عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

الصفحة الأخيرة: عدلي الهواري

عرض كتاب ستون عاما من الخداع

للكاتب محمد دلبح


صدر في الآونة الأخيرة كتاب للصحفي الفلسطيني، محمد سعيد دلبح، يقدم فيه قراءة لمسيرة حركة التحرير الوطني الفلسطيني، فتح. يحدد دلبح في كتابه الضخم الصادر عن دار الفارابي اللبنانية (2019) ثلاثة أسباب، سأذكرها أدناه، لوصول حركة فتح ومعها الشعب الفلسطيني إلى مستنقع اتفاقية أوسلو وما نتج عنها من تصفية متواصلة للقضية الفلسطينية.

تبلور كيان حركة فتح في عام 1959، وبدأت تنفيذ عمليات عسكرية في عام 1965، وتحتفل الحركة مطلع كل عام بالذكرى السنوية لانطلاقتها. بعد هزيمة الجيوش العربية في حرب عام 1967، حدث ما يمكن اعتباره انطلاقة ثانية تمثلت في وجود منظمات مقاومة في الأردن.

حظيت فتح بتأييد شعبي كبير بعد وقوع معركة الكرامة في آذار 1968، فخلافا للمتوقع من حركات المقاومة المعتمدة على الكر والفر، كان قرار فتح التصدي للقوات الإسرائيلية الآتية للقضاء على المقاومة الناشئة.

تصدى الجيش الأردني والفدائيون من حركة فتح وقوات التحرير الشعبية للقوات الإسرائيلية، وهزمت هذه في المعركة، وتركت في الكرامة دبابات عرضت في ساحة أمانة العاصمة في عمّان.

انتشرت شعبية فتح بعد هذه المعركة كانتشار النار في الهشيم. وبفضل هذا التأييد الشعبي تحولت إلى أكبر منظمات المقاومة الفلسطينية، وبالتالي القائد الأول للنضال الفلسطيني. وكان عرفات أحد قادة فتح، ولكنه تحول تدريجيا إلى القائد الأبرز للشعب الفلسطيني، معتمدا في ذلك على كون فتح المنظمة الأكبر، وعلى الجمع بين قيادة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية (م ت ف).

تولى عرفات قيادة م ت ف في عام 1969، وظل رئيسها حتى وفاته في عام 2004. وكان عدد المنظمات الممثلة في المجلس الوطني الفلسطيني واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ثماني منظمات. ولكن احتفظ كل فصيل باستقلاله التنظيمي، وكانت له برامجه السياسية.

ورد في أدبيات فتح أنها تهدف إلى تحرير فلسطين كلها، من النهر إلى البحر، بالاعتماد على الكفاح المسلح. وكانت ترفض كل "الحلول السلمية" التي تطرح لحل القضية الفلسطينية، بما في ذلك قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242، الذي صدر بعد حرب 1967، وقبلته الدول العربية كأساس لإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الحرب، أي استعادة الأردن للضفة الغربية، ومصر لسيناء وقطاع غزة، وسورية لمرتفعات الجولان.

دعونا نقفز إلى 1993، العام الذي تم فيه تتويج مفاوضات سرية كانت تجري في أوسلو بين م ت ف وإسرائيل بالتوصل إلى اتفاقية اعترفت م ت ف بموجبها بإسرائيل، ووافقت على حكم ذاتي فلسطيني لمدة خمس سنوات، يتم بعدها الاتفاق على الوضع النهائي للضفة الغربية وقطاع غزة، وهما قطعتان من فلسطين التاريخية بقيتا في الأيدي العربية بعد حرب عام 1948، قبل أن تحتلهما إسرائيل في عام 1967.

هذا التحول من حركة مقاومة هدفت إلى تحرير كامل فلسطين إلى حركة قبلت حكما ذاتيا محدودا على جزء صغير من فلسطين يدعو بإلحاح إلى التنقيب عن أسبابه، ولا أقصد هنا أسبابا تبرره، بل تحاول أن تفسر كيف لحركة ثورية أعلنت إنها تريد القضاء على عدوها أن تتحول إلى حركة متعاونة معه، وتقبل في عام 1993 ما كان عرض أكثر من مرة في مبادرات "سلمية" مختلفة، من بينها مبادرة ريغان التي أطلقت بالتزامن مع خروج م ت ف من بيروت عام 1982.

بخلاف التحليلات التي تعود إلى مرحلة معينة، أو حدث محدد، كحرب عام 1973، التي ظهرت بعدها مؤشرات على أن تسوية سلمية سوف تحدث، وبالتالي سيحدث انسحاب من الضفة الغربية وغزة، يعود دلبح إلى مرحلة تأسيس فتح ويرى أن العلة كانت موجودة منذ ذلك الحين. ويحدد ثلاثة أسباب لذلك.

(1) أن فتح تأسـست تلبية لرغبة أصحاب رأس المال الفلسطينيين في دول عربية مختلفة ليكون لهم أرض تعطيهم حرية لم تعد متوفرة لرؤوس أموالهم حيث كانوا يقيمون ويشغلون أموالهم بعد نكبة 1948.

(2) أن مؤسسي حركة فتح من المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين، وهذه حركة يمينية، وكانت على خلاف مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر.

(3) شخصية ياسر عرفات، المهتم بنفسه وبأن يكون زعيما أكثر من اهتمامه بأي شيء آخر.

