مختارات: مذكرات ضافي الجمعاني
من الحزب إلى السجن: 1948-1994
تخرجتُ من مدرسة المطران عام 1947 بعد أن أمضيت سبعة أعوام في القسم الداخلي، كانت من أسعد الفترات في حياتي. وكان في ذلك العام (قحط) هلك فيه الزرع والضرع.
وحضر عمّي حفل التخرج الذي كان ضيف الشرف فيه الأمير طلال ولي العهد، وخطيب الحفل الأديب اللبناني البارز الأستاذ ميخائيل نعيمه. وبعد أن انتهى الحفل وخرجت مع عمّي إلى ساحة المدرسة ممسكا بيده، قال رحمه الله قولا لا أنساه ما حييت. قال: "والله يا ولد أخوي ما أنا متأسف على الزرع والضرع الذي هلك، إلا لأنني لم أضع لك ألف دينار في البنك لأرسلك إلى الجامعة".
وكان ما قاله لي يساوي ذهابي إلى الجامعة وتخرجي منها، فلم أنس هذا الموقف أبدا.
في مواجهة الحياة
وهكذا وُضعت في مواجهة الحياة ولم أكن مستعدا لها الاستعداد الكافي. كان من الصعب إيجاد عمل في الحكومة في ذلك الحين (تماما كما هو الحال في هذه الأيام). ومع ذلك فقد حاول عمّي إرسالي إلى الجامعة عن طريق البعثات التي ترسلها وزارة التربية والتعليم، فقابل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، وكان وزيرا للمعارف في حينه، فسأله الشنقيطي: "ومن أي مدرسة تخرج؟" فأجابه عمي: "من مدرسة المطران"، فقال الشنقيطي: "أف! ما وضعته إلا في مدرسة الكفر هذه".
وفي اليوم التالي قابل عمّي الأمير عبد الله وطلب منه أن يرسلني في بعثة على حساب وزارة المعارف، فقال الأمير عبد الله لعمّي: "يا سليمان ما تخليه يسرح بمعيزاه" أي يرعى الغنم. فرد عليه عمي قائلا: "يا سيدنا إحنا ناقصنا رعيان؟" فقال الأمير لعمي: "أنا أستطيع أن أرسله إلى الكلية العسكرية في بغداد"، فأبلغني عمّي ذلك فأجبته: "أنا أكره العسكرية، ولو كان لدي رغبة بذلك لدخلت سلك الجيش قبل أن أنهي الثانوية".
الوظيفة المؤقتة
نتيجة للقحط في عام 1947 أوجدت الدولة مراكز لبيع الحبوب في المناطق التي أصابها الجفاف، فعملت في مركز مأدبا لمدة أربعة أشهر، انتهى بعدها هذا العمل. ثم ذهبت إلى عمان أبحث عن عمل. راجعت جميع دوائر الدولة، ولكني لم أوفق. فاضطررت أن أراجع قيادة الجيش من أجل عمل مؤقت. وكنت لا أزال مصرا على الدراسة الجامعية. ولست أدري لماذا سيطر هذا الأمر على ذهني، والأرجح أن الحياة في مدرسة المطران استهوتني، فرغبت أن أستمر هكذا أطول مدة ممكنة دون وعي.
عينتني قيادة الجيش معلما مدنيا في مدرسة ضابط الصف في معسكر العبدلي برتبة "عريف" وحددوا لي علاوة معلم خمسة دنانير، وهذا مبلغ جيد في ذلك الحين. لم أبق في هذا العمل سوى شهرين، ثم غادرت المكان غير نادم على تركه دون أن أبلغ المسؤولين. وذهبت إلى أهلي في مأدبا وطلبت من عمي أن يقابل "كلوب باشا" ليسلّمني وظيفة مؤقتة في الجيش غير هذه الوظيفة، فاصطحبني إلى القيادة العامة للجيش في عمّان، وفي القيادة طلب مقابلة "كلوب"، فأذن له بعد فترة قصيرة ودخلت معه، فدخلنا معا إلى مكتب "الباشا"، فاستقبل عمي استقبالا حسنا، قائلا له:
"إننا لم نرك منذ مدة يا سليمان".
فرد عمي قائلا: "والله يا باشا أنت شايف السنين امحول، واللي يشوفني على باب القيادة ايقول الجمعاني جاي يتشحد".
فرد كلوب: "لا عيّ الله يا سليمان. إحنا كل واحد له إضبارة. ويشن تبيه؟" (أي ماذا تريد؟)
فرد عمي قائلا: "والله أنا جاي من أجل ضافي، فقد أنهى دراسته الثانوية، وكنت أنوي إرساله إلى الجامعة إلا أن السنة ما ساعدتنا". (يريد عملا يستطيع إذا ما ساعدتنا الظروف أن يخرج منه ويعاود دراسته).
عندها توجه الفريق كلوب بالسؤال إليّ: "ماذا تريد أن تدرس؟" فأجبته بما يتمناه كل طالب في ذلك الحين: "طب أو هندسة".
= = =
ضافي الجمعاني. مناضل أردني قومي. التحق بالجيش الأردني في عام، 1948. انتمى لحزب البعث، وكان عضوا في القيادة القومية للحزب. بعد حرب عام 1967 وظهور منظمات المقاومة الفلسطينية، قاد الجمعاني منظمة قوات الصاعقة (طلائع حرب التحرير الشعبية). سجن في سورية في عام 1971 بعد تغيير النظام فيها وتولي حافظ الأسد الرئاسة عام 1970، وأفرج عنه في عام 1994. انتقل إلى رحمته تعالى في عمّان يوم السبت، 4 نيسان (أبريل) 2020.
- غلاف كتاب الجمعاني
ضافي الجمعاني، من الحزب إلى السجن: 1948-1994 (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2007)، ص 16-18.
◄ عود الند: مختارات
▼ موضوعاتي