رشيد فيلالي - الجزائر
جورج إفراح: التاريخ العام للأرقام
دخل جورج إفراح (Georges Ifrah)، وهو باحث من أصل مغربي، عالم الشهرة العلمية من بابه الواسع وذلك بدراسته الرائدة "التاريخ العام للأرقام" وهو بحث جاد وموسوعي نشر في مجلدين ضخمين، أراد به هذا الباحث العصامي المتألق أن يقدم لنا من خلاله ملحمة الفكر البشري بدءا من لحظة الوعي الأولى.
والمفارقة العجيبة الكامنة وراء هذا المنجز العلمي العظيم، هي أن الباحث جورج إفراح المولود بمدينة مراكش المغربية، كان في مستهل أعوامه الدراسية ضعيفا في مادة الرياضيات إلى حد أنه أعاد السنتين الخامسة والسادسة على التوالي، الشيء الذي أثار في نفسه روح التحدي وإبراز الذات، حيث أصبح بعد سنوات أستاذا بارزا في هذه المادة: الرياضيات.
ولم يكتف بذلك بل ألّف موسوعته الكبيرة حول تاريخ الأرقام التي أبرز فيها إسهامات العرب الجبارة، ضمن 2080 صفحة، وقد تضمنت ستة عشر ألف نوع من الخطوط الكتابية وصدرت هذه الموسوعة في طبعات متتالية عن دار نشر روبير لافون ضمن السلسلة العلمية الشهيرة (Bouquins).
والملاحظ أن الكتاب المذكور يحاول أن يبين أن الأرقام والحساب يمثلان الخيط الرفيع في ملحمة الفكر البشري بشكل عام، وهو تاريخ لم تتوقف فيه الإنسانية عن عملية العد انطلاقا من اليد التي كانت بمثابة آلية الحساب البدائية بل استمرت على هذا الدرب حتى وصل بها المطاف الآن إلى جهاز الحاسوب.
وعند تصفح كتاب إفراح "التلميذ الكسول سابقا!" نكتشف أن هذا الهوس إلى تحديد الكمية بعيد من أن يكون خاصية من خصائص عصرنا العقلاني العلمي التكنولوجي فحسب، وعليه فهو، أي الهوس إلى تحديد الكمية، أصل متجذر في أعماق الطبيعة البشرية.
والحق أن الباحث جورج إفراح عندما عرض التاريخ العام للأرقام فإنه قد عرض في الوقت ذاته تاريخ الإنسان بجميع أطيافه، بدءا بالإنسان العاقل، الذي بفضل مخيلته الثرية وقدرته الفائقة على التجريد وهو ما يتفرد به بين سائر المخلوقات الأخرى، ينهك نفسه في محاولة لضبط الأعداد ومعادلات تكتمل في شاشته العقلية شيئا فشيئا.
وهناك أيضا الإنسان الحاسوب (Homo calculator) ذو المخ الصافي مثل مخ الأطفال، بحيث يكتسب النضوج الرياضي تدريجيا دون الاقتصاد في عصر الذهن طالما أن المرء قادر على القيام بعمليات حسابية جد معقدة، ويبدو ذلك من خلال مخيلته الزخمة التي دفعته إلى اختراع آلية العد ذي الجذر 12 وحتى 60 لكي ينتهي إلى الالتحاق بالنظام العشري ومن ثمة تسييد (من السيادة) النظام المزدوج في المعلوماتية
هناك أيضا الإنسان الكومبيوتر (Homo computator) الذي اخترع في بابل منذ ألفي سنة قبل الميلاد لأول مرة رقم الصفر، وهذا الصفر الذي لم يعتمد نهائيا في الهند إلا حوالي القرن الرابع للميلاد هو الوحيد الذي أتاح الفرصة للعد الموضعي، بمعنى أن رقم واحد مثلا ليس له نفس القيمة إلا حسب ما يحتله في صف الوحدات (الآحاد)، العشرات، إلى آخره. بدون هذا الذي يرمز إلى لا شيء، إلى الفراغ، إلى الغياب، إلى العدم. بدون هذا العد الموضعي لا يمكن لأي علم حساب فعال أن يصبح قابلا للإدراك والفهم.
يقول جورج إفراح متهكما: "هذا الصفر أعرفه جيدا ففي مادة الرياضيات بالكوليج كنت معتادا عليه، ربما لأن رقم صفر في اللاتينية ينطق سفرا (وهو لفظ قريب من إفراح) ".
والحقيقة أن لحظة التغير بالنسبة لهذا الباحث، ابن تاجر صغير من المغرب، والمولود عام 1947، حدثت عندما تمكن من الانتقال إلى السنة الثالثة، إذ في ذلك الحين أخذ يتلقى دروسا خصوصية في مادة الرياضيات من طرف أحد الطلبة، وهي أول إشراقة تحول لديه، ومن عدم الكفاءة إطلاقا في هذه المادة أضحى من الملازمين للمراتب الأولى، ثم وفق في إحراز الباكالوريا في الرياضيات بالذات، حيث دخل بعدها الجامعة واختار إثر ذلك مهنة التدريس.
وخمسة عشر عاما بعد الإعلان عن ضياعه في مادة الرياضيات انتقم بطريقته الخاصة من الأستاذ الذي حكم بفشله في المستقبل وذلك بتدريسه شخصيا. وعندما غدا جورج إفراح أستاذا واثقا من معارفه ومستواه العلمي أقام من ثمة بفرنسا، وهو حاليا يدرس في مدينة مونتيريو السويسرية، وفي هذا المكان حدثت سنة 1975 إشراقة ثانية.
