عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

إبراهيم يوسف - لبنان

عازف المزمار


شو بقي من العمر إلنا شو بقي؟

غير المحبّي وغير هالوعد النّقي

كلما ازرق الغيم عا حدود السّما

بتذكّرك وبقول: بعد منلتقي (1)

.

درويش؟ يعرفه جميع من في الحيّ. ويعرفون أنّه ليس له من اسمه نصيب. التقيته في الصباح الباكر، كنت كالعادة في طريقي إلى موقف الحافلة، التي أستقلها إلى عملي، وهو كعادته في طريقه إلى بيته، بعد ليل قضاه في مربع للسهر، حيث يعمل عازفا على المزمار مع "تهاني" الراقصة؛ تهاني جابت بشهرتها الآفاق، فلهج باسمها "خفافيش" الليل والحانات، وفتنت بلحظها وساقيها السكارى؛ وأصحاب المزاج. يقولون: تهاني عندما ترقص تتلوى في ليونة الأفعى ودرويش يصاحبها بالنفخ في المزمار.

استوقفني وفي يده رقعة مكتوبة أقرأها له، من تلك الأوراق التي ترافق الأدوية تصف ماهيتها وتشرح طريقة استخدامها والمقادير، فدرويش يجيد النفخ في المزمار، لكنّه أميّ يجهل القراءة والكتابة.

كانت الرقعة تتصل بدواء لعلاج القصور في وظيفة القلب: ما تعاني منه زوجته؛ وكانت بالإضافة إلى علّة القلب تعاني قصورا في أداء الكليتين، يستوجب دخولها المشفى "لتغسل كليتيها" مرة في الأسبوع. تفاقمت حالها بعد حين وباتت تزور المشفى للغسيل يوما بعد يوم، حتى نفد زيتها فانطفأت وماتت.

رحلت بلا ذرّيّة، فلم تنجب بعد زواج دام عقدين من الزّمان أو ما يزيد. كانت، رحمها الله، راضية بعيشها، راضية بدرويش والعزف على المزمار، ما دام هذا العمل بابا لرزق يدرّ عليها المال الوفير، وما دام الجري أعياها وراء الحمل والأمومة المرجوّة ولم توفّق.

لم تنقض على موتها الأيام الأربعون؛ كما في "الطقس الفرعوني القديم"، حتى بادر درويش مرة أخرى إلى زواج جديد، من امرأة اختارها طبقا لمزاجه في "الحريم": بيضاء ممتلئة وليست بدينة؛ يفيض وجهها بالقناعة والرّضى. في هذا الجانب؛ ينبغي للأمانة أن أشهد بالحق، أنه كان مستقيما في سلوكه؛ عندما أقدم على حقّه في الزواج مرة أخرى، فما من حاجة مبدئية له في المرأة؛ ما دامت حياة الليل تمطر عليه النساء بلا حساب، وهو إلى ذلك لا يصلي ولا يصوم. لا يشهد بالزور، لكنه مستهتر، يحتسي الخمرة، ولا يقيم وزنا للحلال والحرام.

مهما يكن الأمر فقد تزوّج؛ هذا ما فعله والسلام. تزوّج ولمّا يمض وقت طويل؛ حتى أكرمه الله فحملت زوجته ثم أنجبت له "حسنا" أمله وحلم حياته. لعلّ الله أراد لحسن أن يكون عونا لأبيه في كبره، فأبوه كاد يبلغ من عمره الخمسين.

بعد أن احتفلوا بعامه الأول، وشاركت تهاني في المناسبة السعيدة، سافر أبوه مع الراقصة وفرقتها، يحيون حفلات عبر البحار، حفلات مفيدة في دعم المستقبل للغلام. وحين عادت الفرقة، وحده درويش من تخلّف عنها. غاب وغابت معه الأخبار؛ وامتدّت رحلته من شهر إلى خمسة عشر عاما بالتمام والكمال، لم ير زوجته وولده مرة واحدة.

كان من حين إلى آخر يمدّ زوجته بالقليل من المال، كان يرسله إليها في أوقات متباعدة، على ذمّة ما يشهد به "المصري" صاحب حانوت في الحي، وكانت بفعل نقمتها تتبرع للميتم بالمال، لكيلا يدخل في حسابها مال حرّمته على نفسها. طال انتظارها ويئست من رجوعه؛ وطمع في مودّتها الكثيرون، فلجأت "الأرملة" التي لم يمت زوجها، إلى العمل في خدمة البيوت لتسعف نفسها، وتربّي ابنها تربية يعوزها الكثير من الرعاية والمال.

أرسلته إلى المدرسة فلم يفلح، ولم يستجب للواجبات المدرسية ولا لرجاء الأمّ على المثابرة والتحصيل، فنال نصيبا يسيرا من التعليم، ونشأ مع أبناء الحي مهيضا مكسور الجناح، يشفقون على "يتيم" تخلى عنه أبوه، فيلاطفونه ويكرمون خاطره طمعا في مودة الأم ووصلها، وبعضهم يتولى الإنفاق عليه طمعا في مرضاة الله؛ حبّا ورحمة.

