عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

زكي شيرخان - السويد

مسرحية


زكي شيرخانعلى الكرسي الهزاز وأمام الموقد جلس مسترخيا يراقب ألسنة اللهب تتصاعد من الخشب المحترق متمتعا بألوانها الصفراء والبرتقالية والحمراء. بين الفينة والأخرى يطعمها بقطعة أو اثنتين كلما خبت النار بعد أن يقلّب الجمر بسيخ طويل نافضا الرماد. يتناول الدفتر والقلم إلى جانبه على منضدة يسجل بعض الجمل التي ستكون عونا في كتابة ما يدور برأسه المتخم بأفكار تظل تتعبه إلى أن تصبح موضوعا متكاملا.

الجلوس على الكرسي الهزاز مراقبا تحول الخشب للهب ورماد عادةٌ يمارسها منذ سنين لا يعرف كم عددها. هي أقرب ما تكون لطقس يمارسه في ليالي الشتاء الطويلة تعينه على الكتابة التي احترفها.

ليالٍ كان يقضيها صغيرا مع أخوته يحيطون بمنقلة الفحم مع جدته التي تروي لهم من القصص ما خزنته ذاكرتها. بعضها يتمتعون بوصف الحسن والجمال، بعضها يرتعبون من المردة والجان والشياطين، وأُخر يفخرون بشجاعة الأبطال المحاربين. كلما أحسوا بقشعريرة قرّبوا أيديهم من جمرات الفحم يستمدون الدفء. جدته كانت بارعة في قصّ الحكايات، تتفنن تغير نبرة صوتها لتلائم الحدث الذي ترويه. حركات يديها ورأسها ودموعها التي تنساب أحيانا تُشوّق الصاغين لها ولو كانوا كبارا. هي أستاذته التي علمته وحببت له السرد.

طويلة هي السنين التي مضت. هي ماتت، وجاء بعدها من جاء. تغير الزمن، ومع التغيير ماتت أيضا قيم ومُثل واعتبارات. تبدلت النفوس وكأن الوقت الماضي قد أخذ، أو كاد، كل شيء. هذه
سنن الأشياء، التغيير.

* * *

فوجئ بمن يقف خلفه ويوجه له الحديث. لم يره عندما دخل. لم يشعر به حتى، كأنه اخترق الجُدُر.

= إي يا عبّاس.

عبّاس! هذا أسم حتى هو لم يعد يتذكر متى تخلى عنه. لم يعد أحد يتذكره. كل الأوراق الرسمية تعرّفه على أنه يزن. يزن سعيد: الكاتب المسرحي الذي أثار جدلا كلما قُدمت له مسرحية. فقط الأجهزة الأمنية من أصرّت على اسم عباس سعيد مرزوق.

أراد أن يلتفت ليواجه محدثه وإن عرفه من نبرة صوته. أبى رأسه أن يطاوعه. حاول أن يرفع يده، فأبت هي الأخرى. كل جسمه تخشّب. صار جزءا من الكرسي. دبت القشعريرة في بدنه خوفا مما آل إليه وضعه. حاول أن يصرخ لكن حنجرته تخلت عنه.

= أعرف ماذا الذي تريد قوله. لا تجهد نفسك في رفع الصوت. حدّث نفسك. سأسمع ما تقول.
ما الذي جاء به؟ ولمَ؟

= أو ظننتم أنكم تخلصتم مني؟ صحيح أنكم سلبتم مني روحي، ولكن تأثيري ما زال راسخا في عقولكم، وها أنت ذا ارتعدت فرائصك عندما سمعت صوتي. تركت فيمن خلفني من رعاع البشر سنتي ونهجي وأسلوبي.

وكأنه وحاشيته كان من علية القوم وخيارهم.

= نعم، إن كان هذا يشفي حقدكم علي، فأنا كنت من الرعاع، وكل من أحاط بي اخترتهم من أسافل الناس. منحتهم ما لم يكن يخطر ببالهم، وسلّطتهم عليكم، ومكنتهم منكم، فخدموني، وأداموا حكمي عقودا طويلة.

غريب أمر هذا الكائن المسخ، وكأنه نسي أين عثروا عليه، وفي أي قعر وجدوه لابِدا، وأي قتلة قتلوه؟

= يا هذا، لم أنس. ما زلت في نظر كُثر بطلا صنديدا مقداما لم أهب الموت. ما زالت ذكراي يحتفل بها كل عام، وتُلقى الكلمات بأمجادي، وتذبح الأنعام على روحي. وهو لا يدري أنه يلعن يوميا من كل من ناله قسط من ظلمه.

= ألا يُلعن من تسلط عليكم بعدي يوميا وهو ما زال بين ظهرانيكم؟
حاول ثانية أن يحرك أي جزء من جسمه، لكنه فشل، فزاد خوفه. هل شُلتْ أعضاءه؟

= كغيرك، هاجمتني في الكثير من مسرحياتك، وانتقدت نظام حكمي. في نصك الذي لم تفرغ منه، تهاجم النظام الجديد.

ثمن كل مسرحية قُدمت، كانت عدة شهور من الاعتقال، والتنكيل، والتعذيب، وامتهان للكرامة.
ثواني صمت مضت قبل أن يكمل.

= أو تظن أن أي حاكم سيُكرّم معارضيه ومنتقديه والخارجين على نظامه؟ أذكر لي أسم حاكم واحد فعل ذلك على مدى التأريخ كله. لا تصدق ما سُطّر في كتب الأقدمين عن عدالة فلان، وتقوى علّان. غبي أنت إن صدقت أن أحدهم كان يغزو عاما ويحج عاما، وأن آخر كان في كل ليلة يأتي بمن يعظه ليبكي حتى يُغشى عليه. يا هذا، "التأريخ كذبة متفق عليها" كما يقول نابليون بونابرت. نحن الحكام نجزل العطاء لمن يُسطّر لنا المفاخر التي لم نمتلكها، وكلما زادت هباتنا كثر مُدّاحنا وعلت مكانتنا.

ثم، بما يشبه الاستهزاء.

= ثم الهاوية، والشتم واللعن.

أكمل قوله وبتفاخر سمج.

= لن يضيرنا بعد أن نكون قد رحلنا، وبعد أن تسدل الستارة عن فصل من الفصول المتتابعة للمسرحية التي لن يتوقف عرضها.

فجأة وجد نفسه عارٍ في مكان لا معالم له. كل ما حوله يغطيه الثلج. أحس بالبرد. ما زال الرجل يقف خلفه، وهو ما زال عاجزا لا يستطيع حراكا. أحس ألما بعد أن وضع الرجلُ عصا في مؤخرة رأسه. كان الألم يتزايد رويدا رويدا حتى لم يعد يحتمله. استجمع قوته وأطلق صرخة أنتفض من شدتها. النار خبت جذوتها. رأسه كان متكأ على الحافة الخشبية للمسند الخلفي للمعقد. امتزجت عنده رعشة الخوف والإحساس بالبرد. نهض متجها صوب غرفة النوم ليدس نفسه في السرير علّ جسده ينال شيئا من الدفء.

D 1 آذار (مارس) 2020     A زكي شيرخان     C 0 تعليقات