يقول جورج إفراح: "سألني التلاميذ في أحد الأيام: أستاذ من أين جاءت الأرقام؟ وهو سؤال لم يسبق أن طرحته من قبل على نفسي وكانت إجابتي: لقد جاءت من ساحق الأزمنة". ومن ذلك الوقت أخذت أسئلة التلاميذ السويسريين تتعاقب وتتقاطع وتتكرر: "أستاذ، من الذي اخترع الصفر؟ كيف كان الرومان يعدون؟"
كانت إجابات جورج إفراح على مثل هذه الأسئلة مجملة، إجابات لا تستند إلى أسس علمية متينة وبراهين قوية. والحق أن العديد من المشتغلين في حقل التعليم كانوا سيكتفون ببعض البحوث السطحية للرد على مثل ذلك الفضول العلمي لدى التلاميذ (الخروج عن البرنامج الدراسي). لكن جورج إفراح لم يكن من طينة هؤلاء، فلقد كانت لتلك الأسئلة أبعد الأثر في نفسيته فها هو يقول:
"بداية من هذا الدرس الجميل جدا في التواضع وهو أن التلاميذ الأكثر فضولا من أستاذهم قد أفرطوا في حثي على دراسة تاريخ اختراع إنساني كبير".
لقد كانوا يتصورون أنهم يعرفون كل شيء. إنهم مخطئون. وباعتباره مولودا في ملتقى ثلاثة شعوب، ثلاث ثقافات، ثلاث حضارات، كان رد جورج إفراح قد أخذ عام 1975 شكل القطيعة؛ إذ غادر مهنة التدريس لا لكي يفر من الإحساس بالإهانة وعدم المعرفة، لكن بهدف الانطلاق بكل ما يملكه من وقت وبتأمين مادي معدوم في البحث عن "تاريخ الرقم".
سبعة وعشرون عاما بلا أطفال ولا امرأة. اكتفى بحاجات زهيدة. جورج إفراح بحماسته المتوقدة وطموحه الفذ انتقل إلى أميركا قصد توفير بعض المال عن طريق الاشتغال بأعمال بسيطة: غاسل الأواني في مطعم. حارس ليلي، إلى آخره. وكل هذا من أجل تكريس طاقته وصرف كل جهوده في سبيل اقتفاء آثار الأرقام وطرق العد والحساب. وأخيرا جاءه الحل عن طريق الحلم.
يقول جورج إفراح: "لم أكن أملك بطاقة زيارة أو وضع باحث. ورغم ذلك استطعت أن ألتقي بعلماء أجلاء، بعضهم يشتغل في المركز الوطني للبحوث العلمية (فرنسا)، وبعضهم متحصل على جائزة نوبل."
كان ذلك عائدا إلى الخوف من عدم قدرة جورج إفراح على السير وفق الخط الصحيح في بحثه؛ كون هذا الأخير يتكئ على عدة اختصاصات علمية، وقد كان أولئك الباحثون بمثابة الدليل الموجه والمرشد النبيه. ومن دور إلى آخر راح ينحت طريقه بتقمص دور الرياضي، المؤرخ، عالم السلالات، عالم أساطير، أركيولوجي (عالم آثار)، ناسخ، معلوماتي. كل هذا وسط غابة معرفية خصبة.
وخلال سيره ضمن هذا الدرب المعقد حاول أن يفك طلاسم نظام للعد فارسي قديم يعود إلى خمسة آلاف عام، وقد وقف عاجزا أمام ذلك عدد كبير من علماء الآثار. غير أن الحل جاءه عن طريق المنام.
وفي سنة 1981 قامت دار "روبير لافون" التي وضعت ثقة عمياء في جورج إفراح منذ البداية بنشر أول "الحصاد" من تاريخه حول الأرقام، وكان كتابا في حوالي 560 صفحة "فقط"، وقد كان هذا العمل يفتقد آنذاك إلى فصول بأكملها حول تاريخ الأعداد والحساب، وعلى نحو خاص المغامرة الكبرى للمعلوماتية التي تدون فتوحاتها من يوم لآخر، محدثة مع مرور الأيام انقلابات في عدة مجالات من النشاط الإنساني.
وقد تمسك جورج إفراح بالمغامرة الأخيرة لتكتمل أخيرا فصول الدراسة بجميع جوانبها المنقوصة، وهكذا مع مرور الوقت دخل قفص الزوجية، وصار له أطفال، كما غدا معلوماتيا يتلاعب بالواحد وبصفره الغالي، وهما الرقمان المستعملان في النظام المزدوج (le systhème binaire).
وبعد تسعة عشر عاما من الكد والعمل الحثيث والصارم بات تاريخ أرقامه شائعا ومعترفا به على الصعيد العالمي. أما مفخرته الكبرى فستظل مثلما يقول:
"إنني أملك اليوم منهجا خاصا في العمل بحيث على ضوئه أشعر بقدرتي في تطبيقه على أي مسألة رياضية مهما كانت طبيعتها".
تهانينا لهذا الرجل الطموح!
- غلاف كتاب عن تاريخ الأرقام
◄ رشيد فيلالي
▼ موضوعاتي