محمد التميمي - الأردن
الموت ولا المذلة
جلست بجانبه، لم تعد تجلب له الورود منذ مدة طويلة، فلم تعد قواها المادية والجسدية تساعدها على جلب أي شيء سوى نفسها المحطمة. كانت منكبة على شاهد القبر تمسد عليه بيديها المجعدتين وتنفض الغبار عنه وعن ذاكرتها معه يوم كانا عريسين وكانت تمسد له شعره قبل أن يغمض عينيه مستسلما للنوم بين ذراعيها.
عدلت من جلستها ونظرت لهذا القبر الممدد أمامها. تأملته طويلا. لم تكن بحاجة للكلام، فلطالما قال لها صاحبه "إن لغة الكلام قد تعطلت بيننا ونتخاطب الآن بلغة العيون وهي أبلغ وأنقى وأجمل" ولذلك فمن يوم ما ضمه هذا القبر قبل ثلاثين عاما وهي لا تتكلم سوى معه وفقط بلغة العيون. بقت متسمرة متأملة دون حراك، بضع دمعات خرجن دون إذن ورحن يتدحرجن على خدها على مسار خطته آلاف الدموع من قبل. كانت هذه الدموع تسير نحو نهاية مختلفة فهن لم يبللن قميصه أو معطفه ولم يمسحهن بمنديله أو أصابع يديه، فنهاية هذه الدمعات كانت السقوط على صخر أصم وحجارة قاسية تغطي قبر صاحب القميص والمنديل واليدين الحانيتين.
عادت من حيث أتت ومرت على نواعير تدور منذ زمن، وعلى الباغي تدور الدوائر. ولهذه النواعير معها حكاية، فقد جاء بها إلى هنا حينما حدث العدوان وخبأها هنا بجانب النواعير. ورغم أن النواعير خشبية إلا أنها قد احتضنتها وهدأت من روعها. أما هو فقد عاد بعد أن رمقها بنظرة أخيرة وقال لها: "الموت ولا المذلة."
وقتها تعلقت به وبكت وقالت وهي تصيح:" وأنا؟
ابتسم وقال: "للبيت رب يحميه" ومضى.
وأكملت هي طريقها بعد أن أشاحت بوجهها عن هذه النواعير التي لا تشيخ ولا تذل أبدا رغم ما مرت بها من المآسي. أناخت بجسدها العجوز على ضفاف العاصي وبدأت بشرب قليل من مائه الزلال. لم تحقد يوما على العاصي، لان رفيق دربها وجد ميتا فيه، هو من اختار العزة ولكن الخيارات المتاحة وقتها لم تكن سوى الموت أو المذلة. وقتها كان قد وجد في العاصي جثة عزيزة تحملها مياه النهر وتسير خلفها ورود الياسمين على سطح الماء في جنازة مهيبة.
شربت حتى ارتوت وغسلت وجهها الذي غبرته الأيام والمآسي، وقفلت عائدة لبيتها الذي أظلم من يوم ارتحل إلى ربِه. وفي طريق عودتها شاهدت شباباً حرا ينتفض ويثور على الظلم،
شاهدتهم يهتفون لله وللوطن وللحرية وبس، هتاف لم تسمعه منذ عقود، هتاف كان على مسامعها من فمه احلى الغزل. التحمت بالصفوف. حملت علما يشبه ما لف به رفيق الدرب عندما ارتحل إلى الجنة، صدحت بأعلى صوتها بهتافهم وانتفضت وثارت معهم، سنينها العجاف التي عاشتها لم تعد موجودة، فماء العزة ورياح الكرامة ورائحة الحرية أعادوا لها شبابها. هتفت وهتفت وهتفت.
جاء شبيحة، أطلقوا عليهم النار، كانت تتقدم الصفوف، أما الآن فهي تتقدم الشهداء، شهداء بالعشرات بالمئات بالألوف، شيعوها على عجل فالكثيرون ينتظرون رغم أن بعضهم لم يمت بعد. دفنوها في قبر زوجها الذي احتضنها تماما كما في الأيام الخوالي وقال لها مستغرباً فهو لا يدري ما بال أهل الأرض: "شو اللي جابك؟"
ضحكت وقالت: "الموت ولا المذلة".
◄ محمد التميمي
▼ موضوعاتي
- ● نحن والحزن
- ● الآن فهمتكم
- ● موظفة الترويج
- ● مرايا
- ● أهلاً بالمستقبل
- ● الركض تحت المطر
- ● أبحث عنك
- [...]
3 مشاركة منتدى
الموت ولا المذلة, أيمن التميمي - الأردن. | 25 شباط (فبراير) 2012 - 16:10 1
قصة بليغة للغاية ، تجسد البعد الإنساني للصراع من أجل الحرية بشكل يترك في القلب حرقة وفي الحلق غصة.
1. الموت ولا المذلة, 26 شباط (فبراير) 2012, 07:51, ::::: محمد التميمي
وللحرية الحمراء باب ... بكل يد مضرجة يدق
الدم والدمع والحياة هي أثمان الحرية ولا تشترى بغيرها
الموت ولا المذلة, زهرة-ي- الجزائر | 26 شباط (فبراير) 2012 - 08:38 2
ما اشبه اليوم بالامس الا ان المعطيات تختلف.
رغم ان النص حزين الا ان: "شو اللي جابك؟" قد اضفت على النص شيئا من الفكاهه، فسيطرت علي فكرة مجنونة ان اصول هذين الزوجين جزائرية، وفي القبر صحت فيهما اللهجة الام:
– واش اللي جابك؟ قريب ما عرفتكش
– ارقد ارقد، ماعلى بَالَكش واش اللي صاير بره، الموت ولا لمذله، هربت بالجثه لعندك و روحي بقات بره هايمه.
و دمت بخير اخي محمد التميمي
1. الموت ولا المذلة, 26 شباط (فبراير) 2012, 12:37, ::::: محمد التميمي
لا عجب ان يتكلم الشهداء اللهجة الجزائرية، فمنهم مليون ونصف المليون شهيد! ولا عجب ان يتكلم أهل الشام باللهجة الجزائرية، ألم يقم فينا الامير عبدالقادر العمر المديد!
للجزائر حب خفي في قلبي يظهر في كل النصوص ... تحياتي لك ولبلدي الجزائر واهلي هناك.
الموت ولا المذلة, موسى أبو رياش/الأردن | 12 آذار (مارس) 2012 - 06:28 3
ثلاثون عاماً مرت وما اختلف شيء .. الطاغية ما زال يشرب الدم ويلهو بالعظام البشرية ... جميلة رغم حزنها وألمها هذه القصة التي تختصر كثيراً من القول والتفاصيل ...
هل كتب على شعوبنا العربية أن تنتقل من طاغية إلى طاغية ومن ظلم إلى ظلم ومن قهر إلى قهر؟! ... الربيع العربي هل حقاً هو ربيع ... أم هو يا خوف قلبي خراب عربي؟! ... لا شيء في الأفق يبشر بالأمل ... بل خوف من فوقه رعب من فوقه دمار!
تحياتي أهي محمد وبالتوفيق
1. الموت ولا المذلة, 19 آذار (مارس) 2012, 06:29, ::::: محمد التميمي
اختلفت الشعوب يا استاذي، فقد استيقظت من سباتها العميق لتنفض عنها غبار السنين العجاف. أنا متفائل وسأبقى متفائل رغم هذه الدماء، فحاجز الخوف قد كسر وها نحن نشهم ميلاد حرية جديد.