كان كأمّه معافى البدن، أبيض البشرة، رضيّ الوجه، وكان يدرك أنّه أقلّ أهمية من أولاد الآخرين، أقلّهم في المال والسلطة وفي كلّ شيء، وأكثرهم بساطة وطيبة. كان خدوما وضحوكا وبريئا، ولم يكن غبيا على الإطلاق.

أشفق على أبيه؛ فتحسّر من أن تكون أحواله عسيرة في غربته. كما أسرّ إلى من اصطفاه بين أصحابه، وعلّل نفسه فذهب بعيدا في أحلامه وأمانيه، وتمنى أن يعود الغائب ليشعر بالاعتزاز، ويباهي به ولو مرة واحدة في عيون الناس. هكذا نشأ وترعرع في الحيّ، طيلة خمسة عشر عاما، محروما من رعاية الأب ومن عناية أمّ انصرفت إلى عمل متواصل؛ لا ينقطع في عطلة أو عيد، لتسدد نفقات المنزل وتعيل أما عجوزا، وتبعد عن نفسها طمع المتوسلين الانتهازيين. يغبط أترابه؛ يضاحكون آباءهم، يمسكون بأيديهم، ويرافقونهم إلى الملاهي والمطاعم ومخازن التموين. كان بحاجة إلى أب أو صنم أو ظل؛ لا فرق، إلى رسم رجل يدّعيه أبا له.

سبحان الله، من كان على كل شيء قديرا! في موسم الحج؛ تحقق حلم حسن، وذهل لعودة أبيه الذي لم يعرف، وذهل معه كلّ من تذكّره من أهل الحيّ. عاد بالسلامة، "عودة مظفّرة بلا ريب". عاد بعد أن أدى فريضة الحج إلى بيت الله الحرام، وكان أعياه العمر والعجز والمرض، فاستدرك نفسه بالحج يستجير في حمى الكعبة؛ تكفيرا عن ذنوب تواصلت عمرا طويلا؛ أليس في الحج تغسل الذنوب جميعها؟

بكت زوجته من تأثّرها بعودته؛ كما لم تبك العمر كلّه، واستقبلته "بالأوها"، "أوها" الزغاريد والضرب على الدفوف لـ"يفتاح" (2) العائد بالنصر إلى الوطن الجريح. تحرّرت دفعة واحدة من الكبت، ومن حرمان سنوات طوال؛ هدرت من عمرها، وتردّد صوتها عاليا، مدوّيا في أرجاء الحيّ، وسمعها الناس من على الشرفات. تواصلت زغاريدها بوتيرة متصاعدة دون انقطاع، حتى تدخّل أهل الخير في الحيّ فأدخلوها بيتها، وأسكتوها درءا لمزيد من الجرسة (3) والتشهير.

نشجت طويلا؛ حتى كادت روحها تفيض، وترددت أنفاسها متلاحقة مضغوطة؛ وحين هدأت قالت لابنها: عازف المزمار ضيّع عمري كلّه يا ولدي. تركت بيتها إلى جهة مجهولة. حملت حقيبتها ورحلت إلى حيث لا ندري.

كان الأب يمشي كمن يسير إلى قبره في الزقاق الضّيق المؤدي إلى بيته يتوكأ على ذراع حسن. حسن "الحجر الذي رذله البناؤون" (4) تضيق بفرحته الدّنيا وقد صار له أب بعد تلهف وانتظار.

= = =

توضيحات

(1) أغنية من "موسم العز" لصباح "شحرورة الوادي" والأخوين رحباني.

(2) "يفتاح": أحد أبناء "جلعاد" من قضاة بني "إسرائيل"، من أم غريبة عن قوم أبيه، كانت تمتهن الزنا. أنكره إخوته فعيروه وعابوا عليه أمّه، وحين قامت الحرب بين إسرائيل وعمون، التجأوا إليه وكان شجاعا صاحب بأس شديد، فقاد الحملة على العمونيين، وعاد مكللا بالغار والنصر المبين، فكانت ابنته أول مستقبليه بالقرع على الدفوف، قدّمها ذبيحة، وفاء لنذر كان تعهّد به على نفسه إبان الحرب. "بنت يفتاح" مأساة شعرية لسعيد عقل.

(3) الجرسة أو "الجرصة" كما يقول العامة: التنديد والتشهير بأصوات عالية.

(4) الحجر الذي رذله البناؤون: انتهى إلى زاوية الهيكل، ليكون الحجر الأهم في تماسك البناء حائطا إلى حائط. (السيد المسيح).

D 1 أيار (مايو) 2011     A إبراهيم يوسف     C 0 تعليقات