د. يوسف الزدكي - المغرب
خطاب الإغراء وصناعة الوهم في الإعلام السمعي البصري
من المعلوم أن الخطابة والجدل توأمان ولدا معا من رحم المنطق، ثم شبّا وترعرعا في كنفه. لذلك فهما ليسا مقصورين على علم خاص بعينه، كما أنهما لا يتناولان صنفا محددا من الموضوعات. وتنحصر الخطابة في البحث عن الوسائل الحقيقية والظاهرية للإقناع، كما يفضيان معا إلى نتيجة معينة يتوصل إليها عن طريق القياس، ومن ذلك قولنا: " أرسل فلان والدته إلى البقاع المقدسة، وتصدق بماله، وعفا عن إخوته المذنبين"، فاجتماع هذه القضايا الثلاث يزودنا بنتيجة محددة وهي خيرية الشخص المتحدث عنه، وبره بالأهل وبالناس.
وفي عصرنا الحاضر، انتقلت الخطابة من ميدان الأكورا حيث تدار المناقشات الجدلية بين الجموع الشعبية وفئة الخطباء في جو الديمقراطية اليونانية، ومناخ السياسة والحرب، لتقتحم ميدانا جديدا ومجالا واسعا هو مجال الإعلام السمعي البصري وتعانق عالم الأعمال والصفقات التجارية، وتشكل مقاسا جديدا يناسب متطلبات الوافد الجديد، ونعني به علم التسويق.
أضحى إعلامنا المرئي والمسموع أكثر الوسائل المروجة لخطاب جذاب في ظاهره، زائف في جوهره، إذ لم تعد ظاهرة المسابقات من اختصاص الشركات الكبرى، ذات الاستراتيجية التسويقية التواقة للربح، وغزو الأسواق، وتصريف المنتوج البائر، بل أضحت وسائل الإعلام طرفا حيويا في ترويج أسطورة الفوز والدخول في لعبة تجارية الفائز فيها معلوم ومحدد سلفا، مع نزوع إعلامي إلى تطوير أساليب الإغراء بصورة تمكنها من احتواء المتلقي على اختلاف مشاربه وميولاته، إلى درجة أننا صرنا نسمع عن جوائز مغرية جدا.
وبفعل ذيوع موجة جديدة في الخطاب الإعلامي المعاصر، تبدت لنا قرائن خطاب جدلي مغالط قائم على قياس ظاهري وإقناع مظنون وزائف يمجه العديد من الفلاسفة وعلى رأسهم ابن سينا لأنه يتنافى مع مبادئ القياس الحقيقي، ومن هنا نتساءل عن ماهية المغالطة وأبعاده داخل الخطاب الإعلامي من أجل إغراء جمهور المتلقين.
المغالطة مصطلح قديم يعود تاريخ نشأته إلى عهد السفسطائيين، ويعني في الاصطلاح "محاولة إيقاع التصديق الجزم المقارب لليقين فيه"[1]. وتقترن المغالطة في تعريف ابن سينا بالتبكيت والتضليل من جهة اللفظ والمعنى، وهي نوعان: الأولى: مغالطة في العلوم البرهانية، وهي أن تورد مقدمات على أنها صادقة ومناسبة، ولا تكون كذلك[2] ويسميها ابن سينا مغالطة سوفسطائية. الثانية مغالطة في العلوم الظنية المبنية على حجج الاعتقاد أو الرأي من قبيل الجدل والخطابة.
بَيِّنٌ جدا أن أدوات الإغراء (سيارة رباعية الدفع. شقة فاخرة.) تقتصر على فئة محددة سلفا، ولا وجه لأن تصبح هذه الأدوات ملكا مشاعا في متناول أي مشارك لمجرد المشاركة أو لمجرد الصدفة أو الحظ، لأن الهدف من العملية هو في حد ذاته تجاري محض، يتغيى تحقيق الربح بالدرجة الأولى.
ومن هنا نصبح إزاء سلوك خاضع للمحفز النفسي من أجل تحقيق الاستجابة المطلوبة، تماما كما تجارب بابلوف على الكلاب التي يسيل لعابها لمجرد أن تصفعها رائحة الطعام، لذلك يستجيب المشارك لخطاب الإغراء كحل تعويضي يتطلع من خلاله إلى استعادة توازنه النفسي والاجتماعي المفتقدين في واقع مرير وتتحول المشاركة في المسابقة إلى أوالية دفاعية لمواجهة عقدة النقص.
ويصبح المال قيمة رمزية ثاوية في لاشعور الإنسان المقهور، تثيرها الرسالة وتستفزها وتحرك رغبات الهوى، ويؤججها عامل التكرار للرسالة بمعدل قياسي يصل أحيانا إلى ثلاثين مرة في الساعة الواحدة (تكرار الرسالة كل دقيقتين) وفي أثناءها، تلتقط العين ويسجل الدماغ الصور ويحتفظ بجزء منها في اللاشعور.
وللتوضيح أكثر يقول مصطفى حجازي: "المال، ما له من قوة تأثير اجتماعية، يتخذ دلالة القوة القضيبية، والامتلاء على المستوى اللاواعي، امتلاء الجيب بالنقود يثير مشاعر الكبرياء الطفولي النابع من امتلاك الثدي المعطاء"[3].
يركز خطاب الإغراء في هذه الحالة على عامل القلق الطفولي اللاواعي الناتج عن ترسبات الماضي؛ الطفولي المرتبط بالأم الحنونة والأب الحامي لعرين الأسرة. وندرج مثالا لشركة تسويق وظفت في إحدى إعلاناتها التجارية صورة بطل من أبطال السينما، ويجسد البطل في لاوعي المرسل إليه "نمطا ارتداديا طفوليا في مواجهة واقعه من خلال الاتكال المتزايد على القوى الخارجية التي تعوض له واقعيا أو خياليا بعض ضعفه"[4].