بالنسبة للسبب الأول له دور، ولكن تأثيره كان بعد نجاح حركة المقاومة في ترسيخ حضورها فلسطينيا وعربيا، وبعد كثرة الحديث عن احتمالات التوصل إلى تسوية. والبرجوازيون لم يكونوا الوحيدين الذي شجعوا عرفات على السير على طريق التسوية، فبعض المثقفين الفلسطينيين في الولايات المتحدة كان لهم دور أيضا في تزيين العلاقة مع الولايات المتحدة، ومحاولة ممارسة اللوبي فيها كما يفعل الصهاينة.

السبب الثاني الذي ذكره المؤلف مجاف للواقع وانتقائي. فتح لم تكن حركة أسستها جماعة الإخوان المسلمين، بل كانت مشاركة بعض المنتمين للجماعة في تأسيس فتح نتيجة امتعاض من تردد الجماعة إزاء تأسيس حركة مقاومة. ويرى المؤلف أن وجود القوميين واليساريين في فتح كان بلا تأثير:

"وقد استغل التيار اليميني المهيمن على الحركة قيادة الحركة وهم من أصول فكرية إخوانية انضمام نخب من مواقع أيديلوجية قومية ويسارية كديكور تجميلي للحركة دون أن يحمل ذلك أي تغيير جوهري في توجهات الحركة ومسارها وهو ما ثبت لاحقا" (ص 53).

في الواقع أنه ما كان لهؤلاء أن ينضموا إلى فتح لو كانت حركة تابعة فكريا أو تنظيميا للإخوان المسلمين. وانضمامهم كان نابعا من قناعتهم بأنها حركة لا تهتم بالخلفية الأيديلوجية لمن يريد الانضمام إليها إذا كان متفقا مع أهدافها.

وبالنسبة إلى السبب الثاني أيضا، فقد طبّقه المؤلف بانتقائية، لأنه يغض الطرف عن أن فصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى، اليسارية منها خاصة، لم تكن بعيدة كثيرا عن خطوات عرفات، بما في ذلك الفصيلان الماركسيان، أي الجبهتان الشعبية والديمقراطية، فرغم كثرة وشدة انتقاداتهما لعرفات، إلا أنهما ظلتا معه، حتى بعد توقيع اتفاقية أوسلو.

وللتأكيد على محتوى الفقرة السابقة، ما على الإنسان إلا أن يعود بالذاكرة إلى عام 1983 عندما جرت محاولة لإعادة فتح إلى مسار المقاومة (ما سمي انتفاضة وانشقاقا). هذه المحاولة لم تحظ بتأييد الجبهتين الشعبية والديمقراطية، وتفاوضت الجبهتان مع أبو جهاد، الرجل الثاني في فتح، وتوصلتا معه إلى اتفاق في عدن، الذي ظل حبرا على ورق.

محمد دلبحاتفق مع المؤلف إلى حد كبير بالنسبة إلى السبب الثالث، ولكن ليس ضمن السياق الزمني الذي اختاره، أي لم يبدأ من عام 1959. في رأيي أنه من الخطأ التعامل مع الستين عاما كفترة زمنية واحدة متجانسة، دون أن يؤخذ في الاعتبار ما شهدته من تطورات كالخروج من الأردن وحرب 1973 على سبيل المثال لا الحصر. وفي عام 1982، حصل الغزو الإسرائيلي للبنان، وخضعت بيروت لحصار شديد استمر ثلاثة أشهر أدى إلى خروج م ت ف من بيروت.

وبالإضافة إلى الصدامات المسلحة والحروب، لم تكن العلاقة الفلسطينية مع الدول العربية سمنا على عسل. كل هذه التطورات أحداث مهمة لا يمكن استبعادها وتبعاتها من التحليل والتقييم لمسيرة فتح أو غيرها من فصائل المقاومة.

تزيد نسبة الاتفاق مع المؤلف إذا كان منطلق التقييم عام 1982، فعرفات كان يجب أن يتنحى بعد الخروج من بيروت، ومعه باقي قادة الفصائل. انتهت مرحلة م ت ف وفصائلها في ذلك العام. هؤلاء القادة، وعلى رأسهم عرفات، أخفقوا في الأردن، وحصلوا على فرصة ثانية، ولكنهم أخفقوا أيضا في لبنان. هذا يستدعي تغييرا جذريا في متولي القيادة وأساليب النضال.

هناك مسائل تفصيلية عديدة في الكتاب أتفق مع المؤلف في بعضها وأختلف معه في أخرى. من الأمثلة التي لا أتفق معه في طريقة طرحها: الحرب الأهلية في لبنان ومشاركة المقاومة الفلسطينية فيها. كل فترة وجود المقاومة في لبنان لم يناقشها المؤلف بالتوسع الذي ناقش فيه فترة وجودها في الأردن.

بعض القضايا الكبرى والمعقدة مثل القضية الفلسطينية وموضوع الكتاب سوف تتعدد الآراء والتحليلات بشأنها، ولذا لا غرابة في أن تتفق بعض الآراء مع المؤلف كليا أو جزئيا. والاتفاق في الرأي أيضا ليس مطلوبا، فهذه قضايا فكرية، وتنوع الآراء يثري الفكر. والاختلاف في الرأي مع المؤلف لا ينتقص من أهمية الكتاب. المطلوب في رأيي الحديث عن هذه القضايا المهمة وإخضاعها للتحليل والنقاش. وقد قام المؤلف بذلك وبذل مجهودا كبيرا من أجل ذلك.

= = =

JPEG - 36.7 كيليبايت
غلاف كتاب محمد دلبح

دلبح، محمد. 2019. ستون عاما من الخداع: حركة فتح من مشروع الزعيم إلى مشروع التصفية. بيروت: دار الفارابي.

D 1 كانون الأول (ديسمبر) 2019     A عدلي الهواري: بحوث ومقالات وقصص     C 0 تعليقات