عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

مختارات: على ضفاف الضوء - وهيبة قوية

ليلة العيد


أدناه مقتطف من كتاب صدر في الآونة الأخيرة للكاتبة التونسية وهيبة قوية.

.

وهيبة قويةكنت، إلى عيد غير بعيد، أظنّ أنّ فرحة العيد يعيشها الأطفال أكثر، لأنّني منذ كبرت لم أعد أرى ضرورة لشراء ملابس عيد أو حذاء جديدا للمناسبة. كما أنّه لا داعي للتفكير بـ «مهبة العيد»[1].

لم يكن يعنيني من أمر العيد كلّ هذه المظاهر، وظننت أنّ العيد فرصة للصّغار فقط للباس الجديد واللّعب والاحتفال. وأمّا الكبار مثلي فيكفيهم أن يستشعروا عظمة الله في زرع الفرحة بالعيد في القلوب المؤمنة الّتي استجابت لأمره بالطّاعة، وأن يلامسوا ملامح السّعادة على وجوه الأطفال من حولهم وهو يتمتّعون بمباهج العيد.

اللّيلة وجدتُ الأمر مختلفا، وعرفت أنّ العيد يأتي للكبار وللصّغار معا. وأقصد لذّة اللّعب واللّبس والتّمتّع بالحلوى وغيرها من الأشياء الجميلة البسيطة الّتي تُفرح قلوبنا عندما نرى الأطفال يتمتّعون بها.
استشعرت هذه الفرحة اللّيلة من حادثة بسيطة عادت بي إلى زمن الطّفولة وفرحة العيد السّابقة. وأعادني إلى الطفولة صوت طبل ليلة العيد، فقد زار حيّنا اللّيلة «بوطبيلة»[2].

استغرب أطفالي مجيئه في غير موعده ورفضوا الخروج إليه كما تعوّدوا في اللّيالي السّابقة. قالوا: «غدا العيد، فلِمَ يأتينا اللّيلة؟ هل سنتسحّر منذ الآن؟»

أطفالي لا يعرفون مثل هذه العادة الجميلة الّتي يتمّ فيها إعلان العيد في بعض المدن والقرى الّتي ليس لها مدفع لإعلان رمضان أو الإفطار كلّ ليلة أو لإعلان العيد، فمنذ سنوات غابت هذه العادة لتعود إلينا اللّيلة. ودفعني الفضول إلى الخروج.

«بوطبيلة» بطبله يقرعه بفرح ويردّد أغنية تعلن نهاية رمضان ويبشّر بهلال العيد، وحوله مجموعة من الأطفال خرجوا يعلنون الفرح في كلّ «الحومة»[3] والأماكن القريبة منها.

كثير من الجيران خرجوا مثلي، وبعضهم هنّأ «بوطبيلة» وقدّم له «مهبة العيد». كان غناؤه يملأ الفضاء، وتأسّفت أنّني لا أعرف الكلمات، بل لم أحفظها يوما. هي أغنية مختلفة عن أغنية السّحور. أغنية السّحور أيضا لم أكن أحفظها ولم أفكّر يوما في حفظها.

[...]

وأعلن «بوطبيلة» العيد وطاف بالشارع. وقدّم له أهل الحيّ ما استطاعوه من «مهبة»، و«كلّ شيء بالبركة»، وانطلقت التّهاني «سنين دايمة»، «سعدك يا صايم سيدي رمضان»، «ربّي يحييك لأمثاله».

امتلأ الشّارع فَرَحا، ونام الأطفال مطمئنّين أنّهم سيُفيقون للعيد وأنّ ثيابهم الجديدة وأحذيتهم في انتظار فرحتهم. ناموا وهم يعدّون الأيّام الّتي صاموها. مؤمنين أنّ امتحان الصّيام كان رائعا. وأنّ هذه التّجربة ستمكّنهم من طاعة الله بأداء فرض الصّيام في السّنوات القادمة.

أمّا أنا فلم أنم، تلك الطّفلة السّاكنة فيّ تريد أن تستمتع بكلّ تفاصيل اللّيلة تنتظر الفجر وترهف سمعها حتّى لا تفوتها تكبيرات العيد تنبعث من المسجد. وتغمض عينيها لترى صورتها في ثياب العيد الجديدة. تنتظر دخول والدها من صلاة العيد بجبّته وعطر العيد يفوح منه لتكون أوّل من تقبّله.

رحمك الله أبي، أنت منقوش في القلب، لن تكون عندي ذكرى جميلة فحسب، لأنّك أنت مصدر الجمال في نفسي وتعيش معي لا تفارقني.

أبي، كنت أرى فرحة العيد في كلّ تفاصيل وجهك وفي ابتسامتك وفي صوتك وفي كلّ حركة تصدرها وفي كلّ السّكون الّذي يحيط بك.

كان عليّ ألّا أسأل أبدا عمّن يعيش فرحة العيد أكثر، الأطفال أم الكبار؟ كنتَ تَفرح في العيد وتُفرحنا معك، وكنت تأتينا بالعيد حتّى في غير أوانه ومن غير طبل نسمعه في هدأة ليالي رمضان، أو ليلة العيد. كنتَ عيدي أبي.

= = =

[1] المِهبة: العيديّة

[2] بوطبيلة: المسحّراتي

[3] الحومة: الحارة أو الحيّ العتيق

JPEG - 32.6 كيليبايت
كتاب وهيبة قوية: على ضفاء الضوء
D 1 حزيران (يونيو) 2020     A عود الند: مختارات     C 1 تعليقات

1 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

المجلات الثقافية الرقمية

كلمة العدد الفصلي 17: ويكيبيديا مصدر غير مناسب للبحوث الجيدة

عتباتُ النَّصِ في رواية تُرْجُمان الملك لعمر فضل الله

خطاب الإغراء وصناعة الوهم في الإعلام السمعي البصري

قراءة في كتاب "خربصات في أدب الرّحلة"