زكي شيرخان - السويد
رسالة في زمن كورونا
عود الند: عدد خاص: كورونا: يوميات وتأملات
الاثنين، 20 نيسان 2020
والدي العزيز
آثرت أن أكتب لك رسالة لأنك من جيل ما زال خط اليد له قيمته عندهم. وأنا أكتب بنفس قلم الحبر الفضي الذي أهديتني إياه يوم التحقت بالجامعة، والذي ما زال بحالة جيدة. سؤال لم أوجهه لك يومها: "هل أهديتني إياه لأني أنهيت مرحلة دراسية وبدأتُ أخرى، أم لأنك اعتقدت أني أتقنت فنون الخط العربي الذي أجهدتَ نفسك في تعليمي إياها وأتعبتني؟"
فجأة خطر في بالي أن أكتب لك. لم أتردد. لن أقيّد قلمي في خط ما يعتمل في داخلي.
لم استوعب، وما زلتُ، إجباري على دراسة الطب حيث رغبتي كانت باتجاه آخر. لم أقتنع عندما قلتَ لي: "لا تفرط بالدرجات التي حصلت عليها وتؤهلك لدراسة الطب". رغم ما فرضته عليّ، وخلاف رغبتي، فقد أكملت دراستي بتفوق، وأكملت دراسة التخصص؛ وظللت لا أحب الطب رغم أداءي لواجباتي على أكمل وجه، لا بل وباعتراف كل المؤسسات التي عملت بها فقد كنت مُجيدا. اعتبرت الطب قدري الذي عليّ أن أتقبله.
بعد كل هذه السنوات العشرين، ولأول مرة، أجد نفسي محبا لمهنتي، وأود أن أقدّم لك شكري على إجباري. ربما تستغرب إن قلتُ لكأن الفضل في هذا الحب يعود لهذا الفايروس الذي نزل غضبا عاصفا على البشرية.
قبل شهرين قررتْ السلطات تحويل بعض المستشفيات، ومنها مستشفانا، إلى أماكن علاج للمصابين بهذا الوباء. طُلب منا الاستعداد لذلك.
رغم أني لم أتوان في تقديم العلاج لكل مريض خلال سنوات خدمتي، لكن في هذه الحالة قررت أن أستخدم طاقة كامنة لم أكن قد استخدمتها. طاقة البشر تتجاوز الحدود عندما تقترن بالشغف في تقديم المساعدة لمن لا حول لهم ولا قوة. المصابون بدأوا يصلون بعد أسبوعين.
رغم أن المئة عام الماضية قد شهدت سبعة أو ثمانية من الأوبئة التي اجتاحت مناطق مختلفة من العالم، وأودت بحياة عشرات الآلاف من البشر، إلا أنها لم تحجر على ثلث سكان الكرة الأرضية كما فعل هذا الوباء في يومنا هذا، ولم تنتشر بمثل هذه السرعة، ولم تُعرّ سوء أوضاع القطاع الصحي في كل البلدان، ولا الاستهتار بحياة البشر من قبل المنظومات الحاكمة ومن هم على رأسها فحسب، بل أظهر مدى الحضيض الأخلاقي الذي وصلت إليه المنظومة المالية المتحكمة في عبوديتنا.
الطبيب يواجه، أحيانا، حالات مرضى يموتون رغم وجود العلاجات الناجعة، وهذا أمر ليس بالغريب. لكننا أمام مرض لا نعرف عنه إلّا القليل، ليس له دواء، وليس بالإمكان التكهن بمصير المرضى: هل سيشفون أم ينتهي بهم الأمر للموت؟ أكثر ما يؤلمني هو نظرات المُصاب المصوبة نحوي. في عينيه سؤال "هل سأنجو؟" أدركتُ كم يخاف الناس الموت، لا بل يكرهونه. أكثر ما آلمني ذلك الرجل الثمانيني الذي أمسك بيدي وقال: "إن ستين عاما من العشرة تعني الكثير. وددتُ توديعها قبل رحيلي". لم تكن حالته بتلك السوء. لكنه رحل دون أن يودع رفيقة عمره. كيف عرف أن نهايته دنت؟
بعد هذه الأسابيع الستة بلغ بنا الجهد مبلغه، لكننا ما زلنا صامدين، كل يستمد العزم من زملاءه. الخطر محدق بكل الراقدين على الأسرّة، وبنا أيضا نحن من أطلقوا علينا تسمية "الجيش الأبيض"، المقاتلون في الخطوط المتقدمة. قبل يومين أحد العاملين معنا، وهو من أصول مكسيكية فاجأنا بقبعته الواسعة، وقيثارته، وراح يطوف الردهات وهو يعزف ويغني أغنية لا يفهم كلماتها إلا هو. علت الابتسامة وجوه الكل. راح البعض يصفق، وآخرون بدأوا الرقص. خوان، وهذا هو اسمه، استطاع أن ينشر الحبور في نفوس الجميع. كنا بحاجة لهذه المبادرة. وعَدَنا بالتكرار كل يوم. سألته عن معنى كلمات الأغنية.
= "هي أغنية مكسيكية قديمة، لا أحد يعرف كاتب كلماتها، ولا ملحنها. هي تصف الموت. فالموت يأتي بوجه عابس، وعيون حمراء مفتوحة على وسعها ليدخل الرعب في النفوس، ويزيد من ألم السكرات؛ وحتى نخفف من الوطأة علينا أن نغيظه بالغناء والضحك والمرح".
عند الغروب، وكل يوم تقريبا، أقف أمام أحد الشبابيك، أتطلع بالشمس وهي تغطس وراء الأفق. هذه الحُمرة تترك في نفسي أثرا مريحا. أشعر بالسعادة، والأمل في قدرتنا على التغلب على ما نحن فيه، ولكن متى؟ وكم سيكون عدد من سنفقدهم؟ وكيف سيكون الغد؟ المحللون وذو الخبرة وحتى النُّطُعُ يقولون إن ما بعد هذه الكارثة لن يشبه ما قبلها. نظام عالمي جديد يكسر الهيمنة الأحادية؛ المزيد من العدالة الاجتماعية؛ إعادة النظر بالأسس الإيديولوجية للأنظمة السائدة؛ انهيار اقتصادي؛ فوضى عارمة؛ حرب عالمية لا تبقي ولا تذر. أكلّ هذا سيتحقق؟ من يجزم؟
هناك الكثير مما يقال وسيقال.
سأنهي. عليّ أن آخذ قسطا من الراحة قبل عودتي لواجبي. تحياتي، ولك دعائي بالسلامة.
- لافتة: عود الند عدد خاص كورونا
◄ زكي شيرخان
▼ موضوعاتي
- ● وماذا بعد؟
- ● خرابيشُ خطّ
- ● تاريخ
- ● عَجزٌ
- ● هَيْلَمان
- ● عُقوق
- ● إحباط
- [...]