محسن الغالبي - السويد
ما حدث معي هذا الصباح
كنت أجلس في سيارتي الصفراء فاقعة اللون، رفيقتي في السفر. ألقيت عليها تحية الصباح فأخذتني كالعادة بأحضانها.
هذا كل ما حدث معي هذا الصباح. لا شيء آخر، على الإطلاق، لا شيء.
ما حدث لم يكن ليحدث في كل الصباحات. تلك الصباحات المتكررة التي تشابهت فيما بينها كأغنية مقرفة أدمنها الآخرون تعود إليك لتنسف منك مزاجك الصباحي وكأنها طقس إلهي ممل. تلك الصباحات التي تبدأ بنباح كلبة جارتي وتنتهي بفنجان قهوة أدمنت عليه مختارا بغير اختيار.
أدرت مفتاح سيارتي وانطلقت على الطريق الريفي المتموج مثل أفعى، يذكرني أحيانا بانحناءات جسدها البض فيمنحني طاقة لا تضاهى. ضغطت بشدة على دوّاسة السرعة رغم علمي بأن الطريق زلق. هكذا يفعل الحب بأهله. تبسمت في سري. لم يكن حبا. كان نوعا من جنون ما. خرجت السيارة عن مسارها ثم عادت ثم خرجت. قابلتني حافلة المدرسة ككل صباح. لم أستطع تفاديها. احتك بدني ببدنها فتطايرت مرآة سيارتي شظايا في ظلمة الصباح.
هذا ما حدث معي هذا الصباح.
تابعت الطريق وكأن شيئا لم يحدث. ضغطت على دوّاسة السرعة ما استطعت لذلك سبيلا. اندفعت بقوة. شعرت بصدرها ينتفض. كرهت أنها تسير ولا تحلق. لكنها في هذا الصباح أبدت رغبة جامحة في الطيران. أحسست وكأنها تطفو على الطريق. هكذا يفعل الحب بأهله.
كانت تلتهم الطريق التهاما وكانت الغابات تدلف داخلها. كانت عالمي كله، أو هكذا أصبحت. تابعت الطيران. كنت أدرك أن وقت العمل قد حان. لكن ما من رغبة لذلك. رغبة أخرى تسلطت عليّ، على كل وجودي. رغبة لم أدرك ما هي حينها. رغبة فوق كل الرغبات. توق لا يقاوم، إلى عشق لا يقبل التفسير. عشق بقدر قدرته على منحي قدرة التحليق، كان يملك قدرة التحطيم. تحطيمي ربما، أو ربما تحطيم كل ما يحيط بي.
هكذا يحطم الحب أهله.
ما زالت قدمي ماضية في ضغط دوّاسة السرعة التي بدت تزداد بجنون مفرط. حينما بدأ المطر بالانهمار. كنت أرى خيوط الماء تنساب نحو الأعلى بفعل السرعة. بدا كل شيء أمامي يسبح في ضباب. والمطر في ازدياد. ولكن لا صوت للمطر في هذا الصباح.
شيء من الحرقة في مقلتي أعلمني أن المطر كان داخلهما. لا شيء في الخارج سوى الخواء.
حاولت أن أمسح آثار أمطاري بكمي. كانت أغزر من أن تجف بكم. ربما كنت احتاج إلى ذراعها وكمها. من هي؟ لم تكن معي. تماما ككل صباح.
هذا ما حدث معي هذا الصباح. لم يكن هناك أحد معي كي يوثق ما حدث. كل شيء حدث بسرعة مذهلة. سرعة كانت كافية لاستعراض شريط حياتي المليء بالإحباطات العذبة، تماما كما يحدث في الرؤيا، ثواني تكفي لاستعراض حياة بأكملها.
هذا ما حدث معي. بدت السيارة وكأنها تنحرف نحو اليمين، ربما كنت أنا من أنحرف بها دونما وعي مني أو رغبة. ربما هو هوس الانحراف ورغبة الانجراف وتعمد الخروج ومقت الإسراع على خط الطريق واتباع صراط مستقيم. هذه الرغبات التي لازمتني مثل جنون مزمن لا شفاء منه. وكنت أعي دونما وعي أن لحظة الانحراف ما زالت مبكرة فمن العبث الخروج الآن حيث الحقول الخضراء تحتضن الجانبين. لم يحن بعد موسم خروج الفراشات إلى هذه الحقول، ولا سياحة النحل فالحقول خضراء مكفهرة تخلو من الورود. خضراء داكن لونها تغم الناظرين ترهقها انعكاسات حبات المطر المتجمع فوقها.
لم يحن وقت الانحراف الأعظم بعد.
ما زال أمامي ألف متر وثلاثون ثانية كي أبلغ الجسر المحلق فوق خط المرور السريع.
طالما شدت انتباهي الجسور. ما الذي يدفعنا إلى إنشائها؟ أهو الحاجة إلى تقطيعها حين يشتد بنا الغضب؟ هناك الكثير من الأمور نصنعها ليس رغبة في الإبقاء عليها ولكن كي نحطمها حين تطغى رغبة التحطيم رغم حاجتنا إليها.
هكذا تفعل الجسور بعالمها. فبقدر ما هي أواصر للتواصل فإنها تحطم أجمل خصال هذه الحياة. العزلة.
هذا ما حدث معي هذا الصباح، حين اكتشفت أن للجسور وظيفة أخرى، هي التحليق من عليها.
ها أنا أقترب من الجسر بشدة، أقبّل أوله، أدخل فيه، أخترق أحشائه، أتوحد فيه. لابد لي من أن أجمع كل قواي الآن وكل النوايا، لا مكان للتردد. كل قواي أحتاجها الآن كي أحلق عاليا ما استطعت. إن هي إلا استدارة واحدة كلمح بالبصر كي أجد هذا الجسد المتثاقل محلقا حيث الخفة واللامكان. هكذا يفعل الشوق باهله.
حلقت حمامتي الصفراء مخترقة أحشاء الجسر إلى خارجه. كان الفضاء رحبا رهيبا بجمال لا يطاق. رفعت يدي عن المقود فقد فعلت ْ ما عليها وأدارته حيث ينبغي له. كان كل ما حولي أزرق مشوبا بحمرة. أهو البنفسجي؟ أكثر الألوان صوفية وعشقا يحمل في داخله أشدها دموية وعنفا. أي تناقض هذا؟ شعرت لحظتها بلذة العتق والانعتاق، وأدركت لحظتها أن الفِناء انتصار حين لا يبقى للبقاء مقاما.
كان كل شيء مهشما محطما وجميلا بشكل لا يوصف، فوضويا بنظام رائع لا نظام فيه، وحرا. انتبهت إلى أن بعض عظامي قد غادرتني إلى أماكن متفرقة، وشيء ما يخترق قلبي وينفذ منه. ما زال ينبض، أو هكذا رأيته وأحسست به، لكني سمعت أحدهم يقول ببعض الأسى: "قلبه توقف. لا أمل في إنقاذه". كدت أضحك مما سمعت ولكن، له ما يرى، ولي ما أرى.
رأيتهم يحملوني كالموتى، أو هكذا خُيّل لي، وما زلت لا أجد تفسيرا مقنعا لما فعلوا. فما حدث معي هذا الصباح كان يحدث لي كل صباح. فما الذي جعلهم يحملون الأمر على محمل آخر هذا الصباح؟
هذا الأخير هو ما حدث معي هذا الصباح.