ويترتب عن ذلك العديد من المغالطات التي يسقط ضحيتها المرسل إليه، ومن مظاهرها، حسب جماعة بور رويال، الاحتكام إلى الهوى، حيث أن الأحكام التي تصدر عن الذات المقهورة هي استجابة لنداء الشهوة والمصلحة الشخصية والميول العاطفية[5].
المظهر الثاني حسب نفس الجماعة تمكن روح المسالمة من النفس، ومن مظاهرها سوء النظر عند المرسل إليه، من خلال "المبالغة في التسليم بكيفية تختفي معها أية معارضة وأية مناقضة، بحيث لا يوجد من الناظر والمناظر إلا الاستحسان والقبول بما يقال ويدعى دون تجشم أي عناء في فحص المقال وتدبره والتفصيل فيه"[6].
الشقة أو السيارة هما مجرد علامة على مدلول ما وليسا دليلا عليه، ولذلك يحدث الخلط بين ما هو دليل، وما هو علامة فقط، إذ العلامة هنا دالة كما نعلم على الامتلاك أو الإعارة. من هذا المنحى، يرى أرسطو أن الغضب والحسد والرغبة والحب والكراهية هي مفاتيح الاستمالة عند المرسل.
وهذه المشاعر الإنسانية مرتبطة بالمتلقي للخطاب مما يجعل منطق المسابقة خاضعا إلى الأهواء الذاتية للمرسل إليه الذي بات أكثر تجذرا في عالم التخلف وأكثر عرضة للحرمان والإقصاء، مما يجعلنا إزاء عينة خاصة من الجمهور تتسم بقوة الانفعال وسرعة الاستجابة لخطاب الإغراء، مما يعني أن مبدأي الرغبة والدافع محددان أساسيان لسلوكها.
يقول مصطفى حجازي في هذا الصدد: "تدلنا علاقات التكاذب والتضليل على مدى الانهيار الذي ألم بقيمة الإنسان في العالم المتخلف حين يتحول إلى مضلل أو ضحية تضليل، فالآخر ليس مكافئا لنا، بل أداة نستغلها بمختلف الوسائل الممكنة، أداة لخداعنا"[7].
تستشعر هذه العينة من الجمهور عقدة النقص إزاء العروض التجارية المغرية، فهي فئة اتكالية ذات نظرة عدمية استسلامية تحاكي وضعية المقامر الوجودية المتأزمة وتتماهى معه سيكولوجيا، باعتبار أن المقامر هو الآخر يعيش حالة عجز إزاء الواقع والمجتمع والحياة.
ومن هنا يدخل خطاب "شَارِكْ وَفُزْ" في دائرة خطابة النوازع، حيث تتوزع الانفعالات بين إحساسات مصحوبة بلذة (الرغبة. الفرح. الاغتباط.) وإحساسات مصحوبة بألم (الغضب. الحقد. الخوف). كما يتجه الانفعال نحو أشخاص (أبطال مسلسلات. نجوم غناء. لاعبو الكرة) أو نحو أشياء نفيسة وجذابة (سيارة فاخرة. قسيمة شراء. شقة عصرية). ولا جرم أنه تعبئة نفسية لأنه يهز النفس ويحرك الوجدان، أو لنقل إنه تهيئة المتلقي إلى المشاركة والقبول بناء على شعور الحرمان الذي يولد عاطفة الرغبة والميل العاطفي.
أخيرا، يتبين لنا أن موضوع مقالنا يتعلق بعملية تواصلية يشارك فيها ثلاثة أطراف: المرسل: وسائل الإعلام السمعية البصرية، وقد وقفنا عند آليات الإغراء التي تستند إليها لتحقيق الربح السريع.
المرسل إليه: يتمثل في المشارك المحتمل في اللعبة، حيث لمسنا تقصيره بل وتواطئه ليصبح لقمة سائغة في أيدي المرسل، كما أنه يستجيب طوعيا لفصول المؤامرة.
الرسالة: هي الطرف الوسيط بين المرسل والمرسل إليه، وهي حاملة في طياتها فصول المؤامرة، ودلائل الإغواء، كما تعج بالعديد من المغالطات التي أدرجنا البعض منها.
في ضوء ما سبق، تتبدى لنا حقيقة الوهم الذي يصادر إرادة الإنسان المقهور، ويسلبه حريته بفعل تضافر مجموعة من العوامل الذاتية والموضوعية المساهمة في إيهامه بالفوز ودفعه بشكل لا شعوري إلى مغالطة سليمة شكلا زائفة مضمونا.
= = =
الهوامش
[1] ابن سينا. الخطابة-الشفاء، ص 31.
[2] المرجع السابق، ص 36.
[3] مصطفى حجازي، سيكولوجية الإنسان المقهور، ص 87.
[4] المرجع السابق، ص 120.
[5] مجموعة من المؤلفين. التحاجج: طبيعته ومجالاته ووظائفه، ص 175.
[6] المرجع السابق، ص 179.
[7] مصطفى حجازي، سيكولوجية الإنسان المقهور، ص 45.
= = =
المصادر والمراجع
أرسطو طاليس. فن الخطابة. ترجمة عبد الرحمان بدوي. الطبعة الثانية، بغداد، 1986.
أبو علي بن سينا: الخطابة-الشفاء. القاهرة: المطبعة الأميرية، طبعة أبريل 1954.
مصطفى حجازي. سيكولوجية الإنسان المقهور. منشورات المركز الثقافي العربي، الطبعة التاسعة، 2005.
مجموعة من المؤلفين. التحاجج: طبيعته ومجالاته ووظائفه. منشورات كلية الآداب، الرباط، 2006.