مرام أمان الله عايش - فلسطين
كورونا: بين وسواس الوقاية والرغبة في التمرد
عود الند: عدد خاص: كورونا: يوميات وتأملات
لم تكن أفلام الخيال العلمي التي لطالما ابتكرت أفكارا "شريرة" تودي بحياة البشر بطرق عدة تلفتني، كتلك التي تجعل من الأوبئة مثلا أسلحة بيولوجية ينشرها البشر المصابون وكأنهم "ناقلات عسكرية لجيش العدو".
لم تكن تلك الأفلام مفضلة لدي، لربما أنني لم أشعر قط بقربها من الواقع، فلم أكن أعرها بالا، ففكرة انهيار النظام الصحي العالمي بفعل وباء مستجد كانت تبدو فكرة خيالية بالنسبة إليّ، خاصة في عصرٍ تروج فيه وسائل الإعلام بشكل مستمر إلى مدى التطور العلمي "العصيّ على الهزيمة".
يولد الكثير من البشر في أنحاء العالم محرومين من حريات كثيرة ليس لسبب، بل فقط لأنهم ولدوا ضمن سياق سياسي، ثقافي، ديني، اقتصادي معين. وعليه يتم تصنيف البشر "بالميلاد" وليس بالاختيار. تصنيفات عدة تحدد بالتالي مدى الحريات والخيارات في الحياة لاحقا.
يتطور سلوك البشر ويتباين تبعا لكل ذلك. فنجدهم يختلفون بالقرارات، الاختيارات، ردود الأفعال. يختلف خوفهم ومستويات فقدانهم للأمان بناء على السياق الذي يعيشون فيه، والخبرات التي عايشوها.
مرجعياتهم ومصادر ثقتهم مختلفة، ففي الشرق إجمالا لا يثق البشر كثيرا بحكوماتهم، بينما يثق الغرب إجمالا بالنظام المسيّر لشؤون البلاد، وذلك كله له تجلياته على مجريات ما يعيشه العالم اليوم من تفشي وباء (Covid 19) الذي يسببه فايروس كورونا.
أنا لست بصدد التغلغل هنا في تفكيك المشهد من زوايا سياسية أو اقتصادية لأن ذلك له مختصين في تحليله، لكن أكثر ما يلفتني في هذا السياق هو اختلاف "أثر الخوف" على حياة البشر المختلفين في ظل التفشي السريع لفايروس كورونا حول العالم.
كثيرون أراهم يمارسون حياتهم وكأن هذا الوباء يوجد فقط في دور السينما من خلال أفلام لا تمت للواقع بصلة، يتصرفون كأنهم لم يعلموا بالأمر أصلا!
تفاجأت من شدة هدوئهم أو "برودهم" إن صح التعبير، وتساءلت كثيرا بالمقابل عن مدى "واقعية" خوفي أنا شخصيا من إمكانية الإصابة بهذا الفايروس اللعين الذي بتّ اشعر أنه يقترب من كل شيء حولي، على الرغم من أنه بات من المرجّح بناء على الدراسات والتوصيات أن هناك فئات أكثر عرضة للخطر من غيرها في حال الإصابة. ولكن، لا شيء مثبت ولا مضمون.
لا أنفكّ عن متابعة الأخبار، الأرقام والإحصائيات، الأقاويل، والمحتوى الموضوعي وغير الموضوعي المتعلق بهذا الوباء، لا أترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصيتها. لا أكترث بنظريات "المؤامرة" ولا يهمني فيما إذا كان هذا الفايروس قد تم تطويره مخبريا. كل ما يهم الآن هو "الأمان والنجاة".
خوفي يتأرجح بين صعودٍ ونزول، وجلدي كاد يتشقق من كثرة ما أستخدم من كحول.
عندما يتغلغل الخوف في النفس، تهرب الملذات. قد يكون هذا أكثر ما يعبر عني حاليا.
فإذا ما تسلل الخطر من اتجاهٍ واضح، فإن الهروب يكون بأي اتجاه يبعد عن مصدر ذلك الخطر. ولكن عندما يسكن الخوف الهواء الذي نتنفس، والأجسام التي تحيط بنا والأسطح التي نتعامل معها بشكل عفوي ومستمر، يصبح الملاذ مستحيلا.
ليس ما يؤرقني هو ما تسبب به هذا الوباء من تقييدٍ للحركة وشل الحياة فحسب، فهذا الصغير الخفي نجح بامتياز بتقييد العقل وشل التفكير. لقد هز بتفشيه السريع "الثقة" بمستويات واسعة.
