بأنه سريرها ولنبحث نحن عن مكان ننام فيه.
بعد الغداء كان الكل متحمسا للخروج والتنزه في ربوع المصيف، وعند نزولنا من الغرفة طلب مني زوجي أن أسبقه إلى الخارج ريثما ينهي بعض الإجراءات مع مسؤول الاستقبال.
خرجت وبيدي حقيبتي، تسبقني الصغيرة، ركضت بمرح وأخذت تدور حول أحد الأعمدة غير بعيدة عني، بينما وقفت أتأمل فخامة بناء الفندق وجمال مدخله، فلمحت تلك المرأة ومعها جمع من المتسوّلين، يتراكضون إلى نزلاء الفندق الذين خرجوا حاملين أكياسا بها فائض غدائهم.
وبينما أنا على تلك الحال اقترب مني رجل حسن الهندام، قد ارتدى ثوبا ناصع البياض وغترة لا تقل بياضا، طأطأ رأسه أمامي مباشرة ومد يده إليّ بكيس عليه شعار أحد المطاعم. وبين الدهشة والذهول تلعثمت وقلت بصوت غير مسموع، وكأنني أحدث نفسي:
" أنا ... لا أريد ... لست ..."
لكني استغرقت وقتا طويلا، فلم تمهلني تلك المرأة بل خطفت الكيس من يد الرجل قائلة:
"أنا أريده. أنا أريده."
مضى الرجل، ومضت المرأة، وبقيت في مكاني. اختلج غضب بداخلي ما لبث أن تحول إلى ضحكات حاولت إخفائها عن زوجي الذي وصل بعد انتهاء المسرحية، وقال في حماس واضح:
"ها، إلى أين تودّون الذهاب؟"
"أولا، إلى السوق."
"السوق؟"
"أجل أريد شراء حقيبة جديدة."
◄ أشواق مليباري
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