نوزاد جعدان - سورية
ودفنتُها في القمر
بحثتُ عنها في غوغل وفي وسائل التواصل الاجتماعي. سألتُ الأصدقاء والزملاء عنها ولم أرَ لها أي أثر. كثيرا ما كنت أتخيل لون غرفتها وفرشاة أسنانها وأيّ الثياب ترتديها في المنزل. كنتُ غارقا في تفاصيلها ولم أدر أنها لسوف تفصّل لي كل شيء في حياتي. ولكن الآن بعد ثلاثين عاما منذ آخر مرة رأيتها فيها حين كنت في الصف التاسع، سرى بي شوق لا يخمد أواره.
الآن ونحن في عام 2050 كان ليلا كبيرا على وطن لم يكن إلا صغيرا لنا. الأوضاع كلها مثلما قبل. ولكن يا ترى ما أخباركِ يا نبال؟ ما زال الوطن على حاله. هذا الوطن الذي لا يعرف سوى الكره. ربما لم يجد الحب بتة، ففي سورية كل شيء مباح: أن تقتل أن تغتصب أن تسرق إلا الحب. الحب مكلف جدا ورسوم الزواج باهظة والجمهور مستعد أن يشاهد نشرة الدماء عشرات المرات على أن يشاهد مشهد قبلة بين عاشقين.
الحكومة تكره الشعب والشعب يكرهها ويكره المعارضة والمعارضة تكره الحكومة. معادلات معقدة من الكره تحتاج إلى ألف رسول محبة ليفكك ألغازها. الكراهية في كل مكان على موائدنا وفي سجوننا وفي الحواري. لا أحد يحب الآخر. ولا أجد واحدا سليما إلا ويحمل داء الكراهية. حتى الأطفال لم يسلموا من هذا الداء، فمعظم ألعابهم لا بد أن تحمل مسدسا وأدوات قتل محكمة.
ربما شنق الحب يوما نفسه على إحدى ساريات الوطن التي يفصّلها الخياطون كل يوم، أو رمى نفسه من إحدى الشرفات منذ أن قُتلت نبال.
نعم هذا ما وصلني من موجّه المدرسة على حسابه في فيسبوك الذي ما زال يردد الشعار الحزبي صباح كل يوم ويمليه على الطلبة في تلك المدرسة التي كانت حلما أني كنت طالبا فيها يوما. وما زالت حالي كما هي: أسير على قلق. وهذا القلق يمضي على قلق أيضا. كل شيء حولي في حالة قلق. قلق يبدأ ولا ينتهي. دائما ظننته من هذه الغربة، ولكني أيقنت أخيرا أني بسبب عدم بحثي عنها كل هذه السنين.
نعم في هذه السنين كبُرتْ يداي كثيرا حتى أصبحت لا تلائم جسدي، لذا أتفنن بحفر الأنفاق كخلد من جحر إلى جحر ولكنني أبدا لا أجد المكان الذي يناسبني.
كان عليّ أن أعود إلى نبال مهما كلفني ذلك، أن أهرب من هذا الهدوء والسلم المزعج الذي أحياه. عدتُ إلى الوطن مكرها بسبب الحب. ثلاثون عاما وما زال خبز الوطن مغمسا بالدم، لم يتغير شيء سوى أن حبّي الأول مات.
بحثت عن جثتها في كل مقابر المدينة، وسألت دوائر النفوس عنها ووكالات المقابر المنتشرة في كل حي عندنا، فالمقابر تتكاثر بسرعة في هذا الوطن. وأخيرا وجدتها في المقبرة الإسلامية الحديثة في ضواحي المدينة وذلك بعد محادثات طويلة مع أقربائها من صفحة اتخذتُ فيها اسم فتاة.
وقفت أمام قبر امرأة قتلت بسبب المشاكل الطائفية التي حدثت في المنطقة، ولأنها من غير طائفة أصحاب الأحذية السود. انتظرتُ إلى المساء كي أستخرج جثتها. فتحتُ القبر على مهل بعد أن رشوت حارسها بما يكفي من المال، فما زلت الرشاوى تنقذ أولاد البلد.