الخوف من المجهول أشد فتكا من خطر واضح الملامح. ذلك يجعل الدماغ باحثا مستمرا عن "الهروب نحو الأمان"، فالعدو خفي، والتشكيك في كل ما حولنا يصبح وسيلتنا الوحيدة للدفاع.
الدماغ، "مطوّر الأفكار"، يصبح منحازا لفكرة الخوف، ويبدأ في تضخيمها أكثر، إلى حد أن تشعر أنّ يديك "مُدانتان" باستمرار، فحتى إذا لم تلمسا أيّ شيء حولك، لا تسقط تهمة "الاشتباه" عنهما.
تداهمك فكرة الابتعاد عن البشر بطريقة تشبه المبالغة في أفلام الخيال العلمي، تشعر كأنهم كائنات فضائية تشكل مصدر خطر مؤكد، حتى وإن كنا نعلم أن الاختلاط هو المسبب الرئيس في انتشار العدوى. لكنّ القصد هنا شعورك تجاه الآخر، هو شعور تسكنه الريبة والخوف، وكأنه أصبح عدوا أو وسيلة من وسائل العدو للإيقاع بك، فترى نفسك نائيا عن البشر، "فريسة" لغزيرة البقاء.
هذا الخوف الذي بات يحاصر الكثيرين حول العالم تطور إلى شك واشتباه بكل ما يحيطنا. وهذا الشك المستمر خلال عملية البحث عن العدو الخفي الذي قد يكون تسلل إليك بأي لحظة، يجعلك تقاوم على مدار الساعة، وتمارس أساليب دفاعية بشكل مستمر. سواء بعمليات التعقيم المستمرة أو الاغتسال.
في كل مرة أقوم فيها بغسل يديّ مثلا أقوم بعملية "تحقيقٍ مونولوجي" فيما إذا كانت درجة حرارة الماء مثلا كافية لقتله، وكمية الصابون كذلك، والوقت المستغرق لعملية الغسل، والتي تكافئ عملية "قتل دفاعا عن النفس". لا ضرر بعد ذلك من مسحة كحول زيادة في الأمان. ولكن، هل نجح هذا العدو الصغير في الفتك النفسي بالبشر أكثر من فتكه بهم على المستوى الجسدي؟
عدوٌّ لا يُرى، لكنه نجح بالوصول إلى كل مكان في هذا العالم تقريبا.
أتساءل أحيانا عما إذا كان هناك آخرون غيري حول العالم قد تعتريهم فكرة "التمرد" على هذا الهلع الذي خيّم علينا تدريجيا منذ قرابة الثلاثة أشهر، ثورةٌ على الخوف، تجعلني أفكر أحيانا برغبةٍ جامحةٍ في الخروج للبحث عن هذا "اللعين" ومواجهته!
نعم، أقصد الرغبة في الإصابة بالفايروس! فالمقاومة المستمرة لهذا المجهول، وعدم ضمان السلامة، والاشتباه في أي أعراض قد تكون شبيهة لأعراض الإصابة بهذا الفايروس، والانتظار القلق إلى حين التأكد بأن تلك الأعراض كانت عابرة وأنه لم ينجح بعد بالهجوم، كل ذلك يخلق عبئا نفسيا وفكريا شديدا يدفعني للتفكير في أنّ التقاط العدوى قد يكون أقل وطأة من الخوف والمقاومة والهروب لأجل غير مسمى!
لكن، وبما أنّ هذا الفايروس مستجد، وما زال قيد الدراسة، فانّ شدّة الإصابة وإمكانية التشافي لا زالت أمورا ضبابية وغير محسومة بعد.
سرعان ما تُجهض فكرة "الثورة" تلك، لأسقط من جديد في قبضة "التهديد".
لا أطمح اليوم إلى حرية السفر والتنقل بقدر ما أحلم بأن أتحرر من "خوفي" الذي يحبسني فيه، فقد حوّل "كابوس كورونا" كل شيء حولي إلى "متّهم مُدان، ولم تثبت براءته بعد"، حتى أنني عندما أخلد إلى نومي لا أنسى الاشتباه في وسادتي ومراجعة رحلتها اليومية للتحقق من مدى براءتها.
قد يكون الذعر أشدّ فتكا من الأوبئة!
- لافتة: عود الند عدد خاص كورونا
◄ مرام أمان الله
▼ موضوعاتي