حفرتُ كثيرا إلى أن رأيت الهيكل العظمي الخاص بها. أين تينك العينين الخضراوين النجلاوين؟ وأين تلك الخدود الوردية والشفاه المقوسة وكأنها قوس قزح يحمل الكنوز لكل من عشقها؟ أين اختفى الفخذان الممتلئان الجميلان وفوقهما تنورتها الخضراء والسيقان الحلوة؟ كانت تنتعل عليهما بوطا طويلا وتمزح وتقول لنا بكل أنوثة:
"يلا يا شباب افتحوا كتاب الإنجليزي على الصفحة ثلاثين".
ونحن الشباب الصغار لم يكن بمقدورنا شيء سوى أن نتحسس أعضاءنا بهذه الأنوثة الطافحة.
ثلاثون سببا الآن يدفعني لكي أضم عظامك. أمسكت عظامها وتأملتها. ما أسخف الإنسان! حاولت أن أحضن تلك العظام الباردة، أي ما فاتني وأنا في ذروتي. لم تشعل بي أي شهوة جنسية.
أمسكت هيكلها العظمي وتأملته. حاولت أن أتذكر غمازاتها وضحكتها وكل تفاصيلها التي كانت تسحرني. بكيت كثيرا على ذلك الجسد الجميل. ترى ما الذي حصل لها قبل أن تموت؟ هل اعتدوا عليها أم ضربوها بالهراوات أم نحروها وحرقوا جسدها حتى لم يبق سوى هذا الهيكل؟
ترى كيف ماتت؟ ما الذي كان يقلقها قبل أن تموت؟ وما الذي كان يحزنها؟ ترى هل كانت تتذكرني؟ وأنا أفكر بهذه الأسئلة كانت أصابعي تكبر أكثر وأكثر حتى مزقت القفازات التي أرتديها.
لكن لم أتوقع هذا السيناريو. أمعقول حبيبتي تموت قبلي؟
كانت الحياة لنا. كيف هكذا أصبحت لغيرنا؟ كم كنّا كتّاب سيناريو فاشلين في طفولتنا. لم نتوقع كل هذا الجنون أن يحدث لنا.
أمسكت عمودها الفقري وعظام ساقيها ويديها وأنا أتحسس أين الطبشور على يديها. جمعت عظامها ووضعتها في كيس فاخر جلبته معي، أما جمجمتها فحملتها بيدي. خشيت أن تعاتبني وأنا أضعها في كيس كما نضع شاة قد ذبحت مؤخرا.
ولكن أين أدفنها؟ مستحيل أن أدفنها بين كل هؤلاء القتلة في هذا الوطن الذي لا يعرف الحب، وطن لم يبق مكان فيه لدفن جثة، وطن تفنن بكل أنواع القتل.
نعم سأدفنها في القمر. يُقال إن من يدفن أحبته في رمل القمر يعود إلى الحياة بهيئة أخرى، والآن ونحن في هذا العام تهيأت لنا رحلات سياحية إلى القمر في ظل المقابر التي انتشرت في العالم لم يعد مكانا مناسبا للسياحة.
حملتها متعبا. كم كان القمر مخادعا لا سيما وأنه يبدو جميلا من بعيد، بوجهه المشرق ورأسه المدور كطفل مولود حديثا. أما هنا على سطحه فكئيب ومظلم ككاتب لا يتقن سوى نسج الحكايات.
غطيت عظامها برمل القمر وأخطأت في قراءة الفاتحة عدة مرات ولم تفلح معي.
ها أنا الآن في الأرض واقتربت من سني تقاعدي. تمر أمامي نبال ولا تتركني فعلا. تعود لي كل مرة، فكم من نبال رأيتها مرة ترتدي قميصها المنقط نفسه، وأخرى تحمل عيناها الخضراوين، وثالثة تحمل جسدا على نفس قدها.
تعود إلي تقلّم أظافري وتخلع كل القفازات عن أصابعي وأنا أدور في هذه المساءات الكبيرة وأقول للجميع: هي حبيبتي من القمر. عندها أركض على كرة كبيرة كمهرج في هذا السيرك الكبير.
◄ نوزاد جعدان
▼ موضوعاتي